سيّدة النورية: لولاها لخسر الروس الحرب؟
ظهرت السيِّدة مريم العذراء على راهب لبناني واختير لإخبار روسيا بقرار الله وإلا فإن مصيرها سيكون الهلاك.. ما حقيقة دور "سيدة النورية" في انتصار روسيا على النازية؟
"سيِّدة النورية" (سيِّدة النور، أو المُنيرة) دير أرثوذكسي يحمل إسم أيقونية عجائبية، يقع فوق جَرْفٍ صَخري حاد على رأس شقعة بين البترون وشكا، شمال لبنان. فما علاقة السلاف والشعوب السوفياتية به؟
علاقة السلاف بالدير قديمة، مبنية على الإيمان الأرثوذكسي المُشترك، وكان أول مَن دوَّن منهم عن حجِّه إليه الرحَّالة الكييفي فاسيل بارسكي في كتابه "الرحلة إلى الديار المُقدَّسة في الشرق (1723-1747)".
كانت صيدا أولى البلاد التابعة لعرش أنطاكيا التي حلَّ فيها بارسكي، في 3 تموز/ يوليو 1728 بعد رحلةٍ استمرَّت لثلاثة أيام بحراً من الإسكندرية، ثم انتقل إلى بيروت وبعدها سار على قدمية حاجَّاًَ إلى الأديرة المجاورة لطرابلس في آب/أغسطس 1728.
عن حجِّه إلى سيِّدة النورية يقول بارسكي: "في البداية هنا لم يكن ثمة دير أو كنيسة، ولكن انتصب الجبل فقط بكهوفه ومُنحدراته الرهيبة... يُسمِّي البحارَّة هذا المكان الملاذ الآمِن، إذ يُشكِّل المكان ملجأ للسفن من الموت والأمواج العاتية... ظهر نور للناس الذي يعيشون في القرى المجاورة يشبه النار... قرَّر أحد الرُهبان العثور على هذا المكان، وبذل كثيراً من الجهد في سبيل ذلك... ووجد في الكهف أيقونة السيِّدة العذراء مريم النورية وهو تُمْسِك بيدها الطفل الرضيع الرب يسوع، فصلَّى قبالة هذه الأيقونة وقبَّلها واستقرّ في الكهف، وبات ناسِكاً". كما يُخبرنا بارسكي عن بناء الدير وكنيسته، وحياة الرُهبان فيه وأحوالهم.
الحرب العُظمى
بعد 213 سنة على صلاة بارسكي أمام الأيقونة العجائبية، وقف مُصلٍ آخر انقطع عن الناس ثلاثة أيام مُخصِّصاً صلاته للسوفيات في حربهم ضد النازية في ما عُرِفَ بالحرب الوطنية العُظمى (1941-1945). فمَن هو هذا المُصلّي الذي سُمِّي بـ "مُنقذ الروسيا" وما هي قصَّته؟
بدأت الحكاية قبل سنوات، مع مشهدٍ تلفزيوني عابر. يُظْهِر على الشاشة عدداً كبيراً من رجال الدين الأرثوذكسيين من جنسيات مختلفة، بصُلبانٍ ذهبية، في صورةٍ بالأبيض والأسود، وهم يزورون إحدى محطَّات المترو في موسكو السوفياتية، في العام 1948.
ويرافق الصورة تعليق سريع ترد فيه عبارة "وحدة الشعوب الأرثوذكسية". فكيف قُدِّر لذلك الكمّ من رجال الدين أن يخترقوا "جداراً حديدياً" قيل إنه "ضد الدين"؟ وبين تلك الوجوه المُشرِقة يظهر وجه متروبوليت جبل لبنان الراحل إيليا كرم (1903-1969).
لقد تراكمت في الأذهان تجاه ستالين، من فيض البربوغاندا الغربية صوَر نمطية مُكثَّفة تجاه ستالين قد تكون أخفت بعض الملامِح في شخصيِّته. ربما تبرز الوثائق ستالين آخر لم يُقدَّر لنا أن نتعرَّف إليه بعد، وحقيقة أخرى. إلا أن الحقيقة التي لا يرقى إليها الشكّ، أن شعوب الاتحاد السوفياتي السابق دفعت الاحتلال النازي باللحم الحيّ، مُضَحِّية على مذبح النصر بما يزيد عن عشرين مليون شهيد.
ما الذي قاد المُطران كرم إلى "عاصمة الإلحاد"؟
الرواية الأكثر شيوعاً أنه في العام 1941، وجَّه البطريرك الأنطاكي النداء إلى جميع المسيحيين في العالم لمُساعدة روسيا. وبات المتروبوليت كرم "مُصلِّياً خاصّاً" لأجل انتصارها، "فنزل إلىسردابٍ حَجَري تحت الأرض (يقع حالياً أسفل دير سيِّدة النورية) حيث لم يتسرَّب أيّ صوت ولم يكن فيه شيء سوى أيقونة العذراء، فأغلق على نفسه وهو لا يأكل ولا يشرب ولا ينام وقضى ثلاثة أيام في الصلاة".
وقد ظهرت له السيِّدة العذراء "في عمود من النار"، لتُخبِره أنه "اختير لإخبار روسيا بقرار الله، وفي حال عدم تنفيذ القرار يكون مصيرها (أي روسيا) الهلاك".
والمطالب المُحدَّدة التي وجَّهتها العذراء إلى روسيا السوفياتية تلخَّصت بـ "أن تفتح الكنائس والأديرة والمدارس الإكليريكية في كل البلاد، وأن تفرج عن كهنة محبوسين في السجون والمُعتقلات ليرجعوا إلى الخدمة، وأن يتمّ الطواف بأيقونة عذراء قازان العجائبية حول مدينة لينينغراد المُحاصَرَة، وأن تُقام خدمة صلاة أمام أيقونة العذراء في موسكو، وتنقل إلى ستالينغراد، وأن ترافق أيقونة العذراء القوات السوفياتية لغاية الحدود". ذلك بالإضافة إلى أنه بعد انتهاء الحرب كان لا بدّ للمطران إيليا من "أن يزور روسيا ويُخبر الجميع بالحقيقة".
رواية غريبة للوَهْلة الأولى، لكنها ليست بعيدة من الحقيقة. وكلما غُصنا في تفاصيل الوثائق المُتوافرة، كلما كشفنا عن ملامٍح مُخفيةٍ في شخصيّة ستالين، من جهةٍ، والأهمية البالغة للأبعاد الروحية الأرثوذكسية لدى الشعوب السلافية، والتعلّق بالأيقونات المُقدَّسة، من جهةٍ أخرى.
ولذلك أصدرت "الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في موسكو" قبل أعوام كتاباً حمل عنوان "المتروبوليت إيليا كرم والروسيا". ويضمّ الكتاب "مواد عن أحد الرموز البارزين للكنيسة الأنطاكية (كرم) الذي سار على خُطى أسلافه، صديقاً كبيراً لروسيا وللشعب الروسي المؤمِن، مُحْتفِظاً بالوفاء لطابع القداسة الروسية، والذي زاد التصاقه بها هو محبّته لوالدة الإله وأيقوناتها"، وفق المُقدِّمة، التي كتبها الأب فلاديمير سيلوفييف، مُستشار البطريرك الراحِل ألكسي الثاني لشؤون النشر والفن الكَنَسي. ولخَّص الزميل إليان جرجي خبَّاز الكتاب، حين كانت "مطبعة باب توما" الدمشقية.
يبدو أن ما قيل عن أن كرم "اتصل بالسفارة السوفياتية" لإرسال رسالته، غير صحيح. وذلك ببداهةٍ لعدم وجود تلك السفارة آنذاك. إلا أنه قُدِّر لكرم أن يلتقي بأحد كبار الدبلوماسيين السوفيات. متى وأين؟
نتوقَّف مع كتاب "طُرُق ومفارِق الدبلوماسي" (1976)، للسفير السوفياتي في القاهرة نيقولاي نوفيكوف، يقول: "صباح الأول من آب/أغسطس عام 1944، أُبْلِغت أن المطران الأرثوذكسي إيليا كرم طلب تلفونياً أن يلتقي بي.. أجبت أن بوسعي استقباله الساعة الرابعة. في الموعد المُحدَّد شرَّفني صاحب الغبطة بزيارته. وكان هدفها نقل دعوة بطريرك أنطاكية ألكسندر لزيارته".
ويلفت نوفيكوف إلى أنها الدعوة الثانية التي يتلقّاها من البطريرك ألكسندر، فهو التقى به في القاهرة ربيع العام نفسه. وقد توجَّه نوفيكوف وحده إلى الشوير، حيث المقرّ الصيفي للبطريرك، مُتَخَفِّفاً من مُرافقيه اللبنانيين والسوفيات. ويُصرّ كما يبدو، على إبراز توجّهه وحيداً إلى اللقاء، في جملةٍ اعتراضيةٍ في النص.
وقد التقى المطران إيليا مُجدَّداً. ومن المُلْفِت أن النقاش تناول "آفاق الحرب. وأجمع الحاضرون على أنها ستنتهي عام 1944. وكنت معهم في تفاؤلهم".
وتجدر الإشارة إلى أن زيارة نوفيكوف الرسمية، أتت بعد زيارته إلى سوريا، توِّجت باعتراف الاتحاد السوفياتي بالجمهورية اللبنانية. ولم أقف في أيّ من المصادر الكنسية على لقاءي الرجلين.
وحظي نوفيكوف بوداعٍ شعبي كبيرٍ في الشوير، وثَّقته "صوت الشعب" في عددها الصادر بتاريخ 3 آب/ أغسطس 1944. فنوفيكوف، الذي التقى كرم مرتين، لم يلفت إلى الرسالة التي من المُفْتَرض أن ستالين قد تلقَّاها منذ سنتين وأشهر، ولا إلى شروعه بتنفيذ مطالبها قبل سنة واحدة.
لكن ذلك غير مُسْتَغْرَب من دبلوماسي يُدوِّن مُذكَّراته. إلا أن في المُذكَّرات إشارة واضحة إلى ثقة البطريرك والمطران والقساوِسة، الذين اجتمعوا به، أن النصر على الفاشية مُحتَّم.
وعلى الرغم من عدم العثور على أية وثيقة مكتوبة بخط يده توثِّق رؤياه، يظهر أن المطران إيليا، قد استعان بإحدى السيّدات الروسيات (من "المُهاجرين البيض")، لترجمة رسالته إلى ستالين، وأنه تمكَّن من إرسالها إليه. فقد أتت زيارته الأولى إلى موسكو بدعوةٍ شخصيةٍ من ستالين في العام 1947، أي بعد نحو ستة أعوام على إرساله للرسالة، وبعد سنتين على الانتصار الكبير للاتحاد السوفياتي.
وفي العام التالي زارها كذلك للمُشاركة في الاحتفالات بالذكرى الخمسمئة لتأسيس بطريركية موسكو، كما زار لينينغراد (سان بطرسبورغ حالياً) وعلى أية حال، يبدو أن ما طلبته العذراء من السلطات السوفياتية "نُفِّذ بالكامل".
ذلك على الرغم من أن لقاء ستالين بالمطرانين سيرغي وألكسي جرى بعد نحو سنتين من تسلمه للرسالة، حين "وعد بتنفيذ تلك المطالب"، ولم يرد في محضر الاجتماع إسم المطران إيليا، وذلك ما فتح باب الشكّ في جوانب من الرواية.
إلا أن ذلك الشكّ لم يستطع أن يُزَعْزِعها، لا سيما وأن عدداً من الوثائق يشير صراحة إلى أن أيقونة سيِّدة قازان العجائبية قد طافت على الجبهات. وقد مالت كفَّة النصر إلى السوفيات في تلك الأوقات. لا بل اعتبر ذلك البداية الفعلية للنصر. بالإضافة إلى أن المطران كرم "أخبر الجميع بالحقيقة"، في زيارته الثانية.
"منبر الحقيقة"
مطلع أيلول/سبتمبر عام 1943 ظهر العدد الأول من "مجلة بطريركية موسكو"، وربما يُعتَبر ذلك من مؤشِّرات "التسامُح"، الذي تبع لقاء ستالين بالمُطرانين، وتُعْتَبر الشهرية التي استمرَّت بالصدور، أحد أغنى المصادر بشأن زيارتي كرم إلى روسيا.
ففي تشرين الأول/اكتوبر 1947، دعا ستالين كرم وأهداه بعد مشوَرة المطران ألكسي (لاحِقاً البطريرك ألكسي الأول) صليباً و"أنغولبيون" مُطعَّمين بالأحجار الكريمة المُنتقاة من جميع مُقاطعات روسيا، مع نسخةٍ من أيقونة سيِّدة قازان، كعربون شكرٍ.
كذلك قرَّرت الحكومة منحه "جائزة ستالين"، للمُساعدة التي أسداها أثناء الحرب. لكنه اعتذر عن تقبّلها، وفق الأب فاسيلي شفتس في كتابه "عجائب أيقونة سيِّدة قازان"، قائلاً إن الراهِب ليس في حاجةٍ إلى مال. وزار كذلك لينينغراد. وصبيحة 26 تشرين الثاني/نوفمبر أقام القدَّاس الإلهي في "كاتدرائية القدِّيس نيقولاي"، و"وضع إكليلاً باهِظ الثمن على أيقونة سيِّدة قازان في كاتدرائية القدِّيس فلاديمير، وارتفعت أصوات المؤمِنين مُنْشِدة ترنيمة الشفيعة الغيورة".
وفي العدد الأول من المجلة للعام 1948، أنه "بعد وضع التاج (على الأيقونة) ألقى المتروبوليت اللبناني عِظةً شهيرة تكلَّم فيها كيف ظهرت عليه والدة الإله، وأوكلت إليه لنقل ندائها إلى القيادة الحكومية والدينية الروسية".
كما يمكن الوقوف على نواحٍ مختلفة من الزيارتين في أعدادٍ تعود إلى العامين 1945، و1954. إلا أن العدد الأقرب للزيارة، يبقى الأهم كما تظهر مَشاهِد مُتَلْفَزة لزيارة كرم إلى الكاتدرائية في الفيلم الذي أُنْتِجَ في العام 1999، بعنوان "وسمعت صوتاً من السماء"، للمخرج نيقولاي راوجين، والذي تناول حياة المطران إيليا، وشهادات حول الرواية.
والفيلم الذي عُرِضَ غير مرة على الشاشة الصغيرة، يقع في 42 دقيقة، خُصِّص للألفية الثانية على ميلاد المسيح. والمادة التوثيقية فيه قليلة مُقارَنة بالبُعد الروحي، والتركيز على عجائبيّة أيقونتي سيِّدة النورية وسيِّدة قازان. وقد دوَّن كاتب السيناريو ف. بوفالييف، تجربته، في جريدة "ترود" بتاريخ 4 تشرين الثاني/نوفمبر 1999.
ويكون متروبوليت جبل لبنان الراحِل إيليا كرم، بتصريحه على "منبر الحقيقة"، للشعوب الروسية والسلافية، عن رؤياه وتنفيذها من قِبَل ستالين، قد أنهى تلك المهمّة الخطيرة التي أُلقِيَت على عاتقه، من قِبَل السيِّدة العذراء، التي كان، وفق الروايات، لا ينفصل عن الصلاة لها.
ففي العام 1918، وبإلحاحٍ خاصٍ من والدته وإثر شفائه من مرض التيفوس، قابل البطريرك غريغوريوس الرابع حداد، الذي عيَّن له مُدرِّساً خاصاً باللاهوت، بعدما وصلته أخبار وَلَعِه الكبير بالكنيسة، ولا سيما منذ كان في العاشرة من عُمره، حيث كان قد أشاد مزاراً للسيِّدة العذراء، كان يمضي فيه ما لا يقلّ عن عشر ساعات يومياً.
في المُحَصِّلة، وفق الوثائق المُتوافِرة أتمّ المتروبوليت كرم ما دعاه إليه إيمانه العميق. أما الاتحاد السوفياتي فصمد بفضل دماء ملايين المُقاتلين على الجبهات، وبعد أربع سنوات من القتال حقَّق النصر التام على أعتى قوَّة في التاريخ الحديث.