الغرافيتي في تونس: صوت الثورة لم يزل حياً؟
بعد عشر سنوات من الثورة التونسية أين أصبح فن الغرافيتي؟ وما هو مستقبله؟ أهل هذا الفن يحدثوننا.
يُعرَف فن "الغرافيتي"بأنه يُمثّل شكلاً من أشكال الرفض والاحتجاج. خلال ثورة 2011 في تونس، وبشكلٍ عام، انتشرت مختلف فنون الشارع على غِرار الفِرَق الموسيقية التي صارت مشهداً مألوفاً في شوارع تونس العاصمة.
بعد عشر سنوات من الثورة حاورت الميادين الثقافية الشباب الذي كان مُشارِكاً في الحراك في 2011 ومدى استمرارهم في الفن والحُلم بالتغيير.
اتّفقنا على عَقْدِ لقاءٍ مع أنيس المهواشي المعروف فنياً باسم "تيغا" عن تاريخ جمعية "الدبو" في رسم الغرافيتي والموسيقى التي تقدِّمها.
ودلف الحديث عن تجربة "الدبو" والنواة الأولى لتأسيسها وإيمانها بالثورة والحراك الاجتماعي الحالي. و"الدبو" هي إحدى الجمعيات الثقافية التي تكوَّنت من شبابٍ يرسمون الغرافيتي ويعزفون موسيقى الشارع وكانوا ضمن المُشاركين في "ثورة الياسمين".
تضمُّ الجمعية اليوم فنَّانين ومُصوّري غرافيتي تحت عنوان الفن البديل، ويقع مقرّها خَلْف وزارة الداخلية تحديداً، وهو ما يمكن اعتباره تحدّياً كما يذكر أعضاؤها بالقول "أن تكون ضدّ السلطة وتجاورها وتصرّ على مُمارسة الحلم".
قدَّمت الجمعية حتى اليوم العديد من الأعمال سواء في الرسم أو الموسيقى على غِرار مشروع "اركز هيب هوب"، وهي مُزاوجة بين فن موسيقى المزود والهيب، كما تمّ دمج الغرافيتي بالموسيقى في أكثر من مناسبةٍ وحَدَث.
آخر مشاريع الجمعية في الغرافيتي كانت الرسم على جُدران حائط "الشركة الوطنية للكهرباء والغاز" في شارع وسط العاصمة. الشارع كان باهِتاً ويفتقر إلى الجمالية لكن الرَّسامين غيَّروا هويَّته ومنحوه جمالاً.
يتحدَّث "تيغا"، وهو أحد أعضاء الجمعية وفنّانيها، عمّا يُعانيه مُصوِّر الغرافيتي من صعوباتٍ حتى بعد مرور عشر سنوات على الثورة. إذ يُشير إلى "استمرار التضييق من قِبَل السلطة وانعدام الدعم للشباب الذين يضفون جمالية على المدن الكئيبة كتونس هذه الأيام، أمام عودة القَمْع والاحتقان الاجتماعي".
وكما هو معلوم فإن الغرافيتي هي صيغة الجَمْع من لفظ "غرافيتو" الإيطالي، وتعني "الخَرْبَشات" وقد ارتبط هذا الفن بالطبقات الفقيرة والمحرومة ويهدف إلى التعبير عن الرأي والفكر بطُرُقٍ سلمية.
وأضاف "تيغا" أن "سعر الألوان المُسْتَخْدَمة في الرسومات باهظ الثمن وقد لا يتمكَّن الشباب أو الطلبة من اقتنائها"، لكنهم رغم ذلك "يُصرِّون على مُمارسة فن الغرافيتي كفعلِ مقاومةٍ وتعبير"، مُستنكراً ما وصفه بــ "تعطيل الدولة ورفضها لعملٍ فني يُحيي الشوارع الحزينة من دون أن يُزْعِج أحداً".
وأكَّد "تيغا" في حديثه مع الميادين الثقافية أن "فنون الشارع تصبّ في نفس الهدف المُتَمَثِّل في تقديم فنٍ بديلٍ ورؤيةٍ مُغايرةٍ للواقع بعيداً عن النفس التجاري، فهي تعبِّر عن الشباب والفقراء وصوت مَن لا صوت له".
يرى "تيغا" أن "الثورة لم تكتمل، ورسائل 14 جانفي 2011 ما زالت صالِحة إلى اليوم. إذ لم يتغيَّر شيء في تونس إلا هامِش حرية التعبير المُهدَّد بدوره".
في مقرّ الجمعية التقينا أيضاً الشاب أمين ڨرماسي (18 عاماً). سمع عن الثورة وكان آنذاك طفلاً. تحدَّث بحبٍ عن فن الغرافيتي وعن إمكانية التغيير ولو بعد حين، بما اعتبره "لغة جديدة".
وروى تفاصيل الصعوبات والعراقيل التي تعرَّض لها مصوَّرو الغرافيتي في آخر مشروعٍ لهم وكيف مازال يُنْظَر إلى هذا الفن نظرة احتقار.
واللافِت أن الأجيال الجديدة مؤمِنة بإمكانية بناء تونس جديدة ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً رغم وَصْمِها بأنها أجيال "التيك توك" و "الأنستغرام"، في إشارةٍ إلى عدم التزامهم بأية قضية كانت.
وبعد أن خلنا صوت الثورة قد خَفْت، اكتشفنا أن الشباب لم يستسلم وربما لأن الصورة أبلغ من الكلام، فالشباب التونسي الثائِر واصلَ المشوار وعاد يصوِّر على الجُدران ما يتعرَّض له من قَمْعٍ وتهميشٍ اجتماعي واقتصادي.
لذلك ليس من المُسْتَغْرَب أن تجد في كل الشوارع وأغلب محطَّات النقل في تونس، رسومات تزيّن جُدرانها لتروي كل واحدة قصة وقضية. هكذا ترى في آخر شارع الحبيب بورقيبة صورة للمناضل شكري بلعيد (تمّ اغتياله في 2013) أو تعبيرات من قبيل "لا خوف لا رُعب.. الشارع مِلْك الشعب"، و"الشعب يريد إسقاط النظام" و"حَذاري من جوعي ومن غضبي.. فإني إذا جعت آكل لحم مُغتصبي" و"تسقط دولة البوليس".
لا يقتصر دور الغرافيتي في تونس على التعبير عن مواقف من السلطة السياسية، وإنما يُعْتَبَر أيضاً تخليداً واختزالاً للأحداث والشخصيات الوطنية المؤثِّرة، مثل شهداء الحق والكلمة.
كما يلعب هذا الفن دوراً في نحت الحيِّز الثقافي، من خلال إعادة تشكيل صورة تعبِّر عن الثقافة والهوية بشخصيّاتها الفنية الراحِلة من فنَّانين وشعراء وكُتَّاب، سواء برسم صوَرهم أو بكتابة أبياتٍ من أشعارهم، ليكون بذلك هذا الجدار المُزْدان بالألوان جسراً واصلاً بين الأجيال.
مَن يزور تونس اليوم يُلاحِظ أنه لا يمرّ يوم من دون تظاهُرات ومسيرات والرسم على الجُدران إلى جانب الفِرَق الموسيقية المُنْتَصِبة في كل مكان.
المدير الفني في "مركز حقوق الإنسان "بلال الشارني كان من الشباب الحالِم خلال الثورة ومُناضِلاً في "حزب العمال" إبان اندلاعها. خطَّ على الجُدران شعارات كثيرة، ويقول مُسْتَحْضِراً تلك الأيام بالكثير من المرارة والحسرة "كانت تجربة جميلة ودُفِنَت".
ويُضيف في حديثه مع الميادين الثقافية أنه لم يعد يؤمِن بالتغيير بعدما عاشت تونس على وَقْعه خلال السنوات الماضية، مؤكِّداً أنه افتقد حماسة تلك الأيام حين كان يكتب على جُدران وسط العاصمة كلمات المُدِّون زهير اليحياوي الذي قتله نظام بن علي سنة 2005 "هل تونس جمهورية أمْ مملكة أمْ حديقة حيوانات أم سجن؟".
بين الرفض والقبول رغم جماليّة الألوان والرسائل، إلا أن البعض مازال يراها عملاً تخريبياً يهدف إلى تشويه الشكل العام للشوارع.
وعَلاوة على شحّ مُبادرات التجميل مازال فنَّانو الغرافيتي يتعرَّضون للمُلاحَقة والتضييق في ظلّ غياب آلية تُنظِّم حركتهم ومشاريعهم.
كان الغرافيتي في السابق حِكْراً على شباب الطبقات الفقيرة في تونس، فاتّخذوا منه وسيلة للتعبير عن أحلامهم وإعلان رفضهم للقَمْعِ وللسياسات الاستبدادية، لكنه أصبح اليوم وسيلة الشباب في التعبير عن أفكارهم الفنية أيضاً، وصار صوت غضبهم عامة.