مرسيل خليفة للميادين نت: جديدي "ديوان العود" وحكايتي مع العود أرويها لكم

بعد غياب الفنان مرسيل خليفة يخصّ الميادين نت بحديث حول ألبومه الجديد، ويروي لنا حكايته مع آلة العود منذ كان طفلاً. فماذا قال؟

  • مرسيل خليفة للميادين نت: جديدي
    مرسيل خليفة للميادين نت: جديدي "ديوان العود" وحكايتي معه أرويها لكم

مرسيل خليفة في عزلته الموسيقية راهناً في أستراليا. منكبٌّ باستغراقٍ كلّي على كتابة "ديوان العود"، "لأنّ الأصوات تقول ما لم تقله الكلمات"، وفقاً لما صرّح به هذا الفنان الملتزم والمبدع في حديث خاص مع الميادين الثقافية.

كثيرون يسألون "ماذا فعل مرسيل خليفة بالعود؟". يتوقون إلى تلمُّس ومعرفة مدى أهمّية ما حقّقه تاريخياً حتى يومنا هذا المؤلّف الموسيقي اللبناني على هذا المستوى من زاويةٍ نقدية وفنّية. بسبب غزارة نتاجه الفنّي من جهة، وبسبب طغيان الجانب الغنائي لديه، خصوصاً عند جمهور الأغنية الملتزمة العريض، والمشغوف بالكلمة المنغَّمة من جهةٍ أخرى. فقد بقي هذا السؤال مطروحاً من دون إجاباتٍ وافية مبسَّطة.  

  • مرسيل خليفة للميادين نت: جديدي
    مرسيل خليفة للميادين نت: جديدي "ديوان العود" وحكايتي معه أرويها لكم

إنّ ما قدّمه مرسيل خليفة للعود عربياً وعالمياً يكمن في إبرازه هذه الآلة ضمن إطارٍ جديد مُظهّراً إمكانيّاتها المستحدثة، وفي تجديد حضورها إبداعياً وإعادة إحياء روحها على نحوٍ جديد يلامس تطلّعات الأجيال الجديدة والآتية خارج إطار التقليد وضمن مفهوم الحداثة غير المنقطع عن التراث العربي المقاميّ والقالبيّ، وصولاً للارتجال المدوَّن أي "التقاسيم" المدوَّنة. هذا المفهوم المغاير بقي حتى الآن موضع نقاشٍ وجدل في حلقات الموسيقى الأكاديمية والعزفية التي تضمّ تيّارات موسيقية وفنية متنوّعة حدّ التباين والتضاد. 

مُنذْ رافقته آلة العود في بداياته مع أسطوانة "وعود من العاصفة" عام 1976، تبدّى اختلافٌ جليٌّ في البصمة الأدائية واللحنية لدى مرسيل خليفة، حتى ضمن إطار المرافقة العزفية المألوفة للعود ووظيفته آنذاك. 

في منتصف مساره عام 1996 كان العمل الفنّي المتقدّم "جدل" الرباعي الآليّ المكوَّن من عودَين وَرِقّ وباص، حيث عمد خليفة إلى تثوير حضور العود ودوره الوظيفيّ في الكتابة الموسيقية للآلة التي منحتها استقلاليةً بيّنة وسطوة، في صيغ استلزمت قدراً كبيراً من الانضباط والإتقان التقني والتمرّس.

  • مرسيل خليفة للميادين نت: جديدي
    مرسيل خليفة للميادين نت: جديدي "ديوان العود" وحكايتي معه أرويها لكم
  • مرسيل خليفة للميادين نت: جديدي
    مرسيل خليفة للميادين نت: جديدي "ديوان العود" وحكايتي معه أرويها لكم

وكذلك الأمر في العزف حيث دوّن أدقّ التفاصيل في مهمّة التناغم. هكذا برز العود في مفهومٍ جديد للمرّة الأولى في العالم العربي. كذلك كان مرسيل خليفة سبّاقاً وطليعياً حين أطلق "كونشرتو الأندلس" للعود والأوركسترا، وصولاً إلى سواه من أعمالٍ متمايزة لا تفقد طزاجتها وبلاغتها على مَرّ الزمان، علماً بأنّ ريشته لا تُضاهى في تدثُّرها بختمٍ فريد يشفّ عن رهافةٍ متقطّرة وبراعة تتأتّى عمقاً عن شغفٍ مصقول وتضلُّعٍ مشرَّع على الاستزادة. 

من دون أن يكون قاطعاً، نراه غالباً على الصُّعُد الموسيقية متمرّداً من الطراز الأوّل على المنمَّط والمنمذَج والسائد والمعمَّم، موائماً بحذقٍ بين النخبويّ والشعبيّ، وبين الثقل والخفة، والبسيط والمركَّب.

لقد تفوّق خليفة في تحويل العاديّ والهامشيّ والمهمَل إلى دهشةٍ تعتري المتلقّي. لغته الموسيقية وثّابة ومجنَّحة مرّت بمراحل عدّة وتطوّرت مكتنزةً في مسارٍ تصاعديّ، وهي تتصف بما يخاطب العقل حيناً ويمسّ القلب أوّلاً في معظم الأحيان. متأنٍّ، حفّارٌ، وغوّاصٌ هو مرسيل خليفة في تنقيبه الفنّي عن الكُنْهِ الموسيقي الكونيّ. 

أبرز إنجازاته تتمثّل في تأسيسه لرؤيةٍ موسيقية مسجّاة بالابتكار والمغايَرة والجرأة المدروسة، وإسهامه في تكوين ذائقة فنّية عربية جديدة، وفي إيقاظ حساسية موسيقية جديدة Sensibilité musicale، بالإضافة إلى أمرٍ جوهريّ يكمن في إثبات سطوع المدرسة اللبنانية للعود التي يمكن اعتباره رائدها بمحاذاة المدرسة العراقية، والمصرية، والشامية. 

  • مرسيل خليفة للميادين نت: جديدي
    مرسيل خليفة للميادين نت: جديدي "ديوان العود" وحكايتي معه أرويها لكم
  • مرسيل خليفة للميادين نت: جديدي
    مرسيل خليفة للميادين نت: جديدي "ديوان العود" وحكايتي معه أرويها لكم

عن رحلته الاستثنائية مع العود منذ علاقته الحميمة بعالم الأنغام والأوتار وحكاية اختراعه آلة بدافع الولع الموسيقي في طفولته، مروراً باكتشافه العود ودراسته الأكاديمية، وصولاً إلى قيامه تباعاً حتى يومنا هذا بالتأليف الموسيقي للآلة وجديده الفنّي، يقول مرسيل خليفة لـ الميادين الثقافية التالي: 

"كان المتبقّي من كرسي الخيزران منسيّاً على "التتخيتة" في بيت أهلي وما إن صادفتُها ذات مساءٍ موحش حتى انساب النغم. كنتُ أستعينُ بخيطان "النايلون" التي يستعملها جدّي لقصبة الصيد وأربطها على دائرة الكرسي، وأُدَوْزِنُ هذه الأوتار على السلّم الكبير وأضع على طرف الكرسي إناءً فارغاً كي يقوّي الصوت الصادر عن الأوّل.

ويضيف: "كنتُ أعزف على هذه الآلة، أغيّرُ السلالم الموسيقية وذلك بتغيير الأوتار وشدّها لتتلاءم مع السلّم الكبير والصغير أو المقامات الأخرى وكل ذلك كان على السمع. لعبتُ بأصابع عشرة لأكتشف قيثارتي الأولى: كرسي الخيزران! كنتُ أرى العود في الصوَر وأحياناً قليلة في التلفزيون وأسمعه في الراديو. بعد حينٍ دخلتْ هذه الآلة الجميلة بيتنا الصغير بعدما كانت آلاتي الموسيقية محصورة بالطاولات والطناجر وعلب الحليب الفارغة المصنوعة من "التَنَكْ" وكرسي الخيزران. كان عيداً حقيقياً يوم وصول العود مع صديق والدي السيد أنطون الذي كان يعمل سائقاً على طريق بيروت - دمشق... وبعدما انتظرناه أسبوعاً كاملاً ليعود من مشواره الطويل وكدنا نفقد صبرنا بتأخّره، لا سيّما والدي الذي دفع سلفاً 25 ليرة ثمن العود، وصل أخيراً. هكذا انتقلتُ مباشرةً من الضرب على آلاتي الإيقاعية المنزلية المتوفّرة إلى العزف على آلة العود من دون أن أتحكّم بدوزانه".

كان مرسيل ينقر بريشة النسر على الأوتار كيفما وقعتْ ويلامس الوتر مشدوداً كان أم مرخياً... إلى أن أخذته أمّه بعد يومين مباشرةً من وصول العود ليتعلّم العزف عند الأستاذ حنّا الذي كان دركياً متقاعداً، كما يؤكّد لنا:

"كان الأستاذ يعرف القليل عن النوتة الموسيقية، وكان يملك عوداً قديماً صنعه بيده يطبّق عليه ما حفظه من الدرك ومن موسيقى الدرك: "مارشات" عسكرية و"بَشارِف" و"سماعيّات" و"لونغات" تركية... وبعدما قطعتُ مسافة ثلاثة أشهر تلقّفتُ خلالها دروسه الصارمة قال لي: "خلص ما عاد إقدر أعطيك ولا درس؛ هذا ما أعرفه؛ عليكَ متابعة الدروس في المعهد الموسيقي في بيروت".

ويتابع مؤلّف "الكونشرتو العربي": "أذكر يوماً خريفيّاً مع هطول مطرٍ كثيف شكّل إيقاعاً مجنوناً لعاصفةٍ مكبوتة دون أن أفطن إلى ذلك. أخذتني أمّي إلى المعهد الموسيقي في بيروت البعيد جداً عن ضيعتي عمشيت الساحلية في بلاد جبيل".

وقتذاك كان على مرسيل خليفة أن يبدأ بفحص امتحان الدخول أمام اللجنة التي كان يترأّسها الأستاذ فريد غصن.

في صمتٍ كبير عزفَ "سماعي راست" كان قد تعلّمه على يد الأستاذ حنا. "تضرجتُ خجلاً من العزف الأوّل أمام اللجنة"، يبوح مرسيل مستفيضاً: "اقترب منّي الأستاذ فريد وربّت على كتفي قائلاً بثقة: "ستكون عندي في الصف ابتداءً من الأسبوع القادم". لقد ألقى أستاذي العود بين يديّ طوال أربع سنوات إلى أن أقعده المرض. وبدأتُ مذّاك أكتب الألحان: مقطوعات على قوالب "البَشارِف" و"اللونغات" و"السماعيات" ونشرتُها لاحقاً في كتاب "السماع" و"جدل" في خطوة جريئة وجديدة في آن. كتبتُ "رباعي العود"، "تقاسيم" برفقة الإيقاع و"الباص"، ومقطوعات كثيرة تصويرية راقصة: "البحَّارة"، "رقصة العروس"، "خيام"، وسواها، وصولاً إلى كونشرتو العود مع الأوركسترا. في كل هذه المؤلّفات حاولتُ مراجعة أساليب الكتابة لآلة العود وتقنية العزف ودرس مختلف الأشكال المحتملة لتطوير هذه الآلة، سواء تعلّق الأمر بالمحافظة على شكل العود أو استلزم عمليةَ تجديدٍ باتّجاه ولادة عائلة للعود".

يعتبر صاحب "أحمد العربي" أنّ الجديد في آلة العود مرّ في كل طريقٍ وفي تاريخ تطوّر الآلة بذاتها: "زرياب كان جديداً في عصره، ومحيي الدين حيدر، ومحمد القصبجي كذلك، وجميل بشير، وأستاذي فريد غصن، وصولاً إلى يومنا هذا". 

يذكر خليفة أيضاً أنّ صوت العود قد استدرجه منذ الصغر، فكان يطيع الصوت ويركض باتّجاهه عائداً إلى عمشيت بيدين عاريتين على أوتارٍ عامرة بالرغبة في التحليق. 

على طريقته يعبّر مرسيل خليفة عن عشقه للعود وصولاً إلى عمله الفنّي المرتقب: "كنتُ أعدّ سنواتي على الأصابع وأرتّبها على هوى الأوتار، كنتُ أستعجل عاماً جديداً كي أكبر أكثر. وجدتُ في العود شهيّتي فأدمنتُ عليه ثم تأبّطتُ عودي وموسيقاي وأغنياتي وسافرتُ إلى مدنٍ بعيدة وقريبة... كانت الأحلام تدفعني إلى الحياة والبلاد تدفعني إلى بئر الخيبة. أمّا اليوم، فأسلّم نفسي لإيقاعي الداخلي ويغريني ذلك بلعبة ترصيف نوتات "ديوان العود" الجديد الذي أعدّه حالياً".

يفصح خليفة عن رأيه باتّجاهين يهدّدان العود والكتابة الموسيقية وهما السلفية المفرطة في إنكار التطوّر التاريخي، والفوضى العبثية التي تقترح على العود باباً واحداً للمعاصرة وهو أن ينقطع عن تاريخه مثلاً أو أن يختار شكلاً محدّداً ونوعاً محدّداً، ويعتبر أنّه ساهم ربّما في خلق توازن بين الاتجاهين.

ويختتم مرسيل خليفة حديثه مع الميادين الثقافية: "في التمرين الأوّل للعود الذي كتبتُه عندما كنت طالباً تأرجحت النوتات بين الحلم والطيف. لقد جمعتُ ما بعثرته الأيّام وأكملتُ الطريق لتلسعني ريشة العود. عودٌ بلا حدود أروّضُ نبرته على التحليق بعيداً. أخلو بالوتر مُذْ كنتُ أرتكب أخطائي التي شكّلت فعلَ مشاغبة ونزعة حادّة للإفلات من القطيع. أنظر اليوم إلى شاطىء تلك الأيام وما زلتُ أسعى لإيجاد نبرة جديدة مع عملٍ جديد بعنوان "ديوان العود". أسهر على وقع رنّاتٍ أذرفها وأطير في صهيل الذاكرة وأزداد حبّاً في الحب كاللهب المتضرّم يرتجف مع الريشة في عزلة الأيام الصعبة. إنه عملٌ ربما سوف يدع مجراه يتدفّق ولا شيء يمنعه. لم تهدأ الريح والمطر الهاطل يجعّد اللقاء الأوّل في المعهد الموسيقي. لكن اليوم في انسدال المغيب وفي المنفى البعيد، تسحرني نغمات تغرق في صدر العود".