عن "مدن الملح" وعبد الرحمن منيف في ذكراه
أعماله تجسد الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي العربي، وسحبت منه السعودية جنسيته. تعالوا لنتعرف إلى عبد الرحمن منيف في ذكرى رحيله.
لا بدّ للباحث في شأن الرواية في الأدب العربي الحديث من أن يتوقّف طويلاً عند الكاتب "العربي" عبد الرحمن منيف. ونضع "العربي" بين قوسين عن قَصْدٍ لأن صفة "العربي" هي وحدها التي تليق به. ذلك أن أعماله الأدبية الرائعة كانت تغطّي طيفاً واسعاً من البلاد العربية في آسيا.
من "شرق المتوسّط " و"سيرة مدينة " و"أرض السواد" وصولاً إلى "مدن الملح"، جسدت أعماله الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي العربي بكل أزماته وتشعباته.
وعدا عن مواضيع أعماله، فإن صفة "العربي" هي أكثر ما يناسبه من ناحية شخصية! فهو من نجد في جزيرة العرب ولكنه ليس سعودياً (ٍسُحِبَت منه الجنسية السعودية)، بل ربما لم يعشْ في بلده الأصلي قط!
وُلِدَ عام 1933 في عمّان ونشأ فيها يتيماً بعد أن توفّى أبوه وهو طفل. ليس هناك الكثير من المعلومات عن والده وأسباب علاقاته (الوثيقة) مع بلاد الشام والعراق.
بعد انهائه لدراسة الثانوية في عمّان أخذته أمّه العراقية (وهناك مَن يقول أن جدته لأمّه هي العراقية) إلى بغداد سنة 1952 حيث استقرّ هناك طالباً في جامعتها يدرس في كلية الحقوق.
لكنه سُرعان ما تعرّض للطرد من العراق على يد النظام الملكي سنة 1955 (بُعيد توقيع معاهدة حلف بغداد) بسبب نشاطه السياسي (انضمّ إلى حزب البعث العربي الاشتراكي) فانتقل بعدها إلى مصر ليتابع دراسته في جامعة القاهرة.
وبعد تخرّجه سافر إلى يوغوسلافيا سنة 1958 وحصل على الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة بلغراد سنة 1961. عاد منيف بعدها إلى سوريا ليعمل في قطاع النفط ومن ثم إلى بيروت حيث اشتغل في الصحافة.
وفي العام 1975 رجع إلى العراق حيث تولّى مسؤولية تحرير مجلة "النفط والتنمية" وبقي فيه إلى 1981 حين غادره (بسبب مُعارضته للحرب العراقية الإيرانية ولحُكم صدَّام حسين) إلى فرنسا. وفي العام 1986 عاد إلى سوريا حيث بقي فيها إلى أن توفّى عام 2004.
هكذا كانت حياة الأديب النجديّ تنقّلات متواصلة في بلاد الشام والعراق ومصر، تخلّلتها فترات في أوروبا من دون أن يكون لوطنه الأصلي (تعود جذوره العائلية إلى منطقة القصيم في السعودية) منها نصيب. فمعارضته الصلبة والمبدئية لنظام آل سعود بقيت معه إلى آخر يوم في حياته.
يروي الصحافي الكويتي نجم عبد الكريم أنه في أواخر عمره، وعندما أصيب بالفشل الكلوي أرسل له الأمير عبد الله بن عبد العزيز مَن يعرض عليه العودة إلى السعودية مع وعدٍ بالعفو عنه بل والرعاية والعلاج، لكنه رفض رغم المُعاناة وضيق الحال وفضّل البقاء في دمشق إلى أن مات فيها، وقد أوصى زوجته بألا تقبل أيّ عرض لدفنه في السعودية.
وقبل ذلك كان قد رفض عرضاً من الأمير عبد العزيز بن فهد بتحمّل نفقات إرساله للعلاج في أية دولة في أوروبا.
ويقول نجم عبد الكريم إن منيف رفض حتى تسلّم مبلغ نقدي كبير أرسلته له جهات في السعودية من خارج العائلة الحاكمة، وقال لمَن جاء ليعطيه المبلغ في المستشفى إن هذا المبلغ هو محاولة لشرائه، وهو يأبى أن يبيع نفسه!
هذه المواقف الحادّة من النظام الحاكم في السعودية ليست مُسْتَغْرَبة من الرجل الذي كتب "مدن الملح"، بل المُسْتَغْرَب سيكون لو أنه قبِلَ عطاياهم وعادَ وتاب. فسلسلة "مدن الملح" هي بلا شك أعظم وأهمّ عمل أدبي/تاريخي عن السعودية ومجتمع نجد والحجاز في القرن العشرين.
إنها عملٌ ملحميّ حقيقي يتكوَّن من حوالى 2500 صفحة كتبها عبد الرحمن منيف ما بين 1984 – 1989 في خمسة أجزاء سمّاها "التيه"، "الأخدود"، "تقاسيم الليل والنهار"، "المنْبَتّ" و"بادية الظلمات".
قراءة "مدن الملح" تحتاجُ إلى نََفَسٍ طويل، وإلى تركيزٍ وانتباهٍ شديدين. عنوان الرواية مُعبّر وناطق بما يكفي. هذه المدن هي من ملح، إذا هطل عليها المطر فإنها ستنهار من دون شك. إنها مدنٌ شاسعة ببناياتٍ شاهقة وشوارع ضخمة وبنية تحتية رفيعة، لكنها مُصطنعة وليست حقيقية، بلا عُمق ولا جذور. إنها دول من إنتاج مقاولين وأجانب ومُنتهزي فُرَص قبضوا ثمن شغلهم نقداَ وسَلَفاً.
تناولت "مدن الملح" مجتمع الجزيرة العربية، وبالذات نجد والحجاز، قبل اكتشاف النفط، وهو الذي كان يعيشُ في بيئةٍ متواضعة وبحياة جد بسيطة. سبّبَ اكتشافُ النفط تغييراً جذريا ًفي البلاد، وأدّى إلى تحوّل قِيَم المُجتمع بشكلٍ مُخيف ومُتسارع. الصدمة حدثت بعد أن جاءت الشركات الأجنبية وبدأت تشيّد مراكز لها في موران (وهو الإسم الرمزي الذي اختاره منيف لبلد روايته) من أجل مشاريع الاستثمار واستخراج النفط.
كانت تلك الشركات تضمّ في صفوفها رجالاً بيضاً ونساءً شقراوات (شبه عاريات!) خلافاً للقِيَم السائدة. وضع منيف في "مدن الملح" شخصية استثنائية، وهو متعب الهذّال، الذي كان حضورهُ مكثّفاً في الجزء الأوّل من الرواية، وهو شخصية أقرب إلى الحلم، نظراً إلى القِيَم والمبادئ السّامية التي يحملها، وهو الغاضبُ المُتوجّس بفطرته من الآخر الأجنبي، والذي دافع وبشدّة، عن أصالة المجتمع؛ رافضاً الاستثمار الأميركي، ومُعتبراً أن النفط صار نقمة وليس نعمة.
وقد أبدع منيف وتألَّق وهو يصف نهاية متعب الهذّال في الصحراء التي خرج إليها بصمتٍ رهيبٍ وحزنٍ تاركاً خلفه الأهلَ والولد، رفضاً لما يجري ويأساً مما رآه من تخاذل أهل قريته.
تحدّثت الرواية بالتفصيل عن ثلاثة ملوك: خريبط وخزعل وفنر، وصفاتهم تنطبق تماماً على نفس الملوك الذين حكموا في تلك الفترة (عبد العزيز، سعود وفيصل). وانتقل عبد الرحمن منيف في أجزاء روايته الخمسة من ساحات المعارك التي خاضها السلطان خريبط لتوحيد الجزيرة العربية وتثبيت حكمه فيها إلى مخادع نسائه وصراعاتهن وتأثيراتها على علاقات الأبناء وتنافسهم على السلطة.
وانتقل من القصور ودهاليزها وحكايا الخدم والعبيد إلى حياة البُسطاء من أهل البلد المأخوذين بالتحوّلات السريعة.
وشرحت الرواية تفاصيل انقلاب فنر على أخيه خزعل واستيلائه على الحُكم، وكيف تحوّل "الملك" خزعل، صاحب الجاه والهيلمان، إلى منفيّ تعيس في ألمانيا (التي جاءها لقضاء شهر عسل مع عروس جديدة) يثير الشفقة وهو غير مُصدّق لما جرى ويعيش أحلام اليقظة بأن "رجاله" سوف يعيدونه إلى البلد وعندها سوف ينتقم ويعاقب كل الخوَنة الذين ناصروا أخاه الغادر!
وكم كان رائعاً عبد الرحمن منيف وهو يغوص في أعماق عقل السلطان خزعل ويكشف عن هواجسه وطريقة تفكيره وأوهامه.. وكأنه كان هو!
ومن الشخصيات الرئيسية في الرواية "الدكتور صبحي المحملجي" الذي هو طبيبٌ شاميّ جاء طمعاً في الثروة في بلاد الفرصة الناشئة واستطاع بذكائه ودهائه الوصول إلى "العود"، وهو المُصطلح الذي يستعمله منيف للإشارة إلى الملك، وصار شخصاً لا يستغني عنه السلطان خزعل يوماً واحداً بعد أن أصبح كاتم أسراره الصحية ومزوّده الرئيسي بالمقوّيات الجنسية.
وبحُكم العلاقة الخاصة جداً هذه أصبح "الحكيم" من أهم الشخصيات في السلطنة وأكثرهم نفوذاً وثراءً، قبل أن تتم الإطاحة به على يد الأمير/السلطان فنر الذي اعتبره من رجال أخيه المخلوع.
ولكن إبنه "غزوان"، الذي تعلّم في أميركا، تمكّن من تجاوز أزمة أبيه وتابع المسيرة وصار من أثرى الأثرياء بعد أن دخل في شراكات مع أمراء العهد الجديد وصفقات سلاح وسمسرة.
كان غزوان يضع نُصب عينيه دائماً نصيحة أبيه الحكيم: الوطن، يا غزوان، ليس البلد الذي تعيش فيه، ولا الأرض التي ولِدتَ بها. الوطن، يا غزوان، هو القرش الذي في جيبك.
اختلفت آراء الباحثين حول مَن يكون صبحي المحملجي في الحقيقة، فمنهم مَن اعتبره محمّد خاشقجي، ومنهم مَن قال إنه كمال أدهم، أو رشاد فرعون. وربما يكون هو كل هؤلاء مجتمعين. ولكن آراء الباحثين لا تختلف في أن "مدن الملح" مثّلت نقلة نوعية في السرد التاريخي الأدبي وخلَّدت الأديب المُبْدِع عبد الرحمن منيف الذي قال:"وإذا كان لكل قريةٍ ولكل مكانٍ ذاكرةٌ وقلب، فإنّ المدنَ الكبيرة ، خاصة التي تتكوّن وتتغيّر بسرعة، تفقد ذاكرتها وتتعلّمُ القسوة بإتقان".