نيتشه شاعراً وموسيقياً
للفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه جوانب لا يعرفها كثيرون وهي أنه كان يكتب الشعر ويؤلف الموسيقى.. فهل يضاهي شعر نيتشه وموسيقاه فلسفته؟
للفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه (1844- 1900) المثير للجدل في الأوساط الفلسفية والثقافية والنقدية النخبوية، الذي تحدّث عن "إرادة القدرة" و"العَوْد الأبديّ" و"الفوق- إنساني"، جوانب أخرى لا يعرفها كثيرون راهناً.
حتى من باب الاختلاف معه أحياناً كثيرة، تفتتن في نصّ نيتشه بمنسوب الأدب العالي وجرعاته التي تشكّل طاقةً دينامية ساحرة وقوّة جذبٍ، وصولاً إلى الشعر الذي يتبدّى إنْ بصورةٍ مباشرة أو مستبطنة من خلال الشعريّة Poétique بمفهومها الحديث التي تتسلّل إلى جُمله بشكلٍ تلقائيّ وانسيابيّ طبيعيّ كماءٍ يترقرق متدفّقاً من الجبل، لا سيما في كتابه الشهير "هكذا تكلّم زرادشت" الذي عَدَّهُ "كتاباً للجميع ولغير أحد".
إلى جانب نيتشه الشاعر، هناك أيضاً نيتشه الموسيقيّ، علماً بأنّه ألّف مقطوعات موسيقية عدّة تستحقّ أن تكون معروفة في يومنا هذا.
تلك المناحي الفنية تلقي ضوءاً على زوايا أخرى في شخصيته وتؤكّد على الجسور والروابط بين نيتشه الكاتب المتعدّد والمتنوّع الذي ألّف "ما وراء الخير والشر- تباشير فلسفة للمستقبل" و"هذا هو الإنسان" و"مَوْلد التراجيديا" وسواها، وبين نيتشه المؤلّف الموسيقي الذي ارتأى أن يكون ناقداً أيضاً.
في هذا الإطار لا يفوتنا التأكيد على أنّ الشعرَ يندرج عموماً في خانة الفنّ وفقاً للفرنسيّ أبولينير (1880- 1918) وبول إيلويار (1895- 1952)، والروسيّ ليو تولستوي (1828- 1910) المعروف عالمياً بوصفه روائياً ودراماتورجياً وإستِطيقياً وأخلاقياً مفكّراً بالتضامن الإنساني وبمعنى الفنّ. هكذا نرى نيتشه فنّاناً صهّالاً يكتب، وكاتباً يتفنّن متفلسفاً بجموح.
فيما يتجلّى فنّه الشعريّ في سياقاتٍ أشدّ نثرية يبرز أيضاً في هيئة قصيدة. في فصل "بين فتاتين من بنات الصحراء" على سبيل المثال في "هكذا تكلّم زرادشت" الذي ترجمه عن الألمانية علي مصباح (دار منشورات الجمل) ينصبُّ شعر نيتشه دُفقةً: "وها أنا أجلس الآن/ داخل هذه الواحة الصغيرة/ مثل حبّة تمر/ سمراء، حلوة، مكتنزة ذهباً/ تحنّ إلى فم فتاة/ بل أكثر من ذلك إلى أسنان أنثى يافعة/ بيضاء، باردة، قاطعة: إذ تلك/ هي التي تهفو إليها قلوب كل التمور المتوهّجة. سلاه!/ شبيهاً بهذه الثمار الجنوبية/ أستلقي هنا، ترفّ حولي/ حشرات مجنّحة صغيرة/ تلهو متراقصة/ وأحلام وخواطر أصغر حجماً/ أكثر حمقاً وأكثر خبثاً/ محاطاً بكما، أنتما/ أيتها الفتاتان؛ القطّتان الصامتتان المليئتان أسراراً وألغازاً: دودو وزليخة/ - مستهولاً، كي أشحن حشداً من الأحاسيس في عبارة واحدة: (ربي اغفر لي هذه الخطيئة اللغوية)/ أجلس هنا مستنشقاً أطيب الهواء/ هواءً فردوسيّاً بحقّ/ هواءً خفيفاً مشعّاً، مطرّزاً بالذهب (...)".
لا تخلو شذراته من الشحن المبتدع والدفع الحماسيّ المؤسلَب ذي العصب المشدود كما يتبدّى في فصل "نشيد آخر للرقص" من الكتاب عينه: "واحد! إنتبه أيّها الإنسان/ إثنان! بِمَ يُحدّث منتصف الليل العميق؟/ ثلاثة! لقد نمت، لقد نمت/ أربعة! من حلمٍ عميقٍ أفقْتُ:/ خمسة! عميقٌ هو العالم/ ستة! وأعمق ممّا كان يظنّ النهار/ سبعة! عميقٌ ألمه/ ثمانية! والغبطة- أعمق من آلام القلب:/ تسعة! مرّ واندثر! يقول الوجع/ عشرة! لكنّ كل غبطة تريد الخلود/ إحدى عشر! خلوداً عميقاً؛ عميقاً تريد./ إثنا عشر".
هكذا يبرز نيتشه هنا على اعتباره مجدّداً في لغةٍ مبتكَرة يتخلّلها لَعِبٌ وجريانٌ ووثبٌ وتحليقٌ ومباشريةُ المدلولات أحياناً، علماً بأنّ لغته مكتنزة عموماً وتتخفّف غالباً من روح الثقل وهي مكتظّة بتأثيرٍ مغناطيسيّ. لا بدّ من الإشارة في هذا السياق إلى أنّ القصائد الكاملة لنيتشه قد ترجمها إلى الفرنسية Georges Ribemont Dessaignes وهو كاتب وشاعر ودراماتورجي ورسّام فرنسي.
أمّا على الصعيد الموسيقي، فتتمظهر أمامنا لائحة طويلة من مؤلّفات فريدريش نيتشه نذكر بينها على سبيل المثال: "سوناتا"، و"Ermanarich القصيد السمفوني- للبيانو 4 أيادٍ"، و"إفتتاحية لأوركسترا الوتريات"، و"ميسّا"، وHeldenklage للبيانو، و"حركة للرباعي الوتري"، وPhantasie، وPresto، و"فراغمان- بيانو"، وSchluss eines Klavierstücks...
قارىء نيتشه لا ينسى قوله الأشهر في العالم عن الموسيقى: "لولا الموسيقى لكانت الحياة غلطة".
من هذا المنطلق يمكن اكتناه علاقته العضوية بالموسيقى حيث حفر أثره في عالَم الأنغام ولم تحقّق مقطوعاته الموسيقية الأصداء عينها التي أحدثتها فلسفته وآراؤه النقدية الناريّة منها والهادئة بالتوازي مع أدبه وشعره الذي شكّل علامةً.
هكذا بقي نيتشه وفياً لشغفه الحيويّ الكبير المتمثّل بالموسيقى. في كتاب "هذا هو الإنسان" كتب نيتشه للصفوة من المستمعين عمّا يبتغيه من الموسيقى: "أريدها بهيجة وعميقة، أن تكون فريدة من نوعها، جذلى ورقيقة" مستكملاً بالشعر: "واقفٌ إلى الجسر/ في المساء الملتحف بالظلال./ من البعيد تتناهى أغنيةٌ إليَّ/ قطرات ذهبية تنساب/ فوق السطح المرتعش للماء./ جناديل، أضواء وموسيقى/ سكرى تسبح باتجاه الغروب.../ روحي صوتُ كمان/ يعزف لنفسه في تأثّرٍ خفيّ/ في السرّ يغنّي أنشودة جندوليٍّ/ مرتعشة بغبطة زاهية الألوان./ هل استمع إليها أحدٌ؟" (منشورات الجمل- ترجمة علي مصباح).
كثيرون أثّروا بنيتشه على المستوى الموسيقي السمعيّ، لا سيّما الألمانيّ ريتشارد فاغنر (1813-1883) الذي كانت علاقته به إشكاليّة متأرجحة بين الإعجاب الشديد والنفور والارتداد والتناقضات البيّنة، وقد قال عنه نيتشه ذات مرّة: "أظنّني أعرف أكثر من أيّ أحد تلك الأشياء الرهيبة التي يقدر عليها فاغنر وتلك العوالم المتعدّدة الفسيحة من النشوات الغريبة التي لا يملك أحد غيره أن يحلّق في سمائها... أسمّي فاغنر صاحب الفضل الأكبر ووليّ نعمة حياتي" (كتاب "هذا هو الإنسان").
فريدريش نيتشه الذي كتب نقداً للحداثة من دون أن يستثني لا العلوم الحديثة ولا الفنون الحديثة ولا حتى السياسة الحديثة في "ما وراء الخير والشر"، الإنسان المرهف الضاجّ بالتضادات والمفارقات، الجريء حدّ الجنون، الحكيم المحنَّك والطفل الصغير المزاجيّ معاً، الذي قال إنه ليس إنساناً بل "عبوة ديناميت"... لم يستطع أن يجعل لموسيقاه سطوة تضاهي هالة فلسفته ونقده وشعره المؤثّر. مع ذلك، وبسبب شهرته العالمية ومكانته ومقامه تظلّ مقطوعاته الموسيقية تُنبَشُ بين حينٍ وآخر كأنها كنوزٌ بمعزل عن الإلحاح الغائر في السؤال عن قيمتها الإبداعية أو الفنية. تتفاوت أعماله الموسيقية من حيث الأهمية وثمة اختلافٌ نقديٌّ في تقييمها، فهناك مَن يرى أنّ العديد منها لا يخلو من رَوْنقٍ وتلألؤ تصطبغ بهما، وهناك مَن يعتبرها عادية أو حتى أقل من عاديّة.
في المحصّلة فإنّ شأنها يعلو لأنها ممهورة بتوقيع فريدريش نيتشه ببساطةٍ وبطبيعة الحال، وسوف تظلّ تتباين الأذواق إزاء هذه الأعمال خلال القرن الحادي والعشرين وما يليه.