مدين يوسف .. من مصاب حرب إلى مبدع يتحدى إعاقته
رصاصة في معارك ريف اللاذقية غيرت حياته، لكن مدين يوسف قرر أن يتحول من مصاب حرب إلى مبدع.. إليكم حكايته.
آمن بالفكرة التي تقول "طالما العقل يعمل، فلا وجود لإعاقةٍ جسديةٍ تقف في طريق الإبداع ". هكذا تخطى مدين يوسف حدود الواقع متغلباً على إعاقته. وإليكم ما صنع.
في العام 2014 تعرض مدين يوسف لطَلق ناري خلال معارك تحرير كسب بريف اللاذقية أدى إلى معاناته من عجز شبه كلّي. لكنه في حديث لــ الميادين الثقافية، يفصح أن هذه الإصابة كانت "الولادة الحقيقة والحافز الأكبر لبداية جديدة، فتحديت واقعي وأصررت على النهوض لأكون إنساناً منتجاً ومعطاء".
يتحدَّث يوسف عن بداياته فيقول إنه بعد الإصابة بما يقارب السنة والنصف السنة، بدأ يخضع لعلاج فيزيائي بمُساعدةِ شخص يدعى سامر يوسف، الذي جهد في منحه الدافع للوقوف والمشي باستخدام جهاز "الووكر".
وعندها قرر أنه بالإمكان أيضاً التغلب على إعاقته وأن يصنع بإرادته شيئاً مُفيداً نابعاً من محبّة. هكذا تعلَّم في العَزْفَ على آلة العود التي أحبها منذ صغره ولم يكن يمتلك الوقت الكافي لتعلم العزف عليها.
ثم بعدها أخذ بالعمل على إعادة تشكيل الخشب مستخدماً طاولة صغيرة وأدوات يدوية بسيطة داخل المنزل، حيث "بدأت تتكوَّن علاقة محبَّة وعشق لهذه المهنة التي تمنح الصبر وتُعلِّم الإصرار والتحدي، رغم عدم معرفتي بأساسيات العمل التي يجب أن أتَّبعها للحصول على قطعة مشغولة بطريقة جيّدة".
مع مرور الوقت، حوَّل يوسف عمله من الهواية إلى الاحتراف بالاعتماد على فيديوهات تعليمية تُنْشَر على موقع "يوتيوب"، الذي يصفه بأنه "أستاذي الأوَّل"، حيث "تعلَّمتُ من خلاله الكثير وطبَّقت ما كان يُنْشَر عليه وكنت أُخطِىء تسع مرات لأنجح في المرة العاشرة، ولكن لم أستسلم أو أيأس حتى وصلت في بعض الأحيان إلى تطبيق العمل بأفضل مما يُعرَض في الفيديو التعليمي، وأصبحت قادراً على تطوير وتحسين أغلب ما أشاهده من خلاله".
وكما هي الحال في مجتماعتنا، تعرَّض يوسف في بداية عمله إلى الكثير من الانتقاد. ويتذكر قائلاً: "كثيرون أخبروني بأني لن أتمكَّن من الاستمرار في هذه المهنة بسبب إعاقتي.. إلا أن زوجتي وأهلي وقفوا إلى جانبي ودعموني حتى تمكَّنت من مواصلة العمل وصنعت خلال هذه الفترة عدَّة مُجسَّمات خشبية فنية. تمكَّنتُ من بيعها ولاقت استحسان كل مَن رآها. كنت سعيداً بأن عائلتي عادت لتأكل مما أُنتجه أنا".
وقوف عائلته إلى جانبه، منح إبن مدينة الدريكيش الدافِع القوي للانتقال بعمله إلى معرضٍ يستثمره اليوم لتوسيع عمله، فكانت هذه الخطوة بداية العمل الجدّي الذي لصقل تجربته وإثبات قدرته للتعاطي مع الخشب وصنع التحف والمُجسَّمات الفنية، وصولاً إلى إطلاقه معرض (البيت السوري للإعمال اليدوية).
بعد نجاحه الملموس، بات يوسف يتلقَّى دعماً كبيراً من المجتمع المحلي والجهات الحكومية ليتمكَّن من تطوير أدوات عمله ويشارك في العديد من المعارض الفنية.
وحول هذه النقطة يقول: "الدعم الذي حصلت عليه دفعني خطوات كثيرة إلى الأمام وأصبحتُ أعمل أكثر وبدأت الطلبات تصلني على القِطَع التي أصنعها، ودُعيتُ إلى العديد من المعارض التي مكنتني من التواصُل المباشر مع الناس الذين أبدوا إعجابهم واستحسانهم لما أقوم به، حيث كان لي العديد من المُشاركات المحلية كمهرجان التسوّق ومعارض فنية ضمن المركز الثقافي في الدريكيش، بالإضافة إلى معرض دمشق الدولي".
رغم النجاح الذي حصده يوسف، يرغب بوضع جملة "غير مُخصَّصة للبيع" على الكثير من أعماله نتيجة العلاقة الودِّية التي باتت تجمعه بقِطَعه الفنية وخصوصاً التي تُصنَع من خشب الزيتون الذي يعشقه.
والسبب يعود إلى أول قطعة خشبية صنعها على شكل منفضة للسجائر قام بخَرْطِها على الآلة بشكلٍ عكسي "في محاولةٍ لتحدّي نفسي، حيث أخذت مني الكثير من الجهد والوقت وكانت تعني لي الكثير ولم أكن أرغب في بيعها مطلقاً".
تجربةُ يوسف مدين بالتغلّب على إعاقته والقيام بأعمالٍ فنيةٍ وإبداعيةٍ كانت حافِزاً للعديد من الجرحى الذين وفَّر لهم فرصة التعلّم بإعلانه عن رغبته بتدريبهم على ما تعلَّمه، إضافة إلى تدوير الورق والزجاج والرمل والرسم بالنار على الخشب وصناعة قِطَع فنية من التوالف.
هذه المبادرة لقيت إقبالاً كبيراً من عدد من الجرحى الذين قام بتدريبهم وتعليمهم رغم اختلاف إصاباتهم كفُقدان أحدهم لعينه أو يده، إلا أنهم كانوا مُتعاونين ومُجتهدين لرغبتهم بالاعتماد على أنفسهم وصنع شيء يمدّهم بالأمل ويمنحهم الإرادة.
وهنا يُكمِل يوسف حديثه مُبْتًسِماً: "الإعاقة ليست بالجسد. طالما يعمل العقل، فإننا نستطيع أن نُنجز ونُبدع".
لم يتوقَّف طموح مَدْين يوسف هنا، بل يرغب ويسعى جاهداً إلى امتلاك مشغله الخاص الذي يتمنَّى أن يصبح مقصداً لكن مَن يرغب بالتغلّب على إعاقته الجسدية وتحدّي المُستحيل رغم الحصار الذي تُعاني منه سوريا، إلا أنه يحثّ بشكلٍ مستمر على استثمار الطاقات الشابّة ضمن مشاريع تنموية صغيرة توظف خلالها الكفاءات الوطنية لإنتاج ذاتي يخدم الحركة الإبداعية الفنية والثقافية وغيرها.