روجيه غارودي.. رجل المراجعات المستمرة
من الإلحاد إلى المسيحية ثم الإسلام.. ما هي أهم المحطّات الفكرية في حياة المفكر روجيه غارودي؟ ولماذا لم تحتمل باريس مواقفه من "إسرائيل" والهولوكوست؟
عند الحديث عن حرية التعبير في فرنسا الذي ترافق مع الرسومات الكاريكاتورية للرسول الأكرم، غالباً ما يتمّ التطرّق إلى قضية روجيه غارودي مع القضاء الفرنسي على خلفية موقفه من الهولوكوست. وهو ما أتى على ذكره الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله.
ويتمّ تناول قضية المفكر الفرنسي الذي أعلن إسلامية كدليل على ازدواجية في المعايير تطبع مسألة الحرية الفكرية في الغرب وفرنسا على وجه الخصوص، من جهة، وعلى مدى تغلغُل الصهيونية في دوائر القرار في هذا البلد من جهةٍ أخرى. فمَن هو روجيه غارودي وما هي أهم محطّات حياته الفكرية؟
من البروتستانتية إلى الماركسية
ولِدَ روجيه غارودي عام 1913 لعائلةٍ عمالية مُلْحِدَة، اعتنق المسيحية البروتستانتية في سنٍ مُبكرة، وفي عُمر العشرين، وفي سياقٍ تاريخيٍ ميَّزه صعود المدِّ النازي وصولاً إلى تسلمهم السلطة في ألمانيا، انضمّ إلى الحزب الشيوعي الفرنسي وهو لا يزال على إيمانه المسيحي.
ومع هذا الحزب خاض غارودي تجربة سياسية برلمانية بعد الحرب العالمية الثانية، ترأّس فيها لجنة التربية الوطنية في البرلمان الفرنسي مدّة 14 سنة، إلى غاية استقالته سنة 1960، وأخرى في المقاومة ضدّ الغزو الألماني النازي التي كان الحزب الشيوعي واحداً من أهمّ القوى السياسية التي انخرطت فيها.
لم تكن تجربته الشيوعية سياسية أو نضالية فحسب، بل أهَّله تكوينه الأكاديمي والفلسفي في جامعتيّ السوربون وموسكو، ليكون من مُنظّري الحزب الرسميين. هكذا كتب عدّة مؤلّفات وبحوث في الفكر الماركسي وأدار مركز الدراسات والأبحاث الماركسية الشهير.
لكن بعض تلك الأبحاث والمواقف لم تلق قبولاً في أوساط الحزب التي اعتبرتها تحمل "نزعة مُرَاجَعَاتِية" للتاريخ، أو ميولاً يمينيةً، أو خروجاً عن "الخط العام" للحزب. إلا أن القطرة التي أفاضت كأس العلاقة بينه وبين الحزب كانت موقفه من ما سُمِّي "ربيع براغ" والتدخّل السوفياتي فيه، فأُبعِد بعدها نهائياً من صفوف الحزب.
غارودي والإسلام...من الجزائر كانت البداية
كان غارودي واحداً من عناصر الحزب الشيوعي الذين انخرطوا في مقاومة الاحتلال الألماني، لكنه اُعتُقل ونُقل إلى معتقلٍ في الجلفة في جنوب الجزائر الخاضعة آنذاك للحكومة الفرنسية الموالية للنازيين.
وفي المُعتقل قاد رفاقه في محاولةٍ للتمرّد قمعها الجيش الفرنسي بشدَّة. لكن حادثة كان لها الوَقْع الكبير على مساره الفكري، تمثَّلت في رفض بعض الجنود الفرنسيين أوامر إطلاق النار على المتمرّدين، وهو منهم.
وبحسب رواية غارودي فإن رَفْض الجنود الفرنسيين لأوامر قائدهم نَبَعَ من كونهم جزائريين مسلمين حالت أخلاقهم وعاداتهم من دون إطلاق النار على رجلٍ مسجونٍ أعزل، فكان ذلك التصرّف كافياً بالنسبة إليه لنسف الصورة النمطية التي تُلقَّن للفرنسيين في المتروبول عن "الأهالي المسلمين المُتوحّشين" في جنوب المتوسّط الذين غزتهم فرنسا، قبل ذلك بأكثر من قرن في إطار "مهمة تمدينية" لم يكن غالبيّتهم مُؤهَّلين لها.
بقي غارودي في الجزائر لمدّة سنة بعد إطلاق سراحه، تعرَّف من خلال رفيقه المناضل الشيوعي المعروف عمار أوزڨان، الذي انضمّ لاحقاً إلى الثورة الجزائرية، على أحد العُلماء الجزائريين المعروفين محمّد البشير الإبراهيمي.
وفي مقرّ هذا الأخير لفتت انتباهه صورة للأمير عبد القادر، فكانت بداية تعرُّفِه على شخصيةٍ فذَّة قادت مقاومة شرِسة ضدّ الاستعمار، ولكن أيضاً على جانبٍ مُهمٍّ طبع مسار تجربته وعلاقته مع الإسلام في ما بعد، وهو التصوَّف.
لم يتوقَّف الرجل للحظة، في كل محطّاته الفكرية عن التأمّل والتفكير. كما لم يتخلّ عن طبيعته الجدليّة منذ اعتناقه للمسيحية البروتستانتية أو الماركسية أو الإسلام، وقبلها المسيحية الكاثوليكية التي طرق بابها في سياق ما أسماه الحوار بين الأديان والإيديولوجيات. لذا لم يكن اعتناقه للإسلام عام 1982 في المركز الإسلامي في جنيف (وهناك عقد قرانه على سلمى الفاروقي فلسطينية الأصل بحضور الإمام الجزائري المعروف محمود بوزوزو الذي أصبح واحداً من أصدقائه المُقرّبين)، "تقليدياً"، وإنما بنفحةٍ روحيةٍ صوفيةٍ وعقلانية، أراد من خلالها إبراز ما رآه من منظومة قِيَمٍ اجتماعية وفلسفية سامية استطاعت أن تنتشر بسرعة، وأن تُشكِّل حضارة كبيرة، كتب الكثير عن فنونها، تتقاطع مع جوهر أهداف ماركس الإنسانية.
فقد دخل غارودي الإسلام كما المسيحية قبله مُحمَّلاً بماركسيّته، أو بالأحرى بقراءته هو للماركسية، فكان من الطبيعي أن يلقى فكره الديني رفضاً من الأوساط السلفية المُحتَكِرة لفَهْم مبادئ الدين.
غارودي والصهيونية
أطلق غارودي مواقفه من القضية الفلسطينية مُبكراً، فكانت مُتلائمة مع خياراته اليسارية المقاوِمة. لكن ما أعقب غزو لبنان من أحداث وبالأخصّ مجازر صبرا وشاتيلا والتحوّلات الفكرية التي عرفها تدريجاً، قادته إلى مرحلة أكثر جذرية في مُقاربته للصراع مع "إسرائيل "والمشروع الصهيوني.
وأصدر بياناً حادّاً نشره في إحدى أهم الجرائد الفرنسية ضد الغزو "الإسرائيلي" للبنان وما تبعه من جرائمَ بشعة بتغطيةٍ أميركية، لم تستسغه الدوائر الإعلامية والسياسية الفرنسية فبدأت تمارس عليه مختلف أنواع الضغوط ، لكنها لم تُثْنِه عن شنّ معارك فكرية أخرى ضدّ المشروع الصهيوني وداعميه الأميركيين.
أما ذروة هذه "المعارك" فكانت كتاباً أراد من خلاله تلخيص ما اعتبره أساطير مؤسّسة للسياسة "الإسرائيلية"، بل ولتأسيس الكيان الإسرائيلي نفسه، ثلاث منها ذات خلفيّة دينية مستمدّة من الكتاب المُقدّس؛ أسطورة أرض الميعاد، وأسطورة الشعب المُختار، وأسطورة التطهير العِرقي (يوشع)، وأربع حديثة هي أسطورة العداء الصهيوني للفاشية، وأسطورة محاكمة نورمبارغ، وأسطورة ضحايا المحرقة الستة ملايين، وأسطورة أرض بلا شعب.
اعتبر غارودي الحركة الصهيونية التي صاغ فكرها يهود مُلحِدون بدءاً من ثيودور هرتزل، مشروعاً وظَّف اليهودية من أجل تأسيس كيانٍ في فلسطين، هو فعلياً مرتزق وحاملة طائرات نووية لأميركا تتلخّص وظيفته في حماية المصالح الامبريالية الأميركية وتسنده لوبيات مؤثّرة في الداخل الأميركي.
حرية التعبير على الطريقة الفرنسية
لم يفتح الكتاب في فرنسا نقاشاً أكاديمياً ولا وُوجه بردٍّ يدحض "علمياً" ما ورد فيه، بل بحملة إعلامية شرِسة ضدّ ما اُعتبر مُعاداةً للسامية، لينتهى به المطاف في أروقة العدالة الفرنسية. هكذا واجه غارودي الذي حمل السلاح ضدّ الجيش النازي، تِهماً ثقيلة لأنه ندَّد بتوظيف المجازر النازية من أجل التمكين للمشروع الصهيوني، وأسطرتها من خلال المُبالغة في أعداد الضحايا اليهود، فصدر بحقه حُكم بالحبس لمدة عام مع وقف التنفيذ.
حُورِب غارودي من خلال التضييق عليه في الإعلام ودور النشر، لكنه لم يتوقّف عن "المواجهة الفكرية" فأصدر سنة 2004 كتاباً بعنوان "الإرهاب الغربي" نشره في الجزائر، بعد أن رفضت كل دور النشر الفرنسية نشره خشية العقوبة أو التشهير.
رحل روجيه غارودي عام 2012 عن عُمر 99 سنة، وقد ترك لنا شواهِد من خلال مؤلّفاته عن كل محطّات حياته الفكرية، وأيضاً عن الحدود الحقيقية لليبرالية الغربية والفرنسية بالأخصّ.