"بريد القرَّاء".. رقيب على الكُتَّاب وسبب محاولة اغتيال محفوظ
شكّل بريد القرّاء محركاً وفاعلاً أساسياً في الحركة الثقافية، وجاءت بعض رسائله بمثابة نقد ومراقبة للأعمال الأدبية.. فكيف تفاعل معها الكتاب الكبار؟
"بريد القرَّاء" كما قال رونالد كلارك رئيس تحرير صحيفة «سان بول بيونير برس»، هو "بارومتر التفاعُل بين الصحيفة وجمهورها"، ليس ذلك فقط، بل أيضاً ملمحاً مهماً يمكننا من قياس ظروف المجتمع وثقافة أفراده، من خلال تقييم اللغة المُستخدَمة والقضايا المطروحة للنقاش.
ففي فترة عاشت مصر نهضة ثقافية حقيقية، كان بريد القرَّاء مُحرِّكاً وفاعِلاً أساسياً في الحركة الثقافية، فجاءت بعض رسائله مشتبكة مع ما يطرحه الكتَّاب الكبار، مؤكّدة خطأ معلومة أحياناً، ومختلفة مع رأي الكاتِب في أحيانٍ كثيرة، كما جاء بعضها ناقداً ومُراقباً للأعمال الأدبية، إلى الحدّ الذي أدت فيه إلى حدوث مشاكل مع أصحاب تلك الأعمال.
زكي مبارك: أنصفت المُتنبي.. وقارئ يرد: كُتُب التاريخ ليست متون لغة
من الكتَّاب الذين واجهوا نقداً عبر "بريد القرَّاء" كان الدكتور زكي مبارك، والواقعة مُتعلّقة بمقاله (حديث ذو شجون)، المشنور في مجلة الرسالة في 21 حزيران/يونيو 1943، والذي جاء في ثلاثة أقسام؛ يعنينا فيها القسم الثاني من المقال، والذي جاء بعنوان (شُبهة لغوية)، حيث تحدَّث فيه عن اللغة الفصحى، ناكراً على مَن يقصدون بها كل لفظة يجهلها عامة الناس "ولا يُقيم وزناً لهذا الرأي"، والذي ما أن نشر حتى جاءت رسالة عبر بريد قرَّاء مجلة "الهلال" بتاريخ 12 تموز/يوليو 1943، وكانت بتوقيع عبد الله عنتر، مُعترِضاً على بعض ما ساقه مبارك في مقاله.
فمثلاً في ما يتعلّق بفكرة أن "الألفاظ تتقاتل في سبيل العيش كما يتقاتل الناس، فينتصر فريق وينهزم فريق" ذكر مبارك واقعة اعتراض أحد أعضاء المجمع اللغوي على استخدامه لفظة "يستأهل" والتي تعني "يستحق"؛ وردّه عليه في مقال بعنوان "والله تستأهل يا قلبي".
كما ذكر أمثلة أخرى، مثل استخدامه كلمة "شاف" بمعنى "رأى" وكيف رآه النقَّاد من المُتساهلين في اللغة بسبب استخدامه لهذه اللفظة رغم أن الفعل (تشوف) تكرَّر كثيراً في قصائد التشبيب، ورغم أن العرب يستخدمون هذه الكلمة في جميع الأقطار.
وقد خالفه صاحب الرسالة الرأي في أن (شاف) بمعنى (رأى) يستعمل في اللغة، وأن العرب في جميع الأقطار يقولون (شافه) بمعنى (رآه)، قائلاً: "الحق أن العرب العُرباء لم تستعمل شاف بمعنى أبصر لا في شعرٍ ولا في نثرٍ، ولو كان ذلك لنقل إلينا في معاجم اللغة؛ أما الذين سمعتهم يلفظون هذه اللفظة فهم عرب في النسبة لا في اللغة الصحيحة الفصيحة".
وأعاب زكي مبارك النقد اللغوي أيضاً، فحسب قوله "قضى عُلماء البلاغة نحو عشرة قرون وهم يقولون بأن المُتنبي أخطأ فى جَمْع بوق على بوقات، حين قال: فإن يك بعض الناس سيفاً لدول،ة ففي الناس بوقات لها وطبول". وأنه هو مَن استطاع "رفع الظلم الذي عاناه المُتنبي". ولما ساق مُبرّراته في رفع ذلك الظلم، اختلف معها كاتب رسالة البريد أيضاً.
حيث يرى "مبارك" أن (بوقات) هنا جمع لكلمة (بوقة) والبوقة هي كلمة ورد ذكرها في بعض كتب التاريخ "وهي اللفظة الاصطلاحية في موسيقى الجيش العربي"، لكن "عنتر" يقول "إن كتب التاريخ ليست متون لغة يعتمد عليها في إثبات الكلمات العربية. وأضيف إلى ذلك أن لفظة (بوقة) بمعنى مذكر "البوق" لم ترد في كلام العرب بهذا المعنى".
وأيضاً لما شرح الدكتور زكي أن التأنيث هو أحد صوَر التصغير، وجاء بأمثلةٍ على ذلك فقال: "فالبوقة أصغر من البوق، والطبلة أصغر من الطبل، والبحرة أصغر من البحر، وقد بولِغَ في تصغيرها فصارت بحيرة. وما الربعة إلا مُصغَّر الربع بلا جدال". رد "عنتر" قائلاً: "إن الأمثلة التي ساقها لما فيه التأنيث غير صحيحة، مضيفاً : "فليس في لغة العرب (بوقة ولا طبلة ولا بحرة ولا ربعة) بالمعاني التي تريدها, حتى يحتاج الصرفيون إلى التنبيه على أن التأنيث قد يكون من صوَر التصغير. أما لفظ (بحيرة) فهو من الكلمات التي لم تستعمل إلا مُصغَّرة كقولهم: كُميت للفرس، وكُعيت وجُميل لطائرين صغيرين".
إلى الدريني خشبة.. خطأ في الترجمة وسؤال عن "بيرندللو"
المُترجِم والكاتب المسرحي الدريني خشبة، كان له نصيب من رسائل القرَّاء، وتحديداً تلك التي جاءت تعليقاً على مقاله (المسرح في أوروبا بين حربين في ألمانيا والنمسا) المنشور بـ"الرسالة" أيضاً بتاريخ 14 حزيران/يونيو 1943، وهو الثالث من سلسلة مقالاته التي تحمل عنوان (لكي ننتفع بتجارب غيرنا)، والتي استعرض فيها حال المسرح الأوروبي بعد الحرب الكبرى.
وقد نشرت الرسالة الأولى بتاريخ 12 تموز/يوليو 1943، وكان صاحبها لا يقلّ أهمية عن "خشبة" حيث جاء تموقعة من "بشر فارس" الأديب والشاعر اللبناني المعروف، مُعلّقاً على قول الدريني "يتساءل هؤلاء النقَّاد...." والذي جاء في سياق حديث الكاتب عن رأي النقَّاد في المذهب الذي اتّخذته الدراما التعبيرية في "عدم التصريح بأسماء الأعلام في فصولها" وما فيها من تشبّه بالدراما الأخلاقية التي تسبدل فيها أسماء "الفضائل المُجرَّدة والرذائل المُجرَّدة" بأسماء الأعلام.
فقال "يأخذ النقَّاد الإنكليز والفرنسيون على هذه البدعة من بِدَع الدراما الألمانية أنها إحياء لمذهب قديم ثبت إفساده لأن الأسماء المُجسّمة، أي أسماء الأعلام أثبت في الذهن من هذه الرموز التي لا تؤثّر في الجمهور" ثم في فقرة تالية تأتي عبارة : "يتساءل هؤلاء النقَّاد: لِمَ لم ترفع أية دراما تعبيرية_درامة واحدة_ إلى الأفق السامي الذي ارتفعت إليه دراما شكسبير وبن جونسون وسنج شو وسيدان وإبسن ومترلنكوشيكوف وموليير وساردو وسارسيو بيراثدلو وجاكنت وبينافنت إلى آخر هذا الثبت الحافل العظيم من مؤلّفي الدراما الأوروبية الخالِدة من غير المؤلّفين الرمزيين؟".
فيتساءل بشر في رسالته مَن هم "هؤلاء النقَّاد" الذين أشار إليهم "خشبة"، كما يأخذ عليه إقحام (ساردو) بين مَن ذكرهم كنماذج من مؤلّفي الدراما الأوروبية، والذي جاء ذِكره بعد ذِكر (موليير)، ويُبدي دهشته من أن "يُسل (ميترلنك) من الرمزيين".
ويبدو أن بشر فارس كان من متابعي الدريني خشبة الجيدين، فنجده يذكره بما كتبه من قبل عن "بيرندللو" وكيف وصفه عام 1938 بأنه يدخل في "الطور الثاني من الرمزية الباحثة عن حقائق النفس لا عن خفايا العالم" مُتعجِّباً من ذِكر نفس الشخص في هذا المقال من ضمن مؤلّفي الدراما الأوروبية واستبعاده من الكُتَّاب الرمزيين.
الرسالة التانية جاءت مُتعلِّقة بخطأ في ترجمة لفظة "التعبيريين" في المقال المذكور، كترجمة للفظ الإنكليزي Expressionists ، إذ يقول "عبدالله الملحوق" الموقّع على الرسالة، موجّهاً كلامه إلى دريني خشبة: "لقد راعني أيها الفاضل أنكم تكرِّرون لفظة "التعبيريين" في مقالكم كترجمةٍ للفظ الإنكليزي Expressionists واللفظة الإنكليزية جمع لإسم الفاعل من الفعل Express، وإسم الفاعل في اللغة الإنكليزية يُصاغ بطريقتين: الأولى: من الفعل بزيادة ing في آخر الفعل، والثاني: من الإسم بزيادة ist والأولى مطردة، والثانية سماعية، قياسية في بعض الأسماء".
ومن ثم يُضيف "الملحوق" في رسالته أن "الترجمة الصحيحة للجمعExpressionists هي: "المُعبّرون _ المُتكلّمون" لا كلمة "التعبيريين_الكلاميين"، لأن كلمة "تعبيري" كلامي منسوبة إلى كلمة "تعبير Expression" والمنسوب كما تعلمون في القاعدة العامة، ما لحق آخره ياء مشدودة مكسور ما قبلها للدلالة على نسبته إلى المُجرَّد منها للتوضيح أو التخصيص، "والمُعبِّر _المُتكلِّم Expressionist" إسم فاعل من العبارة Expression بزيادة ist في المُثنَّى والجمع".
رسالة قارئ تُشعِل معركة "أولاد حارتنا"
بريد القرَّاء هو كلمة السرّ في محاولة اغتيال نجيب محفوظ في 14 تشرين الأول/أكتوبر عام 1995، إثر نشره رواية "أولاد حارتنا" والتي اعتبرها البعض تعدّياً على الذات الإلهية، حتى وصلت الدعوات إلى تكفير نجيب محفوظ واستتابته، انتهاء بمحاولة اغتياله بطعنه بسلاحٍ أبيض في عنقه.
الحكاية بدأت كما يحكيها الكاتب الصحافي محمّد شعير في كتابه "سيرة الرواية المُحرَّمة" برسالةٍ من شخصٍ يدعى محمّد أمين نُشِرَت في مجلة "المصوَّر"، وقد أرسلها إلى الشاعر صالح جودت، مُحرِّر باب "أدب وفن" في 18 كانون الأول/ديسمبر 1959، وتعدّ تلك الرسالة أول هجوم مُعلَن على الرواية، قبل اكتمال نشرها بأسبوعٍ كامل.
وجاء في رسالة أمين أن: "محفوظ تحدّى مُعتقدات راسِخة، ولهذا يتعذَّر على كائنٍ مَن كان حتى ولو محفوظ نفسه أن يقدِّمها بمُجرَّد كتابة قصة. التستّر وراء الرموز أضعف قضية نجيب محفوظ في مجتمعٍ يجلّ الدين بطبيعته".
ردّ جودت على صاحب الرسالة بأنه لا يستطيع أن يحكم على قصة محفوظ، ولكن بعد وصفه لمحفوظ بأنه "يعدّ قصاص الطليعة عندنا اليوم" أكّد أن "الباب مفتوح لرسائل القرَّاء الذين قرأوا قصة محفوظ".
بعدها كتب يوسف السباعي مقالاً في الجمهورية بعنوان "نجيب محفوظ ولوم القرَّاء" هاجم فيه رسالة القارئ المجهول، بعد 10 أيام من هجوم "المصوَّر"، ويقول شعير في كتابه، إنه "لم تكن في نيَّة السباعي أن يعلِّق -–كما قال- على رسالة جودت لولا أنه سمع أن بعض الجهات ترى وقف نشر القصة. فشعر أن المسألة أكثر من مُجرَّد رسالة قارئ وأن تفكيرنا يجب أن يكون أوسع وصدرنا يجب أن يكون أكثر رحابة".
تبادل جودت والسباعي والقارئ محمّد أمين المقالات والرسائل، ما بين التشكيك في وجود القارئ ونشر عنوانه تفصيلاً، وخلال ذلك وقبله، وحسبما ذكر شعير كانت "المصوَّر" تنشر على صفحاتها على مدى أكثر من ستة أسابيع، رسائل للقرَّاء تتضمَّن تعليقات مادِحة أحياناً، وعنيفة ضد محفوظ وروايته أحياناً أخرى.
وفي النهاية لم يكن محمّد أمين هو مَن حاول اغتيال صاحب نوبل، لكن في النهاية كانت رسالته هي المُحرِّك الأول لتلك المعركة التي آلت إلى ما انتهت إليه.