الملكة فيكتوريا بين الحب والسلطة
كانت صاحبة شخصية قوية وصارمة لكنها كانت أيضاً ناعمة ومحبة وعاطفية.. كيف عاشت الملكة فيكتوريا الحب والسلطة؟
كانت فيكتوريا ملكة إنكلترا (1819-1901) صاحبةَ شخصية قوية وصارِمة مع مَن حولها، لكنها كانت أيضاً ناعمة ومُحبَّة وعاطفية إلى أبعد الحدود.
فقد تحوَّلت بريطانيا في عهدها إلى إمبراطورية قوية في العالم، إلى جانب ذلك كانت فيكتوريا زوجة مُخلصة، وكان واجبها الأول إسعاد زوجها ومنحه أطفالاً؛ وهو استعداد مَكَّنها من عيش أنوثتها في ظلّ زوج يُقدّرها ولا يُفكّر في خيانتها.
تحقّق كل ذلك لفيكتوريا فأصبحت أماً مثالية لتسعة أطفال اعتنت بتربيتهم شخصياً، وهو موقف غير عادي في المجتمع الأرستقراطي آنذاك.
كان زواجها الأول في شباط/فبراير 1840 من ألبرت دي ساكس كوبورغ - غوتا (Albert de Saxe Cobourg-Gotha) الذي ظلّ مُخلصاً لزوجته طيلة حياته ما جعلها مرتبطة به ارتباطاً كبيراً ومحتاجة إلى حُبِّه، وكانت تغضب مساء إذا لم تره أو إذا خرج من الغرفة من دون مُحادثتها. كما كانت تعتمد عليه في جلّ أمور الحُكم وكان يتقن كتابة مُراسلاتها الملكية. وبالرغم من أنه لم يكن يشغل أية وظيفة رسمية أصبح مُستشارَها الرئيس الذي يُسيِّر شؤون المملكة والقريبَ من الشعب.
بعد محاولات اغتيالها المُتتالية اقترح ألبير على الملكة مجموعة من الإصلاحات أهمّها تلك التي خصّت تحسين وضع العمال، ولقيت تلك الإصلاحات استحساناً كبيراً من عامة الشعب الذي أحبّ الملكة واسترجع ثقته فيها.
لكن بعد وفاة ألبرت عام 1861 بحمى التيفوئيد، أصيبت الملكة البالغة من العمر 41 عاماً بالاكتئاب والتَزَمَتْ ارتداء ملابس الحداد حتى وفاتها. إذ لم تستطعِ تَحَمُّلَ صدمةِ وفاةِ زوجِها الأميرِ الذي أحبَّته حبّاً كبيراً، فتدهورت صحَّتها إلى درجةِ أنها فقدت القُدرة على المشي مدة طويلة، وفرضت على خَدم القصر الحفاظ على كل ما يَخُصُّه كما هــو : ملابسه، سريره، جواربه، أحذيته.... حتى موسى الحلاقة تركت كما هي أمام المرآة.
وكانت تتحدّث إلى صورته بصوتٍ مُرتفع كما لو أنه حيّ، وأحياناً تُغلق على نفسها في مكتبه وتقيم حواراً بصوت مسموع وتضحك من حين إلى آخر، وهذا ما أرعب الخدم الذين ظنوا أنها جُنّت.
كتبت فيكتوريا في مذكراتها عن فقيدها: "لن أنسى عزيزي ألبير، شغفه وعاطفته المفرطة أعطياني إحساساً بالحب الإلهي والسعادة التي لم أكن أتمنّى تجربتها من قبل! […]، حقاً كيف لا أكون مُمتنًّة لهذا الزوج! […] كان يدعوني بكل كلمات الحنان التي لم أسمع بها من قبل؛ وكانت سعادتي كبيرة ولا تُصدّق! آه! كانت أيامي معه أسعد أيام عُمري كلها".
لكن ملابسها السوداء لم تُطفِئ مزاج الإمبراطورة العاطفي. فقد عاشت بعد وفاة زوجها مُنعزلة في قلعة وندسور Windsor وكانت على علاقة خاصة برجل اسكتلندي يصغرها بسبع سنوات يُدعى جون براون John Brown ظهر في حياتها بعد ثلاث سنوات من وفاة البير.
لم يكن براون سوى خادمِها لكنها كانت قريبة جدّاً منه، وواظبت على اصطحابه معها إلى اجتماعاتها السياسية، كما كانت تقبل ملاحظاته وسط دهشة كل مَن حولها من رجال الدولة، الذين لم يتجرّأ أحد منهم على الاعتراض على الإمبراطورة أو تقديم ملاحظة تنتقد سلوكها مع الشاب الأسكتلندي.
كان جون براون يُلازم الأمبراطورة كثيراً، وعندما أصيبت في ركبتها حملها ووضعها إلى جانب المصوّر جورج واشنطن ويلسون Georges Washington Wilson ورسّام المحكمة الرسمي إدوين لاندسير Edwin Landseer.
وعلى الرغم من أنه كان يبدو للبعض مُبتذلاً وسكِّيراً، فقد قدّرت فيكتوريا ذكاءَه، وروح الدعابة لديه، وصراحته، ووِدِّيته، وبساطته وتفانيه في خدمتها.
وفي 28 شباط/فبراير 1872، استطاع أن يحمي الملكة من محاولة اغتيال عندما لاحظ شاباً إيرلندياً حاملاً مُسدّساً يقترب من العربة الملكية أثناء مُغادرة الملكة قصر باكنغهام Buckingham لإطلاق النار عليها.
كانت علاقـة الملكة بجون براون قوية جداً لدرجة أن الصحافة تحدّثت عن زواج سرّي. وبعد أن لُقّبت بأرملة قلعة وندسور أصبحت تُدعى "السيّدة براون".
دامت العلاقة السرّية للملكة بخادمها عشرين سنة قبل أن يُصيبها الحظ السيّىء مرة أخرى بموت جون براون عام 1883 وهو في السادسة والخمسين؛ حينها شرعت فيكتوريا الحزينة في كتابة سيرتها الذاتية التي تتحدّث فيها عن رجلها الموثوق به لكن مُستشاريها أتلفوا المخطوط؛ ولم تستسلم فقرَّرت مواصلة كتابة سيرتها.
ففي عام 1884 نشرت المزيد من المذكّرات في كتاب (شَذَرات من مذكّرات حياتنا في المرتفعات Leaves From the Journal of Our Life in the Highland) حيث تحدّثت عن مُعاناة ترمُّلها، ورحلاتها في الطبيعة وصداقتها لبراون، مساعدِها الشخصي وصديقها المُخلص الذي ارتبطت به إلى آخر لحظة في حياته، وتخليداً لذكراه أمرت بوضع خصلة من شعره وصورة له بجوار رداء حَمّام (peignoir/ bathrobe) الأميرِ ألبيرت الذي احتفظت به مُعلّقاً في مكانه مع أشياء أخرى.
أعجبت الإمبراطورة فيكتوريا بالهند وكانت لمدة عقد من الزمن تضغط على وزرائها من أجل تمكينها من الحصول على لقب (إمبراطورة الهند) وتَحَقَّقَ لها ذلك سنة 1876 حينها ازداد شغفها بالهند وبكل ما يُميّز هذا البلد الآسيوي.
في عام 1887 التقت الملكة بأحد الخدم الهنود الذي كُلِّف بخدمتها وتدريسها اللغة الأوردية. بعد مدة وجيزة أصبحت الإمبراطورة مولَعة بخادمها فعيّنته مسؤولاً عن باقي الخَدَم الهنود، الشيء الذي أثار حفيظة العائلة المالِكة التي رأت أن عبد الكريم مُحتالٌ تبوّأ مكانة أكبر منه، لكنه كان تحت حماية الملكة التي تصدّت لكل محاولات إقصائه من القصر.
امتدت علاقة الملكة بعبد الكريم أربعَ عشرةَ سنة وانتهت بوفاتها سنة 1901، واعتبرت هذه العلاقة من أغرب الوقائع التي ارتبطت بالملكة تمّ توثيقها في فيلم (فيكتوريا وعبدول) سنة 2017.
فيكتوريا في الأدب والفن
لقيت سيرة فيكتوريا اهتماماً كبيراً يكاد يكون مُنقطع النظير من قِبَل الأدباء والفنانين؛ فقد تناولت سيرتَها عشراتُ المؤلّفات والأفلام وملأت تماثيلُها عدداً كبيراً من الساحات في بريطانيا وغيرها من الدول التي كانت تحت حُكم إمبراطوريتها.
كان أول عمل فني تناول سيرة الإمبراطورة فيكتوريا مسرحية (الأميرة فيكتوريا) للورونس أوسمان Laurence Housman سنة 1935 التي عُرِضت في بريطانا سنة 1937 تزامُناً مع الذكرى المئوية لتتويج فيكتوريا ملكة على البلاد. ثم توالت المؤلّفات التي تناولت سيرتها بشكل كبير مثل رواية (فيكتوريا) لفوغان ويلكينز Vaughan Wilkins وكتاب (فيكتوريا: 1994) لسينثيا هارود إيجلز Cynthia Harrod-Eagles، كما كُتِبت مدائح شعرية عديدة في الملكة فيكتوريا كتلك التي كتبتها ليتيتيا إليزابيث لاندون Letitia Elizabeth Landon.
أما الأعمال السينمائية والتلفزيونية التي تناولت سيرتها فكثيرة جداً، أولها فيلم (صليب فيكتوريا/1912) لروز تابلي Rose Tapley وآخرها (فيكتوريا وعبدول Victoria & Abdul/ 2017) لدودي دينش Judi Dench .
المصدر: كتاب La reine Victoria- Jacques de langlade