الأرياف اللبنانية تعبق برائحة دبس الرّمان في موسمه
مع مطلع كل خريف تنشغل عائلات لبنانية بتحضير مؤونة الشتاء ومنها قطاف الرمان وتحويله إلى دبس.. تعالوا لنرى كيف تجري هذه الصناعة.
إنه أواخر الصيف، وبداية الخريف، وقد بدأت الفاكهة بالنضوج. اعتاد اللبنانيون في موسمه البدء بتحضير مؤونة الشتاء من مختلف الأصناف، حيث كانت تقلّ فُرَص العمل، ويصعُب الحصول على الغذاء شتاء.
من بين أشهر هذه المواسم، الرمّان، فعابِر القرى والبلدات الريفية اليوم، تجذبه رائحة عصير الرمّان مُتصاعِدة من أبخرتها، وهي تغلي على النار، مُترافقة مع أصوات "تطبيش" (ضرب خفيف بقضيبٍ على قفا الرمّانة).
أواخر أيلول/سبتمبر يجمع المزارعون ثمار الرمّان الحامِض، منهم مَن يعتمده فرصة عمل وجَنْي أرباح، ومنهم مَن يستفيد منه لمؤونته المنزلية.
اعتاد الرّيفيون التعاون على مهمّة فيها من المشقّة ما يستدعي التحلّي بـ "صبر أيوب"، والقُدرة على التحمّل، وتخفيفاً لعبء المهمة، يجتمع أبناء الحارة او الحيّ أو الأقرباء على أكوام الرمّان، ويصنعون منها حاجة كل منهم. فبهذه العَوْنة، يتسلّى الجَمْع فيستطيعون تحمّل المهمة مهما طالت، ويكسرون صعوبتها في آن.
تبدأ العملية بجمع الرمّان بكمياتٍ كبيرة، ويتولَّى فريق قصّ حبّة الرمّان نصفين أفقياً، بينما يعمد الباقون إلى "تطبيش" أنصاف الرمّان على قفاها بقضيبٍ قاس، فتقع الحبّات، وتنسلخ عن القشرة التي تتحوَّل إلى وقودٍ بعد تجفيفها في أشعّة الشمس.
يمضي الفريق نهاره في هذه العملية، وعندما تتوافر كمية من الحبوب، يبدأ عَصْرها، ضغطاً باليد قبل توافر آلات عَصْر، لكن اليوم، تُعْصَر بآلاتٍ تُسرِّع العمل، وتُخفِّف ضغط العَصْر عن العاملين، وتُرمى بقايا البذور مع القشور لتيبس.
إقرأ أيضاً: أبرز فوائد الرمان.. فاكهة الجنة الشهيرة
ساعات وتكون كمية من العصير قد باتت جاهزة، تبدأ عملية الغلي بأوعيةٍ نُحاسٍ ضخمة تتحمّل حرارة النار لفترات غَلْيٍ طويلة، وحرارة عالية، ومن الأوعية نوعان، "اللكن" وهو وعاء لا يزيد عن 20 سنتيمتراً ارتفاعاً، بينما يتنوَّع قُطره بين ال 70 -90 سنتيمتراً، و"الدّست" الأعمق، والأكثر استيعاباً، ويُسْتَخْدَم عند توافر كميات كبيرة، خصوصاً للتجارة، ومتى زادت الكمية، زادت الأوعية، وتمادت الأبخرة بالانتشار لتعبق الأجواء بها على مسافاتٍ بعيدة.
بين القصّ، و"التطبيش"، والعَصْر، والغلي، تستغرق العملية نهاراً وأكثر، وبين تعب المهمّة، خصوصا "التطبيش" الطويل، ومتعة الحصول على عصير الرمان المغلي، ينتهي اليوم بغلّةٍ تُفْرِح القلوب، ويطمئّن الناس على جَنْى تعبهم.
وتجري عملية الغلي وفق معيارين، فمنهم مَن يصنعها للبيع، وبالتالي تقلّ فترة غليها، وتبقى فيها كمية ملحوظة من الماء، وتزيد كميّتها، ومنهم مَن يصنعها مؤونة للمنزل، فيُكْثِر من غليها حتى تشتدّ، وتصبح دبساً، أي سائلاً لَزِجاً، كثيفاً. والفرق بين الحالين هو فارق بسيط في المذاق، من جهةٍ، وهو فرق في الكمية التي توظّف في الطبخة، من جهةٍ ثانية. فارِق يُعطي الحق للدبس أن يكون أعلى ثمناً من العصير.
ونظراً إلى حب الناس لعصير الرمّان، أو دبس الرمّان، عَمَدَ الكثير من المزارعين إلى زرع النصوب بكثرة، فيتّكلون على الموسم دعامة جيّدة ترفد مدخولهم الحياتي.
وتتحدَّث السيِّدة سعاد، من العامِلات في الرمّان العائلي، أن ليتر الدبس يحتاج إلى 5 أرطال (الرطل يساوي ٢ كلغ ونصف الكلغ)، ثمنه 5 آلاف ليرة لبنانية، ما يعني أن القنينة تحتاج 30 ألف ليرة.
وبين الغلي الطويل الذي قد يستغرق ما بين 3 إلى 5 ساعات بحسب الكمية، والطاقة المُسْتَهْلَكة في الغلي والتسخين، وصيانة الأوعية بطليها بالقصدير الذي يؤمِّن سلامتها من تشكّل "الزِنجار" (أوكسيد النحاس) السام، يفترض أن يزداد كثيراً ثمن القنينة (ليتر واحد)، لكن الظروف تُحتّم اكتفاء المزارعين، والمُصنّعين بثمن 70 ألف ليرة، آخذين بعين الاعتبار ظروف الأزمة الاقتصادية.
في إحدى البلدات الريفية الشمالية، تهتمّ عائلة جميل العلي بصناعة الرمّان سنوياً، قسمٌ منه للأبناء والأقرباء، وقسمٌ للتجارة، فتتجمّع العائلة والأقرباء، ويمضون كل موسم الرمّان في تصنيع عصيره ودبسه، ومثلها العديد من التجمّعات في مختلف البلدات الريفية.
وفي مدينة القلمون الساحلية الواقعة جنوب مدينة طرابلس، والتي اشتهرت بإنتاج العديد من الأصناف الغذائية من مُربيات، وماء زَهْر وورد، وزيتون، وسواها، أقام أحد أبنائها عصام القص مشغلاً مُتخصّصا ًبالرمّان، مع العِلم أن عائلات المدينة كانت تصنع دبس الرمّان لمؤونتها الخاصة تلافياً لشراء العصير الذي يمكن أن يُغشّ بأحماضٍ مُصنّعة.
في مشغله الواقع تحت الطريق العام، ثبّت القصّ 5 مراجل ضخمة، وانتشرت فيه أكياس الرمّان الحامض، وتقوم نحو عشر نساء بالعمل فيه، يتولّين القصّ فيه، و"التطبيش"، والتجميع في أوعيةٍ مُخصَّصةٍ للغاية، بينما يتولّى أحد المُعلّمين الرجال العَصْر بمِعْصرة يدوية حوّلت للعمل على الكهرباء، ويتجمّع العصير في برميل، ويتمّ نقله بأوعيةٍ أصغر حجماً إلى المراجل للغلي.
يتمّ غلي العصير بنارٍ موقدة تعمل على الغاز البترولي، بينما كان المزارعون في السابق يعتمدون فضلات الحطب من الأشجار كوقود، والكميّة الكبيرة التي ينتجها القصّ تحتاج إلى نارٍ متواصلةٍ، طوال الموسم المُتراوح بين شهري أيلول/سبتمبر، وتشرين الأول/أكتوبر، ويظلّ الغلي مُتواصِلاً طوال النهار حتى يبلغ العصير لونه البنفسجي.
مشغل القصّ يُنتج زهاء 16 إلى 20 طناً من الدبس، ما يوازي 200 طن من الرمّان، وتُصدَّر الكمية الأكبر منها إلى الخارج، خصوصاً أستراليا ودول الخليج..