المثقفون الأعداء.. لماذا؟
تتواتر على مر الأزمان أخبار العداء بين المثقفين.. ترى ما هي الأسباب؟ وكيف يتمظهر هذا العداء؟
تتواتر على مر الأزمان أخبار العداء بين المثقفين بسبب مواقفهم السياسية وانتماءاتهم الإيديولوجية المختلفة، ومنها الخلاف الذي نشب بين ألبير كامو وجان بول سارتر عام 1947، بعدما أصدر الأول كتابه "الرجل المتمرد" الذي أثار استياء الشيوعيين.
حينها لم يقم سارتر بأى رد فعل علني، لكنه أعلم كامو أن "صداقتهما أصبحت فاسدة وأنه لا يمكن أن يتبع المسار الذى اختاره"، وأصبح القلق والتوتر سائداً بين المفكرَين الوجوديَين، لدرجة أن سارتر نشر مقالاً لفرنسيس جونسون في مجلة "الأزمنة الحديثة" يسخر فيه بدهاء، بل يسب ويشتم كتاب "الرجل المتمرد" ومؤلفه كامو.
لكن صاحب "الغريب" إكتفى حينها برسالة ذات نبرة حادة إلى مدير المجلة (سارتر ذاته) جاء فيها: "لقد تعبت من التعرض للانتقاد من قبل أناس يسعون إلى النجاح بسهولة عن طريق التلاعب بالحس التاريخي"، في إشارة من كامو إلى موقف سارتر من معتقلات "الكولا القسرية".
لم يتأخر جواب سارتر، حيث كتب رسالة أعرب فيها عن خيبة الأمل والأسف التي سببها لهما هذا الخلاف، قائلاً: "عزيزي كامو، كثير من الأشياء تقربنا والقليل يفرقنا، لكن هذا القليل أصبح لا يطاق: الصداقة، هي أيضاً، تنزع لتصبح كُلِّيانيّة".
ومن العداءات الثقافية المعروفة أيضاً تلك التي تمثَّلت بحرب الكُتُب بين كارل ماركس وبيار جوزيف برودون، فبعد أن أعجب ماركس بكتابَي برودون "ما الملكية؟" و"العائلة المقدسة" ومدح أفكاره السياسية والاقتصادية، سرعان ما انقلب عليه في كتابه "بؤس الفلسفة"، ليرد برودون بكتاب "فلسفة البؤس" سخر فيه من أفكار صاحب "رأس المال".
ووصف برودون نظرية ماركس حول الاشتراكية بأنها للحرية الشخصية والجماعية، ومتناقضة معها، واعتبرها بمثابة "دين جديد" يحتم على أنصارها أن يكونوا مطيعين لمبادئها، وخاضعين لمنظريها، ولزعمائها، فاقدةً بذلك لكل مبادئ التسامح والسلام بين الطبقات والشعوب، قائلاً: "إن العمال بحاجة إلى العلم والمعرفة. وسوف يستاؤون منا إن نحن أرغمناهم على شرب الدم".
الأمثلة عن العداءات بين المثقفين كثيرة، وهي تنتشر بين الحين والآخر، لكنها الآن باتت أكثر حدّية مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وتعدد فضاءات النشر، بحيث تحوَّلت تلك المنابر إلى ساحات للقدح والذم والتشهير، والمزاودات، والتخلي عن "الوعي المفروض"، ... وذلك لمجرد الخلاف بالآراء السياسية.
أقفاص العداء!
لا يعتبر الشاعر السوري أحمد اسكندر سليمان الاختلاف أو الخلاف السياسي في حالته الحقيقية سبباً كافياً للعداوة بين شخصين، فكيف يحصل بين مثقفين حقيقيين؟
يقول: "يحدث هذا في مجتمعات مستقرة اجتماعياً وقانونياً وتعليمياً وسياسياً، مجتمعات أنجزت الإجابات على أسئلة مصيرية كسؤال الهوية والعقد الاجتماعي الضابط والمساواة أمام القانون، والتعليم المجاني والضمان الصحي وإمكانية النمو المتواصل، وعملت على توزيع الثروة بشكل عادل من خلال نظام ضريبي يؤكد الإجابات على الأسئلة الأولى كالهوية والعدالة"، مضيفاً: "في هذه المجتمعات يصبح الاختلاف في الرأي غنى ومعرفة إضافية مطلوبة. لن يحدث هذا في المجتمعات المفخخة بالعقائد االدينية، أو السياسية الإلغائية والمبنية على نظام تعليمي يؤسس للخوف والعداء في عالم مكشوف، ويسهل على المركز القوي التحكم بأطرافه اقتصادياً ومالياً ومعرفياً وسياسياً.. نظام تعليمي يختطف الطفولة إلى أقفاص العداء لعدو مفترض والولاء لقوة مفترضة.. نظام تعليمي يزج العقل في كومة النفايات التي تتعاظم سنة بعد أخرى".
ويوضح صاحب "بلاد لا مرئية" أن "الحالة العقائدية" على تنوعها تجعل الإنسان في وضعية قابلة لصناعة الأعداء حتى لو كان شاعراً أو فناناً أو روائياً أو موسيقياً، خاصة "حين لا يتمتع بالغنى الفكري القادر على استقبال وَثَبَات الجهل الحادة، وهو شيء يحدث في حالة السلم، لكنه يكون عاصفاً في الحروب ذات الطابع الأهلي حيث يتعرض كل نسيج للتمزق وكل بناء للتصدع وكل صداقة للتخلع والانهيار".
ويتحدث سليمان عن تجاربه الشخصية في العداء الثقافي: "بداية الأحداث في سوريا كتب شاعر سوري عند ظهور السلاح على صفحته (السلاح للرجال)، وعلّقت: (العقل للرجال وليس السلاح) وكان هذا كافياً لإنهاء صداقتنا. أيضاً روائي سوري طالب المسلحين بقطع الطريق الدولي غرب حلب، ويحدث هذا ويؤدي إلى نتائج كارثية، وطبعاً لا يمكن الاستمرار مع هكذا صديق. والأمثلة كثيرة".
أكاذيب ثقيلة
ويختم مدير صفحة "أيقونات سورية": "بكل الأحوال.. برهن الفضاء الافتراضي على ثقل الأكاذيب التي عاش تحت ثقلها معظم الشعب السوري.. نحن الآن بحاجة لثقافة جديدة تحترم الجميع، نحن بحاجة لدولة قانون ومواطنة، الثروة فيها ملك للجميع، لدولة لا يشعر فيها المواطن بالضعف أمام مسؤول أو رجل دين أو رجل أعمال، لأن التكافل والتضامن الاجتماعي جعله في موقع آمن، من دون خوف على حياته أو على مستقبل أولاده.. نحتاج إلى معرفة كافية بهويتنا المدنية السورية.. نحتاج إلى صداقات لا تبنى في حقول الألغام التي كشفتها هذه الحرب المؤلمة".
من جانبه، يعيد الروائي والشاعر علي عبد الله سعيد العداء الثقافي إلى تحوُّل المثقفين في كثير من الأحيان إلى ما يسميه "أُجَراء أو مُرتَزقة"، موضحاً وجهة نظره بالقول: "في العواصم غالباً. في لعبة المنافع والمكاسب المادية التي يتعيش منها المثقف مرتزقاً. يعتمد المثقفون في نمط حياتهم، على التركيبات الشللية، أو العصابة، أو المافيا الصغيرة. وبناءً على ذلك يؤسسون جبهات، وجبهات مضادة متأهبة للاشتباك السريع. ومعظم هذه الجبهات العصابية ترتبط بالسياسي، الذي يديرها من موقعه ومنفعته في موقعه، ويحركها وينفذها الإعلامي أجير السياسي الرخيص وأداة ترويضه الفتاكه في وسيلته الإعلامية التي تتحول إلى باب الرزق أو الارتزاق الثاني للمثقف ما لم يكن عاملاً في الوسيلة ذاتها".
ويُعيد سعيد أسباب تحول المثقف ذاك لعدم امتلاكه أي هموم وطنية، بحيث باتت همومه فردية بحتة، قائلاً: "لذلك يمكنه ببساطة أن يؤجر ذاته لرئيس تحرير غبي، بالسهولة ذاتها التى يمكن أن يؤجر فيها ذاته للمحتل، وليس للسياسي المحلي العسفي القهري فقط. إنه يدافع عن المحتل بوصفه مُجيراً مُغيثاً لا محتلاً وسخاً، ينهب خيرات البلاد ويولغ في دم العباد".
المثقفون دائماً جاهزون للاشتباك مقابل إثبات وجهة نظر فردية نرجسية كارثية بالمعظم. لذلك يسهل استغلالهم وتجييرهم من قبل السياسي أولاً ومن قبل الإعلامي ثانياً.
في هذا الإطار تتساءل الناقدة فدوى العبود: هل لخلافات المثقفين أيّ قيمة أو تأثير؟ هل لعداواتهم التي تتحول إلى ذم وقدح شخصي أيّ معنى؟ وتجيب: "ربما هي مسرحية كوميدية يتعب فيها الممثل ويضحك الجمهور. تستدعي كلمة مثقف إلى ذهني رائعة ثربانتس "دون كيخوته". تقدم لنا الرواية مثقفاً تشبّع بقيم الفرسان وبأفكار الكتب التي قرأها ثم قرر أن يحارب لأجلها. فكانت طواحين الهواء التي حسبها مردة أبلغ دلالة! إن سانشو - مرافقه الأبله - يظهر أكثر عملية وقدرة على التقييم السليم! وما يجعل خلافات المثقفين بدون معنى هو كون "السياسي" عملي يعرف ما يريده، وربما تسعده الجلبة التي يثيرها هؤلاء وهم ينخرطون في العداوات".
وتستشهد العبود بمجموعة من الأعمال الأدبية الأخرى التي تُقدِّم المثقف كمهزوم، وذلك بغية توسيع زاوية الرؤية إلى المثقف واستيعاب "جدية وحقيقية" ما يصدر عنه وما يفتقر إليه، وتقول: "في "شمس بيضاء باردة" للروائية الأردنية، ينتهي "راعي" جائعاً ومجنوناً. كما يقدم الروائي السوري خليل صويلح في رواية "دع عنك لومي" صورة ساخرة للمثقفين "شلة الثعالب" الذين يقصدون مقهى الكهف وهنا دلات رمزية لحال المثقف. أيضاً هناك صورة المثقف عند رضوى عاشور، وفي رواية "التشهي" لعالية ممدوح يعاني المثقف من الخصاء وينخرط في عداوات جانبية لتزجية الوقت".
وتتابع العبود: "في عالم يفتقر للجدية وتُطرح فيه بقوة مسألة نسبية الحقيقة؛ أصبحت العداوات بين المثقفين تستدعي المرح والسخرية. فكلمة مثقف تثير البؤس والريبة، البؤس لأن المثقف بصراحة مهزوم باعتباره منفصلاً عن الواقع. ولا ننسى أن هزيمة المثقف بدأت منذ زمن بعيد. مذ جُسِّدت صورته في الأفلام العالمية والمسرحيات والأعمال الفنية العربية باعتباره مثالاً للسخرية ممن هم حوله. السياسة فن عملي متغير والسياسي أقرب إلى الواقع من المثقف. هذا من جهة، من جهة ثانية إن شهادته ورأيه موضع شك! فلا يمكن معرفة هل الخلاف نابع عن قناعته الأصيلة أم مصالحه الذاتية؟ أحياناً لا يعي هو ذلك! أما عن الخلاف فأعتقد أن الخلافات الآن لم تعد تتخذ طابعاً رؤيوياً خلاقاً، كما أنها بعيدة عن الاختلاف الذي هو رؤية الأمر من وجوهه المختلفة. ما يؤدي لحوار وأفكار جديدة. لكن العداوة تقود لـ"إضاعة الشيء الجوهري"، وبينما يتعارك المثقفون ويتلاسنون يجرون بعضهم بعضاً إلى مناطق مظلمة وغير محبذة. لا يمكن أن ننكر أن هناك قضايا لا يمكن المساومة فيها. لكن يجب ألا يؤدي أي اختلاف للعداوة؛ بل للحوار والنقاش. العالم الآن يمضي ويكاد يصبح المثقف دون كيخوتاً جديداً وهناك نسخ كثيرة منه إنهم يتحاربون بأسلحة من خشب وذلك أمر يسلي الجمهور".