صباح فخري.. سلطان التراث الحيّ
استمال فخري المُستشرقين والمُستعربين في العالم الذين انكبّوا على دراسة هذه "الأسطورة" المحسوسة في سبيل التقاط بعض أسرارها وخلفيّاتها وأبعادها الحضارية.
حُنجرته ومسيرته، في مُجمَل ما قدَّمه وأدَّاه، مدرسةٌ كبيرة مُلْهِمة ومُضيئة. تأثيره الفنّي لا يقتصر على سوريا بل يشمل العالم العربيّ، وصولاً إلى كل العرب في بلاد الانتشار. إنه صباح فخري (1933 - 2021) الذي اشتهر بالقدود الحلبية والطرب العربيّ في إطارٍ يوائم بين التجديد على صعيد الأداء المؤسْلَب المُنْعِش وبين الأصالة.
استمال فخري أيضاً المُستشرقين والمُستعربين في العالم، الذين انكبّوا على دراسة هذه "الأسطورة" المحسوسة في سبيل التقاط بعض أسرارها وخلفيّاتها وأبعادها الحضارية. فقد طوَّر وجوهرَ صباح فخري صوتَه العظيم في حلب القديمة حيث برزت مجموعة مؤثّرة من المُنشدين وقارئي القرآن وشيوخ الطرب وبُناة مجد القدود الحلبية.
في الحديث عن التُراث الحيّ اليوم، لا بدّ من ذِكر صباح فخري نموذجاً وعلى اعتباره ظاهرةً تاريخية فريدة، إنْ على مستوى "الريبرتوار" Répertoire الزاخِر كمَّاً ونوعاً، أو على مستوى الصوت في نقاوته ورنينه والقُدرات التعبيرية التي يختزنها في المساحة الصوتية بالتوازي مع الحساسيّة الفنية Sensibilité، ونوعيّته في "الجَرْس" Timbre بمعنى الخامة أو القماشة الصوتية.
في الحديث عن التُراث الحيّ، لا بدّ من ذِكر صباح فخري نموذجاً وعلى اعتباره ظاهرة تاريخية فريدة.
يتبدّى ذلك في نماذج غنائية عدّة: "قُل للمليحة في الخِمار الأسود" الذي أذهل فخري الحضور بتأديته في مهرجان السينما المصرية عام 1991، وموشَّح "يا شادي الألحان" الشهير على مقام الراست للعبقري المصري سيّد درويش (1892-1923) وقد غنّته فيروز أيضاً، وموشَّح "أحنّ شوقاً"، وموشَّح "ملا الكاسات" على الراست وإيقاعه "سماعي ثقيل 8/10" للمُلحّن محمّد عثمان وقد أدّاه محمّد عبد الوهاب أيضاً عام 1923، وموشَّح "فيك كلّ ما أرى حَسَن" على مقام البيّاتي وإيقاعه "4/12"، وموشَّحات على مقام الصبا انتشرت برهةً: "غضي جفونك يا عيون النرجس"، و"أهوى قمراً سهامه عيناه" وإيقاعه "8/10"، و"العناية صدف". هذا بالإضافة إلى المواويل والأدوار والقدود الحلبية الآسِرة بصوته الخلاَّب. يمتاز صباح فخري باستطاعته الانتقال من مقامٍ إلى آخر بسهولةٍ وليونةٍ وانسياب.
يشرح صباح فخري في فيديو نشره "معهد صباح فخري للغناء والموسيقى في حلب" معنى القدود ببساطةٍ لإيصال الجوهر إلى المُتلقّي والمُستَمِع بعيداً من المُغالطات الشائِعة. في هذا الإطار يقول إن حلب كان لها كسب السبق في إشهار هذا النوع من الغناء أي أنها السبّاقة، ولذلك نُسِبَت القدود إلى "الناشر" وسُمّيت قدوداً حلبية، بينما القدود موجودة في مصر ولبنان والأردن وتونس وفي أيّ بلد عربي. الأخوان رحباني عاصي ومنصور كتبا "يا من يحنّ إليكِ فؤادي" التي غنّتها فيروز، عِلماً بأن كلماتها مختلفة عن "يا مال الشام" لكن اللحن هو ذاته... و"أذكر الأيام يا حُلْوَ الهوى/ في حنايا الغاب عند الجدولِ/ حين كنّا والهوى حلو الغوى" (بصوت فيروز) كلماتها تختلف عن "بالذي أسكر من عذب اللمى" لكن اللحن يبقى ذاته. وفقاً لما يوضحه صباح فخري، القدود تتمثّل في قَدِّ الشِّعر، اللحن واحدٌ، فيما تتغيّر الكلمات وتتأرجح بين الصوفيّ والغَزَليّ.
عُرِفَ صباح فخري بتميّزه في غناء "قدّكَ الميّاس يا عُمري" و"إبعتلي جواب" و"تراتيل الغرام" و"مالِك يا حلوة" و"يا طيرة طيري يا حمامة" و"سيبوني يا ناس" التي تلقى كلّها رواجاً شعبياً حتى يومنا هذا وهو مَن يُبقيها دارجةً في أوساط واسعة. أدّى قصائد من تجلّيات الشعر العربي مثل قصيدة "أقبلت كالبدر" للشاعر أبي فراس الحمداني (932- 968) وهي من ألحان صباح فخري أيضاً وفقاً لمُقتطفٍ مُصوَّرٍ من حفلة "نادي الحرية" في حلب عام 1994. لمع صباح فخري في التلحين في "خمرة الحب"، وجَذَب المسامِع في دور "القلب مال للجمال" على مقام "عجم عُشَيران" الذي أدّاه في دار الأوبرا المصرية عام 1998، وهو من ألحان الشيخ بكري الكردي ومن كلمات حسام الدين الخطيب، عِلماً بأنّ "الدور" هو قالبٌ غنائي.
فيما يتّجه بعض الفنانين العرب إلى التغريب، بقي صباح فخري مُتجذِّراً على مستوى الهوية الفنّية.
حضوره على المسرح مُحبَّبٌ، لا سيما في قُدرته الخارِقة على الإطراب و"توليع" الجوّ و"المزاج" حيناً، وفي حَضِّهِ الجمهور على الإصغاء بعُمقٍ أحياناً كثيرة، وفي انسجامه الكلّيّ مراتٍ عدّة مع ما يُغنّيه، ما قد يصل إلى حدود تمايله ورقصه على الخَشَبة في حركةٍ تنمّ عن فنّانٍ ديناميكي واثق الخطوة وظريف.
فيما يتّجه جزءٌ لا يُستهان به من الفنانين العرب إلى التغريب في ظلّ العَوْلَمة وتأثيراتها، لا سيما موسيقياً، نرى صباح فخري مُتجذِّراً على مستوى الهوية الفنّية، من دون أن يكون أسير القديم الغابِر، بل إن العديد من المحطَّات لديه تستبطن بصماتٍ ودمغاتٍ جليّة من الموروث الغنيّ وتحديثاً مُسْتَحْسناً على صعيد النبض في الوقت عينه. تكمُن أهمّيته في قُدرته الكبيرة على الوصل، في الموسيقى والغناء والشعر، بين التُراث والعصر الحديث، بين الماضي والحاضر. لذلك يُشكِّل بحضوره الرهيب ونتاجه جسراً فنياً وثقافياً يُمَكّن التراث من العبور إلى الغد بسلامةٍ وسلاسةٍ وتفنُّنٍ. الجنوح إلى النَهْلِ من التُراث الفنّي العربي ليس ميلاً ماضويّاً بل يكتنف صوناً لذاكِرةٍ نهضويةٍ وجماليةٍ ولمخزونٍ إبداعيّ وإنفتاحيّ أخّاذ. التُراث مُشرَّعٌ طبيعياً على التجديد والتنويع والابتداع والاستكمال والتتابُع.
صباح فخري لا يتكرّر ويُشكّل قدوةً للعديد من الفنّانين والمطربين والشباب الصاعِد، على الرغم من اجتياح موجات الانحدار البلاد ثقافياً. في نهاية المطاف، فإنّ الأغاني المائِعة سوف تندثر، ولن يصمد عبر الزمن إلاّ النتاج الغنائي الذي تتكثَّف فيه قيمةٌ إبداعية وثقافية وجمالية ذات هوية ولون ونكهة ومزاج وأجنحة وآفاق، عِلماً بأنّ الدمج الحَداثي الخلاَّق أيضاً يشقّ مدى جديداً مطلوباً في ظلّ التفاعُل الثقافي والحضاري الطبيعي وضمن أُطُر حرية الإبداع، إلى جانب التُراث الذي يحتاج إلى مؤتمنين على كنوزه على شاكِلة صباح فخري الذي جعل للتُراث قدرةً وسلطاناً خارج بيئته الزمانية.