طرابلس القديمة: معالم أثرية لا مُتناهية
تزخر مدينة طرابلس في شمال لبنان بتاريخها المتنوع... تعالوا نكتشف الحضارات التي تعاقبت عليها، والآثار التي تركتها فيها.
يشكِّل الحيِّز الداخلي من مدينة طرابلس إطارها التاريخي القديم، الذي تطغى عليه الصيغة المملوكية، لكنه يمتد ما قبل المماليك إلى حُقَبٍ طاعِنة في التاريخ، وما بعدهم، إلى العثماني، والحديث.
هذا الحيِّز هو كتلة أثرية مُتواصلة، بكل مبانيه، ومُنشآته ومعالِمه، بكل حيّ، وزاوية، وحَجَر فيه. فإذا كانت القلعة أبرز وأكبر معالِمه، وقريباً منها موقع كنيسة مار يوحنا المزدوجة الصليبية، وقربها مقبرة على تل أبي سمراء حالياً، وعُرِف بتلّة الحجاج قديماً، فإن كل الامتداد العُمراني الذي ينطلق من القلعة، ويتوزَّع مُتمدِّداً غرباً، وجنوباً وشمالاً، يشكّل كل المدينة القديمة. زهاء كيلومترين عرضاً بين القلعة والمدينة الحديثة، وأربعة كيلومترات من الجنوب إلى الشمال، بشكلٍ متواصلٍ، غير منفصل قديماً ليجعل المدينة مُسوَّرة بأبنيتها العالية الجُدران عند الأطراف، من دون أن يُبنى لها سور حماية، مع إبقاء فتحات دخول وخروج عُرِفَت بالبوابات، فكان باب الرمل وباب التبانة، وما شابه.
تصبح الصورة أكثر وضوحاً لتشكيل المدينة إذا اعتمدنا الخط الرئيسي الذي نمت عليه في الحُقَب التاريخية الماضية. هو الخط الذي يبدأ من باب الرمل جنوباً، وحتى سوق القمح شمالاً على تخوم باب التبانة. وعند أطراف المدينة القديمة، مُنشآت أثرية عثمانية، وفي وسطها المعالِم المملوكية.
المعالِم العثمانية القريبة من باب الرمل، هي الجامع المُعلَّق، والحمَّام الجديد، وقصر ومدفن محمود لطفي الزعيم الذي أنشأ هذه المعالِم.
عُرِفَ الجامع بالمُعلَّق لأنه يعلو الطريق العام، ويرتكز على قنطرةٍ ضخمةٍ، يُفترض أنها كانت بوابة المدينة، وقريباً منه تقع منشأة نادرة، تبدأ بها المدينة المملوكية وتُعرَف ب"الخانقاه".
إلى الغرب من المدينة، وقريباً من ساحة النجمة، تقوم آثار عثمانية أيضاً أبرزها جامع "أرغون شاه"، وعند زاويته كانت البوابة الغربية للمدينة، وقد أُزيلت أواسط ستينات القرن الماضي ولا تزال زاوية البوابة قائمة عند طرف الجامع، وعلى الخط الغربي عينه، يقع سيَّار الدرك، والسراي العتيقة، والجامع الأسعدي، والجامع الحميدي.
أما من جهة الخط الشمالي فمعالِم عثمانية أيضاً، أبرزها جامع السنجق الذي تُتاخمة بقايا بوابة ضخمة كانت مدخل المدينة الشمالي على تخوم باب التبانة، حيث لا يزال بعض المُعمَّرين يتذكَّرون بوابته الخشب العتيقة الضخمة.
في هذا النطاق العُمراني الممتد والمُتواصِل من دون انقطاع في الحقبة العثمانية وما قبل، تقوم سلسلة من المعالِم بعضها مسكون وبعضها الآخر مهجور ومُتآكل، وثمة مبانٍ أُعيد ترميمها، وتظهَّرت معالمها من جديد. لكن المدينة القديمة ما زالت مُحافظة على طابعها إلى حدٍّ بعيد، رغم إزالة بعض أطرافها للتوسيع، كما في سوق الكندرجيّة. وكذلك في توسيع مجرى نهر أبو علي عقب الطوفان الذي أصاب المدينة أواسط خمسينات القرن العشرين، وأودى بحياة الآلاف من أبنائها وتهجيرهم وجرف مئات المنازل، وقد أتى التوسيع على العديد من المعالم التاريخية القديمة.
الخَرْق الوحيد للمدينة القديمة من غربها إلى شرقها تمّ في القرن العشرين بالطريق التي توصل المدينة الحديثة بمنطقة أبي سمراء، الواقعة على تل شرقي المدينة فوق القلعة، وتبدأ الطريق من ساحة النجمة، وتقطع طريق المدينة العتيقة الرئيسي، وتصعد في طلعة الرفاعية نحو أبي سمراء.
في قلب هذه الحدود تقوم الكتلة العُمرانية، التي يوضِح بعض أسرارها التاريخية المؤرِّخ الطرابلسي الدكتور عمر تدمري في كتابه "تاريخ آثار مساجد ومدارس طرابلس" في فصلٍ بعنوان: "المباني الإسلامية في طرابلس المملوكية"، يفيد: "بعد أن هُدِمت طرابلس القديمة، شرع المماليك في بناء المدينة الجديدة عند ضفة النهر حيث كانت تقوم بعض المباني الصليبية، مثل الكنيسة مكان جامع "العطّار"، والمنطقة التي تُعرَف بــــ "سوق حراج"، والتي يُحتَمل أن معهداً للطب كان يقوم فيها أيام الصليبيين، وبطريركية الإفرنج التي كانت تقوم بالقرب من القنطرة في السويقة وعُرِفت بــــ "باكية غانم"، وتحوَّلت في عصر المماليك إلى مدرسةٍ عُرِفت بـــــ "البطركية"، و"قيسارية الإفرنج"، و"قصر البرنس"، والكنيسة مكان الجامع المنصوري الكبير، وكنيسة أيضاً مكان حمَّام عزّ الدين، والأسقفية مكان المدرسة "القرطاوية" المُلاصِقة لـــــ "الجامع المنصوري"، والكنيسة التي كانت تقوم مكان جامع "طينال"".
ويُضيف عمر تدمري: "استخدم المماليك الحجارة المنحوتة من بقايا الأبنية الصليبية في بناء المدينة الجديدة، وهناك كثير من أعمدة الغرانيت، وحتى الرومانية القديمة، استخدمت كدعاماتٍ وأعمدةٍ مُنتصبة في عدّة أماكن، ما تزال قائمة في عدّة مُنشآت وأماكن عامة".
ويمكن تصنيف المواقع الأثرية بحسب نوعها، أولها المساجد بدءاً من "المُعلّق" و"طينال" و"الطحّام"، و"الجامع المنصوري الكبير"، و"سيدي عبد الواحد المكناسي"، و"العطّار"، و"أرغون شاه"، و"الحجيجية"، و"التوبة"، و"البرطاسي"، و"الأويسية"، و"الدبّاغين"، و"الحميدي"، و"الأسعدي"، بلوغاً إلى "جامع السنجق".
أما المدارس الدينية المملوكية فهي : "القرطاوية"، "الزريقية"، "الخيرية حسن"، "الناصرية"، "النورية"، "الشمسية"، "المشهد"، "الطواشية"، "السقرقية"، "الخاتونية"، "العجمية"، "الظاهرية"، "سبط العطّار"، "الحجيجية"، "القادرية"، "الرفاعية"، "التدمرية"، "المحمودية"، "الماردانية"، "العُمَرية"، "القاضي الإسكندري"، "الوتّار"، "القاضي القرمي"، "الشهداء"، "القاضي أوغلو"، "النسر بن جعبور"، "الدبها"، "الصبّاغ"، "الحبّاك"، "الجوهرية"، "الدبوسيّة"، "فاطمة العُمرية"، "الدايم الله"، "الأفغانية"، "الشيخ رجب"، "أيدمر العلائي"، "الشالح"، "الكورية"، "الحفّار"، "الكريمية"، "البشناتية" وسواها.
والتكايا والزوايا هي: "التكيّة المولوية"، و"التكيّة القادرية"، و"زاوية القدوسي"، و"زاوية القاضي القرمي" (أُزيلت).
والخانات: "خان الصابون"، "خان العسكر"، "خان الخيّاطين"، "خان المصريين"، "خان الجاويش"، "خان المنزل" (أُزيل).
أما الحمّامات فهي: "الجديد"، "عزّ الدين" (تمّ تجديده)، "العبد" (ما يزال يعمل)، "النوري"، "العطّار" (مُتهدِّم)، "القاضي القرمي" (أُزيل)، "الحاجب"، "الدوادار" (أُزيل).
ويُضاف إلى هذه المواقع، العديد من المُصلّيات، والمزارات، والأضرحة، وسُبُل الماء، والبرك، ومواقع مسيحية، وبعض القصور، والبيوت الثرية منها: "قصر كاتسفليس"، و"قصر البرنس"، و"بيت عدرة"، و"بيت النملي"، و"بيت الأنجا"، و"بيت الكيّال"، و"سراي سيفا" (قصر بربر آغا)، و"دار الأمير قرطاي المملوكي"، وآثار أخرى أُزِيلت مثل البيمارستان أيّ المستشفى.