"النحو" عقدة الأدباء
علاقة الأدباء بقواعد النحو مثار تساؤل. فهل الإلمام بقواعد اللغة شرط للإبداع؟ ولماذا لم يتمكن معظم النُحاة من خلق أعمال إبداعية عظيمة؟
تظلّ علاقة المُبْدِع بالقواعد النحوية مثار تساؤل. ففي حين يرى البعض أن الإبداع لا يستقيم من دون إلمام صاحبه بالقواعد النحوية، يرى آخرون أنه يمارس خارج القواعد والأطر، ومن ثم لا علاقة له بالنحو. كما أن الإلمام بالقواعد النحوية لا يعني بالضرورة الإلمام باللغة، وهي اللبنة الأساسية في بناء المُنتج الإبداعي، وإلا كان تمكَّن النُحاة من خَلْقِ أعمالٍ إبداعيةِ عظيمة، وهو ما لم يحدث.
ويبقى التساؤل حول ضرورة إلمام المُبْدِع بالقواعد النحوية من عدمه قائماً، كما تظلّ المسافة ما بين الكاتِب والمُصَحِّح اللغوي مثار جَدَل. ففي حين يرى بعض الكتَّاب أن الأخطاء اللغوية يُسأل عنها المُصَحّح اللغوي، فهي وظيفته التي يأخذ عليها مقابلاً مالياً، يرى بعض المُصَحّحين في أنفسهم شُركاء في العمل الأدبي.
معارك المُصَحّحين .. الشيخ علي: أنا شريك هيكل في "حياة محمّد"
في كتابه "حرافيش القاهرة"، تطرّق الكاتِب والروائي عبد المنعم شميس، إلى بعض هؤلاء المُصَحّحين، وكان أغلبهم من طلاب الأزهر الذين لم يستطيعوا مواصلة دراستهم، فطردهم المشايخ من حلقات الدرس، ومن ثم لم يجدوا غير أن يعملوا قارئين للقرآن عند المقابر أو مُصَحّحين في مطبعة، أو غير ذلك من الأعمال التي تناسب معارفهم ومعلوماتهم التي وصلوا إليها في الأزهر الشريف.
في معرض حديثه حول نوادِر هؤلاء، وكيف كان يتعامل أحدهما باعتباره شريكاً في تأليف الكتاب الذي صحّححه، أشار شميس إلى أحدهم ويُدعى الشيخ علي، مُعرّفاً أياه أنه مُصحّح عظيم له معرفة بالنحو واللغة. تعدَّدت الأقوال حول سبب طرد علي من الأزهر، وقد لازمه لقب الشيخ حتى بعد أن أصبح أفندياً على رأسه طربوش، وبات يعمل مُصَحّحاً في جريدة "السياسة" الذي يرأس تحريرها محمّد حسين هيكل باشا، وكان كلّفه بتصحيح بروفات كتابه "حياة محمّد"، "فاعتقد الشيخ علي أنه شريكه في تأليف الكتاب، ما دام قد صحَّح البروفات".
يحكي شميس أيضاً أن أحدهم ممّن ساقته الأقدار لتصحيح بروفات كتاب "الأيام" لطه حسين، قال له إنه أصلح أسلوب عميد الأدب العربي، لكن شميس ردّ عليه بأن صاحب "الأيام" كان يُملي على كاتبه؛ لأنه كان مكفوف البصر ولا يمكن أن يسبقه القلم حين يكتب فيُخطئ. كما أنه صاحب أسلوب خاص يسمعه منه الناس في الإذاعة، فسكت الرجل خجلاً.
من كلام عبد المنعم شميس، ندرك شيوع مهنة المُصحّح في تلك الأيام، كما أن استعانة أحد الكبار بمُصحّح لم تكن نقيصة. ذلك أن الثابت في كلامه أن كاتباً بحجم وقيمة محمّد حسين هيكل استعان بمُصحّح، وإن لم يثبت على طه حسين فعلته، لكن كلام شميس يُحيلنا إلى رأي عميد الأدب العربي في تلك القضية، والذي نجده في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" وتحديداً في مقال بعنوان "قصر تعلّم النحو على القدر الضروري".
هل إتقان النحو يعني إتقان اللغة؟
يؤكّد طه حسين في مقاله على حبّه الشديد للنحو، ورغبته في أن يتعمّقه الذين يتخصّصون في اللغة وآدابها، مُضيفاً: "إني لا أحبّ أن أشقّ به على كثرة المُتعلّمين في المدارس العامة، ولو استطعت لأعفيتهم منه إعفاء، ولكن السبيل إلى ذلك غير مُيسّر الآن".
ويتضح من ذلك موقف عميد الأدب العربي من تعلّم النحو، وهو أن يصبح قاصِراً على المُتخصّصين فيه، ولما لم يجد سبيلاً مُيَسَّراً لذلك؛ نجده يطلب في موضعٍ آخر أن "نُخفِّف عبء النحو على المُتعلّمين ما وسعنا ذلك، وألا نفرض عليهم منه إلا اليسير الهيّن الذي لا يمكن الاستغناء عنه".
بعد عرض رؤيته بشأن تعلّم النحو بالمدارس ينتقل طه حسين إلى علاقة النحو بإتقان اللغة، قائلاً إن "من أقبح الخطأ وأشنعه أن نظنّ أن إتقان النحو يمكّن من إتقان اللغة"، ويوضح "إنما النحو فلسفة والكثير منه تَرَف للمُثقّفين ليس غير".
وبناء عليه يحقّ لنا التساؤل بشأن مكانة النحو من الإبداع. فهل يمكن لشخصٍ جاهلٍ بالنحو أن ينتج إبداعاً حقيقياً أو مؤثّراً؟ أو بالأحرى التساؤل بشأن موقف حسين من ضعف الأدباء بالقواعد النحوية؟
ظهر موقف طه حسين من جَهْلِ المُبدعين بالقواعد النحوية في كتابه "من أدبنا المُعاصٍر"، ولم يكن موقفه في وجه كاتب صغير المقام أو القيمة، بل كان موجّها لمحمّد حسين هيكل، وتحديداً في مقاله الذي حمل عنوان "هكذا خلقت"، وهو عنوان إحدى قصص هيكل.
وقد بدأ عميد الأدب العربي مقاله مُهلِّلا لعودة هيكل إلى كتابة القصة، وهو شاعرٌ وأديبٌ وسياسي مصري كبير، إذ يقول: "لست أدري أأهنّئ صديقنا الدكتور محمّد حسين هيكل برجوعه إلى القصة أم أهنّئ القصة برجوعه إليها، ولكني أعلم أن قُرَّاء الأدب النقي الصفو هم الجديرون بالتهنئة"، مؤكّداً مكانة هيكل في القصة، ومدى براعته فيها، ثم يُقدّم تلخيصاً شافياً لقصته "هكذا خلقت".
إعجاب طه حسين بقصة هيكل واستمتاعه بها، لم يمنعاه من أن يقف عند بعض المُلاحظات الفنية وقفات يصفها بأنها قصار جداً؛ من بطء مسرف وتفاصيل قد يدعو إلى شيء من السأم، ولعلّ ما يهمّنا هو ما جاء بعد ذلك، وما تعلّق بأخطاء هيكل النحوية.
يبدأ طه حسين حديثه إليه بلغة الصديق القديم، مُستَدعياً ما كان بينهما قائلاً: "فقد كنت أغيظه أيام الشباب بأنه يهمل الاحتياط للغته العربية بين حين وحين، وكان يردّ عليَّ بأني أنا لا أحْسِن العربية ولا أجيد كتابتها، وهو قد وفّى بحقّي عليه؛ فإنه يهمل في غير موضع حق اللغة ليُتيح لي أن أذكره في أيام الشباب".
قد يذهب البعض إلى نفي تهمة الخطأ اللغوي والنحوي عن صاحب "زينب" أول رواية مصرية، وهو ما أشار إليه طه حسين في لهجةٍ ساخِرة، إذ يقول: "ومَن يدري لعلّه يحمل هذا الإهمال على خطأ المطبعة وتقصير المُصحّحين، وما أكثر ما يحمل على المطابع والمُصحّحين"، ومن ثم يشير إلى خطأ لا يستطيع أن يحمله على المطبعة ولا على المُصحّحين، وهو إسرافه في استعمال إسم الإشارة "هاتيك"، والتي لا تناسب الذوق المصري الحديث، مقترحاً وضع "هذه" و"تلك" مكانها.
يذهب عميد الأدب العربي في نهاية مقاله إلى موضعٍ آخر وهو ما إذا كانت الأخطاء اللغوية والضعف النحوي نقيصة تحطّ من القيمة الفنية للعمل، مؤكّداً عكس ذلك بقوله إنها: "لا تغضّ من قدر الكتاب ولا تنقص من قيمته الفنية، ولا تزهد محباً للفن ومشغوفاً بالأدب الجدير بهذا الإسم في أن يقرأه حفياً به حريصاً على الاستمتاع بدقائقه، والشيء الذي أستطيع أن أؤكّده مُطمئناً هو أن قارئ هذا الكتاب لن يفرغ من قراءته إلا راضياً مُغتبطاً راجياً أن يمتّعه هيكل بين حين وحين بقصة تشبه هذه القصة"، إذاً وبرغم ضعف محمّد حسين هيكل في الإلمام بالقواعد النحوية. إلا أن طه حسين؛ لم يخلع عنه مكانته الأدبية ولم ينقص من قيمة عمله الإبداعي.
ثورة يوسف السباعي: "أصرفوا فاطمة.. الممنوعة من الصرف"
لم يتوقّف الأمر عند دعوة طه حسين إلى التخفيف من مناهج النحو على طلاب العِلم، بل وصل إلى دعوة البعض بثورةٍ على قواعد النحو ذاتها، ومنها مقال يوسف السباعي "أصرفوا فاطمة.. الممنوعة من الصرف" بعنوان تمهيدي "ثورة على قيود اللغة".
ويبدأ السباعي مقاله بحكاية أول صفعة تلقّاها من أبيه، وكانت لأنه لحن في اللغة، وبرغم صفعة والده له؛ يؤكّد "ما زلت ألحن حتى الآن".
يشير السباعي إلى كثرة مَن انتقدوه لضعفه في النحو، من بينهم "الزميلة إبنة الشاطئ، في نقدها لأحد كتبي لأنها وجدت ما يربو على المائة غلطة، ثم أنّبني عديلي عبّاس حسن أستاذ اللغة العربية في دار العلوم، لأني أخطأت في حديث لي بالإذاعة سبعة وعشرين غلطة".
يرى يوسف السباعي أن المُصحّحين أحقّ بلوَم النقّاد منه؛ لأن كتبه ككل كتب غيره من الكتّاب، وكل ما يُكتَب في الصحف والمجلات يُعرَض على مُصحّحين مأجورين لهذا الغرض فقط، "لأني قد نفضت يدي من كل ما يختصّ بالشكل وألقيته على عاتقهم، وأنا مُقرّ بهذا، غير خَجْل منه ولا ضايق به.. لأن هذا هو الكائن الواقع..فأنا بعد كل ما قرأت وما كتبت وما ورثت من والِد لغوي.. ما زلت عُرضة بمُنتهى البساطة للخطأ النحوي.. وهو شيء لا حيلة لي دفعه ولا قُدرة لي على ردّه".
لم تكن محاولة السباعي الاستعانة بمُصَحّح لغوي مُجدية، فحديثه في الإذاعة، الذي استطاع أستاذ اللغة العربية أن يستخرج أخطاءه، كان قد دفع به إلى مُصحّح يُشكّله حتى لا يُخطئ. كما أنه أعطى أحد كتبه إلى عباس الذي كثيراً ما يلومه على وَفْرَة أخطائه النحوية، ليراجعه له، ومع ذلك وجد مَن يلومه على ما بالكتاب الذي راجعه عباس نفسه. كل ذلك جعل يوسف السباعي يطلق دعواه: "لماذا كل هذا التعب..ألأن العرب منذ ألف سنة رفعوا هذه ونصبوا تلك.. ليكن.. لنحافظ على تراثهم كما هو.. على أن نُحلّل لغتنا من أثقاله وقيوده..نقولها بأبسط الطُرُق".
ويضيف: " لنُسَكِّن آخر كل كلمة..ولنُبْطِل التنوين.. ولنقل الجمع بالياء فقط.. ولتكن الصفة العَدَدية مُطابِقة للموصوف مهما كان العدد، ولنحرم أدوات الجزم والنصب من سلطانها في الجزم والنصب والحذف، لنتحلّل من كل هذا ولنصرف الممنوعات من الصرف.. ولنتحدَّث بلغتنا من دون خوف من لحنٍ أو خطأ.. يجب أن يزول احتكار اللغة بقيودها وقواعدها ونحوها وصرفها".
أثار توفيق الحكيم هذه المشكلة أيضاً وذلك في خطبة انضمامه إلى المجمع اللغوي، وقال ما معناه، إن "محاولة تركيز القارئ أو الكاتِب في الشكل يُبدّد جهوده التي يجب أن تركِّز في الأسلوب والمعنى"، وحسب مقال يوسف السباعي؛ لم يسلم الحكيم من الخطأ النحوي، ففي إحدى اجتماعات نادي القصة تحدَّث؛ فأصلح له طه حسين غلطة.
يحكي السباعي أيضاً أنه بعد لحظة من موقف الحكيم مع الخطأ اللغوي، طلب طه حسين من إحسان عبد القدوس أن يقرأ شيئاً، فردّ عليه الأخير قائلاً: "هوّ أنا مجنون أقرأ قدّامك.. إذا كنت طلّعت غلط لتوفيق الحكيم.. أمّال حاتعمل فيّ إيه".
هرب إحسان عبد القدوس من ورطته أمام طه حسين، لكن نجده يفضح سرّه في حوار أُجْري معه بمجلة "الهلال" سنة 1977 قائلاً: "طول عمري ضعيف في النحو، أتعامل مع التكوينات اللغوية بموسيقاها اللفظية، وكثيراً ما تخونني الموسيقى، أرفع تمييزاً ملحوظاً مثلاً، أو أكسر حالاً، ليس محالاً".
فقد كان الكاتب صاحب الإنتاج الغزير والمتنوّع، لا يُجيد فكّ شفرات القواعد النحوية في صباه، فلم يكن مُتفوّقاً في شيء إلا الإنشاء، "ففي السنة الثالثة في مدرسة خليل آغا الابتدائية، كتب مرة موضوعاً، فجمع مُدرِّس اللغة العربية، المدرسة كلها، وقرأ لهم الموضوع، ورغم ذلك استمر ضعفه في النحو حتى في أوج شهرته ووهجه الأدبي، إذ يضيف في حواره: " وحتى الآن وأنا في قمّة شُهرتي ككاتب، ما زال المُصحّح يُصحّح لي أخطائي اللغوية على بروفات" قصصي ومقالاتي".
التكنولوجيا.. سلاح الأدباء في مواجهة قواعد النحو
كان الروائي صنع الله إبراهيم ممّن أعلنوا ضعفهم النحوي صراحة. ويمكن الرجوع إلى حلقته في برنامج "وصفوا لي الصبر" الذي قدّمه الكاتِب عمرو طاهر، حيث حكى صاحب "ذات" عن عدم تمكّنه من كتابة الهمزات.
ولم يكن ذلك خطأ عابراً، بل أكّد وقوعه الدائم في ذلك، وربما يكون السبب لعقدة نفسية سبَّبها له مُدرِّس اللغة العربية، الذي كان دائماً ما يضربه على يده وهو صغير. ولما كانت مشكلته تقتصر على الهمزات، فقد أضحت بسيطة، ليس بفضل تغلّب صاحب "اللجنة" و"تلصص" عليها، ولكن لاستعانته ببعض برامج تصحيح الهمزات على الكمبيوتر الخاص به.
ذلك أنه إلى جانب اللجوء إلى المُصحّح اللغوي، وهي الطريقة التقليدية، أضحت التكنولوجيا وسيلة الأدباء للهروب من الوقوع في الأخطاء اللغوية، أوعلى الأقل مُعالجتها، ومثال على ذلك مواقع إلكترونية تسعى لمساعدة زوارها على تصحيح أخطائهم النحوية واللغوية أتوماتيكياً.