بين "كاتدرائية القوات المسلحة" و"طريق الذاكرة" .. 75 عاماً على "إنقاذ الحضارة"
صرح معماري شاهق افتتحته روسيا بمناسبة حلول الذكرى الـــ 75 للانتصار السوفياتي على النازية، تعالوا لنعرف عنه أكثر!
ليس بعيداً من العاصمة الروسية، وفِي مروج كوبينكا، حيث وقعت إحدى المعارك الحاسمة دفاعاً عن موسكو إبان "الحرب الوطنية العظمى" (1941 - 1945)، تم تشييد كاتدرائية ضخمة وافتتاحها. هكذا، يمثل أمام الناظر صرح معماري شاهق، هو "كاتدرائية القوات المسلحة الروسية"، التي لم يكن ارتفاع بنائها لنحو 75 متراً مجرد صدفة، بل يأتي متناسباً مع حلول الذكرى الـــ 75 للانتصار السوفياتي على النازية.
تشييد كنيسة لشهداءِ الحرب، والتي يعتبرها الروس شعبية، وتصنفها الكنيسة مقدسة، له رمزية، ولا سيما في ضوء محاولات بعض الأوساط في الغرب التشكيك في تضحيات السوفيات ودورهم في دحر النازية. زِد على ذلك اتهام روسيا بما يسمى "هستيريا الحرب"، من خلال إنفاق الحكومة مبالغ كبيرة على عروض الآليات العسكرية، البحرية والجوية والبرية، والتي تقام سنوياً لإعادة إحياء ذكرى النصر. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الشعب الروسي، الذي يتعرض لانتقادات من الإعلام الغربي بسبب تشجيعه هذه العروض وولعه بها.
لكن تخليد ذاكرة الحرب التي أزهقت أرواح أكثر من 27 مليون مواطن سوفياتي بين مدني وعسكري، يعتبره الروس واجباً مقدساً، فلا غرابة إذاً في أن يتم تشييد هذه الكاتدرائية الفخمة والمكلفة التي قامت على تبرعات من المواطنين والمنظمات الشعبية والأهلية.
بالنسبة إلى روسيا، يعدّ الانتصار على النازية في "الحرب الوطنية العظمى" أحد أعمدة الهوية الوطنية، وهو ما يفسر إطلاق صفة "الوطنية العظمى" على هذه الحرب، وليس الاسم الشائع لها، وهو الحرب العالمية الثانية، ذلك أن لدى الروس إيماناً راسخاً بدورهم المحوري والحاسم في إنقاذ الحضارة العالمية من النازية والتطرف، والذي تمّ من خلال تضحيات الآباء والأجداد. لذلك، فإنهم يولون عناية كبيرة بالصروح والمتاحف التي تحتفي بانتصارهم وتخلده بعد سنوات حرب جحاف وتضحيات جسام.
ويعتبر تشييد "كاتدرائية القوات المسلحة الروسية" مثالاً حياً على استمرار تقليد إقامة الكنائس الأرثوذكسية العسكرية في روسيا، والتي تجسد القيم الروحية والتاريخية للشعب الروسي. وهنا، لا بد من الإشارة إلى مجمع تل السجود المكرس لشهداء الحرب أيضاً، وهو يضم إلى جانب الكنيسة جامعاً وكنيساً ومعبداً بوذياً، في إشارة إلى المساواة بين تضحيات الطوائف كافة.
أما الكاتدرائية التي شيّدت مؤخراً، وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أول زوارها، فتظهر من الخارج بألوانها الخضراء الداكنة وفرادتها وسط الساحة الكبيرة التي شهدت أشرس المعارك. ومن الوهلة الأولى، يصعب إعطاء وصف لها: هل هي لوحة جميلة أم دخيلة في فضاء عارٍ؟
يقول رئيس المهندسين ديمتري سميرنوف، وهو أحد المشرفين على عملية البناء، إنها ليست داكنة، بل وسطية، وتناسب الغاية التي استُمدت منها، وهي أن تكون معبداً للمحاربين.
عند دخول الكنيسة، قد ينتاب الزائر شعوراً بالهيبة، يمتزج بين عظمة هذا المكان الشعائري الذي شيد للقاء وجه الله، وغايته، وهي إحياء ذكرى من قاتلوا واستشهدوا في سبيل وطنهم.
وتحتوي الكنيسة على أيقونات القديسين الذين رعوا الجنود السوفيات، إضافة إلى لافتات شعائرية ونصوص من الكتاب المقدس وجداريات ضخمة تعرض مشاهد معارك من التاريخ العسكري.
الأيقونة الرئيسية للمعبد هي "الوجه المقدس"، وهي صورة لوجه السيد المسيح، عمل على إنجازها أشهر الصاغة والحرفيين والفنانين، وتم تنفيذها باستخدام التقنيات القديمة، إضافة إلى رقائق الذهب والأحجار الكريمة والثمينة.
وترقى "كاتدرائية القوات المسلحة الروسية" إلى أن تكون أكثر من مجرد معبد أو صرح وطني، فقد غدت معرضاً فنياً يجتذب طلاب معاهد الفنون. ويمثل المجمع الكنسي مجموعة لكنوز الفن الحديث، حيث يجد المهتمون مجموعة متنوعة من الحلول التركيبية والتقنيات الفنية الجديدة: الفسيفساء والمنحوتات والفخار واللوحات والنوافذ الزجاجية الملونة التي تم دمجها بشكل متجانس. وتطلّب تشييد الكنيسة وتزيينها عملاً متقناً لأكثر من 4 آلاف شخص من أشهر المعماريين والفنانيين والحرفيين في البلاد.
ومن المذهل أيضاً فكرة إسقاط رموز النصر وتواريخه في الأبعاد والنسب المعمارية، وهي فكرة تعود إلى وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، الذي يعتقد أن "من المهم جداً التأكد من أن كل تفاصيل المعبد تشهد على مآثر زمن الحرب وأحداثه".
وعلى سبيل المثال، هناك 8 نوافذ على القبة. ويبلغ قطر القبة 22 متراً و43 سم، وهو إسقاط لتاريخ وتوقيت التوقيع على وثيقة الاستسلام غير المشروط من قبل ألمانيا النازية في 8 أيار/مايو 1945 عند الساعة 22:43. أما قطر أسطوانة القبة الرئيسية، فيبلغ 19.45 متراً، وهو إسقاط للسنة التي شهدت نهاية "الحرب الوطنية العظمى" في العام 1945.
وتنقسم الكاتدرائية إلى قسمين علوي وسفلي. ويتميز القسمان - رغم تباين الطابع - بالزخرفة الفسيفسائية، حيث تم جمع آلاف الأمتار المربعة من الفسيفساء في وقت قياسي. واللوحة الفسيفسائية الأضخم تعود إلى السيدة العذراء مع طفلها، حيث علقت على الحائط الغربي، كتذكير بملصق شهير للحرب آنذاك: "الوطن- الأم ينادي!".
وفي نيسان/أبريل، أشيع بأنّ الكنيسة ستحتوي على لوحات فسيفسائية للرئيس فلاديمير بوتين، ووزير الدفاع سيرغي شويغو، وزعيم الاتحاد السوفياتي زمن الحرب جوزيف ستالين. وتسربت آنذاك إلى الشبكة العنكبوتية بعض الصور ذات الصِّلة، ولكن لا وجود اليوم لمثل هذه الصور في الكاتدرائية.
ويقول دميتري سميرنوف إن "اللوحات كانت قد صنعت بالفعل في ورشة العمل، ولكن لم يتم وضعها في الكنيسة، ولا تزال محفوظة في المخزن".
متحف "طريق الذاكرة"
بعد جولة في الكنيسة، سيكون حتمياً التوجه إلى متحف "طريق الذاكرة" الفريد، والذي ينطلق من فكرة جديدة وغير مسبوقة لسرد أحداث الحرب الوطنية، وخصوصاً أن روسيا عامة، وموسكو خاصة، تضم الكثير من المتاحف عن هذه الحرب، فأين يكمن التميز؟ وما هو الجديد فيه؟
يشكل متحف "طريق الذاكرة" مشروعاً لا نظير له في العالم، وفق وزارة الدفاع الروسية، التي تعتبره "معرضاً للتاريخ الحي الذي سيحافظ على مصير واسم كل من قاد بلدنا إلى النصر".
وبالفعل، فإن "طريق الذاكرة" متحف غير تقليدي، إذ يبلغ طوله 1418 خطوة، أي بعدد أيام الحرب ولياليها!
إنها فكرة ذكية وتفاعلية، تجعلك تعيش افتراضياً ما عاشه السوفيات فعلياً من ضنك وضيم وعذابات قبل أنت ينتصر وطنهم. تتغلب عليك العاطفة عندما تقطع كل هذه الخطوات سيراً، حيث تشعر بتعب وعطش شديدين، ويرافقك حزن كبير عند رؤية صور ملايين الشهداء. عندها، سيهتز بدنك لفكرة أنك أرهقت جسدك في جولة دامت ساعتين، واكتأبت لمشاهدة صور تلك الحرب، فما بالك بأولئك الذين تشردوا وجاعوا وقاتلوا وقتلوا على مدى 1418 يوماً لا 1418 خطوة؟
ويعتمد المعرض على تقنية الشريط الزمني التفاعلي الذي يعرض على طول مسار المتحف أحداث الحرب اليومية. وباستطاعة الزوار الوصول إلى مقاطع الفيديو والصور الفوتوغرافية والتسجيلات الصوتية النادرة للحرب، بفضل الأدوات التفاعلية التي تتميز بها كل قاعة من قاعات المتحف البالغ عددها 35 قاعة. كما يعرض المتحف الصور الفوتوغرافية والوثائق والجوائز والأسلحة والمتعلقات الشخصية للجنود والضباط المشاركين في تلك الحرب.
وقد تجد نفسك فجأة في خيمة هي عبارة عن مستشفى ميداني تُجرى فيه عملية جراحية لأحد الجنود السوفيات المصابين. تشعر للوهلة الأولى بأنك فعلاً في إحدى الجبهات مع أطباء ينقذون جندياً، وخصوصاً عندما تشم رائحة الشوادر العسكرية والمواد الطبية والدماء، ولكنك تستدرك بعد ثوانٍ أنك في قاعة للإسقاط الثلاثي الأبعاد.
العنصر الرئيسي والثوري والمثير في "طريق الذاكرة"، هو معرض صور "نهر الزمن"، الذي يحتوي على معلومات عن جنود الخطوط الأمامية، والحزبيين، وسكان لينينغراد المحاصرة، وعمال الجبهة الداخلية، والعديد من أولئك الذين دافعوا عن الوطن.
ويحتوي هذا النظام على أكثر من 30 مليون اسم. ولإنشاء هذا المعرض الفريد، تم تصميم برنامج خاص يحتوي على صور مركبة بشكل مشروط وفقاً لسطوع الصورة. ويتم تحميله على قاعدة البيانات التي تم وضع الصور نفسها من خلالها في شكل لوحات لا نهاية لها مثل النهر. ويتم تحديث الأرشيف الافتراضي للمشاركين في "الحرب الوطنية العظمى" بمعلومات عن مكان الولادة والخدمة بشكل يومي.
يعتبر متحف "طريق الذاكرة" مشروعاً غير محدود، يتم تحديث موارده باستمرار بمعلومات وصور جديدة، وهو منصَّة تفاعلية فريدة لإنشاء تاريخ ملايين العائلات الروسية. وقد افتتحت الكنيسة والمتحف في 25 حزيران/يونيو 2020.