مواقع التواصل الاِجتماعي.. بيئة للكراهية؟

هل حادت مواقع التواصل عن وظيفتها؟ ولماذا باتت خطيرة على مستقبل العلاقات الإنسانية؟ 

  • مواقع التواصل الاِجتماعي.. بيئة للكراهية؟
    مواقع التواصل الاِجتماعي.. بيئة للكراهية؟

هل حادت مواقع التواصل الاِجتماعي عن وظيفتها التواصلية والتشاركية؟ ما الذي جعل موازين الخير والجمال فيها تختلّ إلى درجةٍ تدعو إلى التساؤل؟ لماذا الخوف على مستقبل العلاقات الإنسانية ومساحة الحوار في فضاءات السوشيل ميديا؟ 

من خلال أية أدوات تحليل يمكننا أن نقرأ ما أصبح ماثلاً في مواقع التواصل وبخاصّة "فيسبوك"، لناحية "خِطاب الكراهية"؟ وهل يمكن الجزم أنّ هذه المواقع بيئة خصبة وحاضنة لهذا الخطاب؟ 

حول هذه الإسئلة استطلعت الميادين الثقافية آراء بعض الأساتذة والباحثين وهذه كانت أجوبتهم.

ترى الباحثة الأكاديمية وأستاذة الفلسفة في جامعة الجزائر خديجة زتيلي، أنّه لا يُمكن الاطْمئنان على حياتنا متى اِعْتنق الناس خطاب الكراهيّة الذي لا تتوقّف أضراره في المجتمع بسبب مضامينه السلبيّة، وتغدو الأمور بالغة الصعوبة عندما يتحوّل ذلك الخِطاب إلى نسقٍ يُوطّن ذاته في الثقافة والمجتمع ويسعى جاهداً إلى مُمارسة إكراهاتهِ. 

وأضافت في السياق نفسه "نحنُ إزاء مشكلٍ عويص يتفاقم يوماً بعد يوم في حياتنا المُعاصرة، ويجد له منابر مفتوحة تُطيل من عُمره وتمدّه بأسباب اِنتشاره، من دون أن يعترض طريقه أيّ رقيب أو حسيب حتّى عهدٍ قريب. وأشهر تلك المنابر التي ساهمتْ في اِتّساع رقعة اِنتشار خطاب الكراهيّة راهناً وسائل التواصل الاِجتماعي التي شغلتْ الناس في الجهات الأربع للعالم. فقد عزّزت هذه الوسائط الجديدة من هذا الخطاب كفيسبوك أو إنستغرام أو تويتر وغيرها. مِمَا بات يستدعي النظر في الأمر بجديّة وصرامة بالغتين للبحث عن حلولٍ لتطويقه وإراحة الناس من كوارثه ومآسيه".

وترى زتيلي، من جهة أخرى، أنّه من الصعوبة بمكان أن نجد تعريفاً جامعاً مانعاً لعبارة (خطاب الكراهية)، ولكن من السهولة رَصْد تمظهراته، مُشيرة إلى أنّه "في كلّ الأحوال يمكن توصيفه بالخطاب الأحادي، العنيف، المُتطرّف، العنصري، التحريضي، المؤدْلَج، ما يُرشّحه في نهاية المطاف لكي يكون غير مجدٍ ولا إنسانيٍّ". 

ومن هذا المنطلق تذهب زتيلي إلى القول "لعلّ الميزة الأساسيّة لخطاب الكراهيّة توسّله بالعاطفة لا العقل لبسط نفوذه، فضلاً عن جهله أو تجاهله لمُعطيات التاريخ. فلقد دأب المُروّجون لهذا الخطاب، سواء كانوا أفراداً أو جماعات أو مؤسّسات أو رجال سياسة، على النظر للآخر نظرة دونيّة مُستعليّة تستلهم مشروعيّتها من ثقافة عنصريّة تُقسِّم الناس إلى ثُنائيات تُكرّس مبدأ الأعلى والأدنى، مُستعينين في ذلك بشحن وسائل التواصل الاِجتماعي ضدّ عرقيات أو أقلّيات أو إثنيات أو أشخاص وضدّ ثقافات أخرى والتحريض على اِحتقارها أو تدنيسها". 

هكذا يسْتشري خطاب الكراهية، بحسب زتيلي، في المجتمعات فيُعزّز من ظاهرة العنف الطائفي والتقاتُل بين العرقيات والتطرّف الديني وحرق المعابد والكنائس والمساجد والاِعتداء على الأفراد والنساء وتوسيع رقعة الحروب الأهليّة وإطالة عُمرها، والسير بالمجتمعات نحو مصيرٍ مجهول أو مأساوي، تحت مُسوّغات واهيّة لأصحابها لا تمّت إلى المنطق والعقل بصلة.

من جانبه يرى الباحث محمّد بن ساعو، أنّه ورغم فعّاليّة مواقع التواصل وأهميّتها، إلاّ أنها أدّت إلى بروز ظواهر خطيرة، من بينها اِنتشار خطاب الكراهية والترويج له، حيث أصبح "فيسبوك" خاصة يقوم بدور عكسي. 

وعليه وَجَب بدايةً الاِعتراف بأنّ هذا الخطاب الذي نلمسه في الموقع الأزرق هو اِنعكاس لشعورٍ يسكن البعض، لكن قد لا يجرؤون على التعبير عنه في واقعهم وفي محيطهم الحقيقي، فيلجأون إلى بثّه في فضاء اِفتراضي، يكفل لهم التنكّر خلف أسماء مُستعارَة لمحاولة إحداث الفرقة والخصام ونشر الأكاذيب والترويج للعنصرية ورفض الآخر من منطلقاتٍ دينيةٍ أو عِرقيةٍ أو سياسيةٍ أو اِجتماعية.

بن ساعو يذهب في هذا السياق إلى أن تفشّي هذا النوع من الخطاب ساهمت فيه الحسابات المجهولة والأسماء المُستعارة، إذ يقول بصريح العبارة "خاصية الأسماء المُستعارة والحسابات المجهولة هي إحدى الأسباب التي أسهمت في رواج خطاب الكراهية، لأنّ المُستخدمين الذين يتخفّون وراء شاشات الكمبيوتر والهواتف النقّالة بصوَر وأسماء غير حقيقية، يشعرون بالتحرّر من سلطة الرقابة الاِجتماعية، فيحاولون التعبير عن الترسّبات التي خلّفتها النزعة العدائية ضدّ الآخر، وبالتالي يطلقون العنان للمسّ بكرامة الآخرين وإهانتهم وازدرائهم؛ وفي الوقت نفسه يحاول هؤلاء الهروب من أية متابعة قانونية مُحْتَملة، بما أن القانون يعاقب على الجرائم الالكترونية تماماً مثلما يُعاقب على تلك المُرْتَكبة في الواقع". 

  • مواقع التواصل الاِجتماعي.. بيئة للكراهية؟
    خديجة زتيلي

من هنا، فإنّ الخصائص التي تُـتيحها مواقع التواصل تُوفّر بيئة خصبة لإشاعة خطاب الكراهية، رغم أنّ المدوّن يُفترض أنّه قد وافق على شروط الاِستخدام، والتي من بينها تجنّب إشاعة الكراهية.

بن ساعو يستدرك بنوع التوضيح وهو يقول "من خلال متابعة بسيطة لما يُنشَر في الفضاء الأزرق، نُدرِك أنّ خطاب الكراهية يستثمر في المختلف فيه، لينقله من دائرة الاِختلاف المُتسّمة بالتنوّع والتعدّد والتي تستدعي النقاش والتفتّح، إلى مستنقع الخلاف الذي يوظّف الشتم والسبّ والأحكام العنصرية وينتهي إلى الاصطدام، وتزداد خطورة المنشورات التي تحثّ على الكراهية عندما يلجأ أصحابها سعياً منهم لتمرير توجّهاتهم ونفث سمومهم إلى التلاعُب بالمحتويات، حيث يتفنّنون عن طريق بعض البرامج التي تتدخّل في الصوت والصورة لترويج أخبار كاذِبة عن بعض الأطراف والهيئات بغية تأليب الرأي العام عليها ونشر الكراهية تجاهها".

بن ساعو، خلص في الأخير إلى "أنّ ما يزيد من خطورة الوضع، هو أنّ الأمر ليس عفوياً ومُرتبطاً بأشخاصِ أو بحالاتٍ معزولة، إنّما أصبح مُنظّماً من أطراف معيّنة في الداخل والخارج، ويمكن أن نُطلِق عليها (مرتزقة مواقع التواصل)، حيث تُوظِّف خبراء في تكنولوجيات الإعلام والاِتصال ممّن يمتلكون خبرة كبيرة في تسيير المواقع والتغلغل في الشبكات، ومنه يمكن القول بأنّ صناعة خطاب الكراهية وترويجه أصبح بمثابة اِستثمار اِقتصادي وسياسي بالنسبة للبعض".

وما يؤكّد ذلك هو أنّ حِدّة هذا الخطاب تأخذ في التصاعُد كلما كانت هناك حركيّة على المستويات السياسيّة والاِجتماعيّة.

أمّا الكاتب والمُترجِم ميلود حكيم، فيقول إنه وللبحث عن جذور خطاب الكراهية "لا بدّ من حفريات تتوّغل في تشكّل الذات الجماعيّة وبناءاتها الرمزيّة والمخياليّة، وأيضاً الجراحات التي تعرَّضت لها وهي تُواجه أعماقها النرجسيّة، والتباسات الغيريّة التي تأخذ تمظهُرات مختلفة". 

ويُضيف شارحاً "عندما نفهم هذه الجذور التي شكّلت شخصية وتركيبة الفرد سنفهم أنّ التمظهُرات الجديدة التي تأخذ مظاهر عنف جديد في وسائل التواصل الجديدة، وتُخْرِج الوحوش التي تنام في الأعماق وتجد حريّتها في الفضاء الأزرق لأنّه يُقّدم لهذا الفرد مساحة يتعرّى فيها من كلّ الضوابط والقواعد ويرى حقيقته في مرآة الفضاء الاِفتراضي، يستطيع أن يقتل ويُهين ويُنكّل بالآخرين من دون أن تتحرّك له شعرة ولا أن تُراق قطرة دم، وتكشف هذه الوضعية عن اِستعمالٍ غبيّ لوسائل الحَداثة وعدم اِستيعابها واِستهلاكها بطريقةٍ بدائيّة".

ويعتقد حكيم أنّ "خطر هذا العُنف الذي يتّخذ من وسائل التواصل الجديدة ساحة لمعركةٍ خائِبةٍ هو كونه ينتشر كالنار في الهشيم وتأثيره كبير على شرائح واسعة تقتات من الشائعة والتدليس والمُخادَعة وتُصدّق كلّ ما يُقال من دون وعي أو حسّ نقدي. لا يجب الوقوف عند تمظهرات أمراض الكراهية، كما تبرز على قروح الجسد الاِجتماعي.. البحث عن جذورها، واشتغالها الصامت هو الأهم. ما تنشره وسائل الاِتصال الجديدة يُؤكّد اِستفحالاً ما للدّاء، وبلوغه درجة التعفّن". 

  • مواقع التواصل الاِجتماعي.. بيئة للكراهية؟
    ميلود حكيم

ثم يضيف بنوع من التشريح: "اِنتقال خِطاب الكراهية إلى الفضاء الأزرق يُتيح لنا أن نُقاربه في الأبعاد السيميولوجية المُتجدّدة، باِعتباره سِجلاً لتحوّلات الدول مع بقاء المدلولات مغلقةً في بنيتها التقليدية. إذ عندما تتحوّل شاشات الهواتف والكومبيوترات إلى ساحة للصراع، ولأحقاد دفينة، ولمعجم يعود بِنَا إلى داحِس والغبراء، فهذا يعكس الخَلل الكبير في تعاملنا مع وسائل الحَداثة، وانفصالنا عن فَهْمِ واستيعاب التقنية التي نستهلكها فقط، أو نستخدمها من دون تحوّل في مُقاربتنا، ورؤيتنا للعوالم التي تفتحها.. ويترسّخ هكذا ما نعيشه من أوهام الحداثة، وأخطرها وَهْم المُعاصرة، فلا يكفي أن تكون أجسادنا في القرن الواحد والعشرين في حين نحيا ونسلك بذهنيات الماضي".

وفي الأخير خلص حكيم إلى القول إننا "لا نُعالج خِطاب الكراهية بالقوانين والتجريم.. ولا بالتضييق على الحريات. المطلوب هو أن ننتصر لإيتيقا جديدة تستلهم مواثيق حقوق الإنسان في تجليّاتها الإنسانية، وتضعنا في ما تفتحه العوالم الاِفتراضية من مسلكيات وعادات جديدة، ومفاهيم مختلفة عن الإنسان وعن العلاقات.. وننتهي من طُغيان القبيلة وأحقادها على سلوكاتنا ومخيالنا".