وشوم لينين وستالين على أجسام المساجين.. لماذا؟
"يرسمونها تجنباً للإعدام بالرصاص أو تعرضهم للأذى".. ما صحة قصة وشوم ستالين ولينين على أجساد السجناء؟
ما السر وراء ظهور وشوم تُجسِّد بورتريهات القائد الشيوعي فلاديمير إليتش أوليانوف (لينين) والقائد السوفياتي يوسف فيساريونوفيتش جوغاشفيلي (ستالين) على صدور المُعتَقلين والمساجين في عهد الإعدام؟
يبدو أن ثقافة الوشوم في السجون السوفياتية أكثر عُمقاً من الترويج لها بشكلٍ سطحي، كما يحدث في الآونة الأخيرة، كأن يمتنع السجّان عن إيذاء السجين بسبب وَشْم. فوشوم السجون لغة وهوية، وفي المُحصّلة فنّ من الفنون ولوحة حيّة مُتفاعِلة مع العيون، ما دام حامِلها حياً.
لم تكن الوشوم تُدَقّ على أجسام المُعتَقلين في الحُقبة السوفياتية لأهدافٍ تجميلية، إنما كانت تحمل رسائل مُحدَّدة. لم يعدُ خبر ظهور وشوم تحمل رسوم القادة على الأجسام حدود شائعة أطلقت من باب التندّر تداولتها ألسن السجَّانين أنفسهم أحياناً، ومع ذلك فإن كل حكاية فيها جانب من الحقيقة. من المفهوم أن السجّان ما كان ليرغب في أن يلتقي بسجينٍ يحمل وَشْم القائد على جسمه.
الحكاية المُتداولة أن وجبة جديدة من المحكومين بالإعدام وصلت إلى باحة السجن، فاقتيد المحكومون إلى القبو، حيث أوقفوا صفاً قرب الجدار وأُمِروا بنزع قمصانهم عنهم، وفجأة لاحظ عنصر الاستخبارات، أو ما عُرِف بـ "التشيكا" (اللجنة الاستثنائية لعموم روسيا لمُكافحة الثورة المُضادَّة والتخريب)، أن صدر أحد المحكومين بالإعدام يحمل وجه ستالين، حاول أن يمحوه لكنه لم يستطع، وذلك عبر الوَشْم وفق التقنية القديمة بدقّ الإبر بين طبقات الجلد فيختلط الحبر بالدم.
احتار عنصر "التشيكا" في أمره، فهو إن أمرَ الحُرَّاس بإطلاق النار فسيُصيب وجه ستالين. ولذلك أمر المُعْتَقل بأن يواجه الجدار، كي يطلق النار على ظهره، لكن ذلك لم يكن مُفيداً، فعلى ظهر السجين وَشْم آخر يحمل وجه لينين. بعد التشاور مع الحرَّاس أخرجوا السجين من القبو.
تلك الحكاية صدَّقها مَن صدَّقها، أما الوشوم فقد كانت تظهر على أجسام المُعْتقَلين الجُدُد، أي أنهم وشموا صدورهم بوجهي لينين وستالين قبل اعتقالهم. وكانوا يظنّون أن مُجرَّد الكشف عن صدورهم كاف كي يتوقّف الحرَّاس عن إيذائهم.
لكن المسألة ليست في هؤلاء، بل في انتشار فنّ الوَشْم داخل المُعتقلات والسجون السوفياتية، وهو أمر لم يكن بإمكان السجَّانين أن يحدّوا من انتشاره أو يوقفوه.
بطبيعة الحال، لم ينفع وجها لينين وستالين السجناء كثيراً، فخلال تنفيذ أحكام الإعدام كانت الرصاصات توجّه إلى الرؤوس لا الصدور. أما عن الوشوم نفسها فلم يكن من الصعب أن يُضيف الحرَّاس وشوماً فوقها لتغطيها، أو أن يلوّنوها.
إلا أنه لا توجد أية وثائق تاريخية تؤكّد كل هذه الأقاويل أو تنفيها. فالأسهل على الحرَّاس بشكلٍ عام أن يضربوا أو يصيبوا بالرصاص أماكن أخرى من جسم السجين بعيداً من الصدر، من أن ينشغلوا في تغطية الوَشْم بوَشْمٍ آخر أو تلوينه!
إلا أن للحكاية كذلك وجه آخر. فقد بدأ رسما لينين وستالين بالظهور على الأجسام في موجات الاعتقال السياسي، حيث زُجَّ بمئات آلاف ممَّن سمّوا بـ "أعداء الشعب السوفياتي" في المُعتقلات، فقضوا هناك سنوات طويلة، ما يعني أن ظهور هذين الرسمين على الجسم قد يدلّ على خضوع السجين للنظام الحاكِم، بعدما تغيَّرت نظرة السجين السياسية.
وإلى جانب لينين وستالين كان يظهر أحياناً إنجلز وماركس، كما في البوستر السوفياتي الترويجي الشهير.
لغة الوَشْم
خارج دول الاتحاد السوفياتي، لم ينتشر البحث في معاني وشوم السجون. وقد انصبّ اهتمام الشرطة الجنائية السوفياتية لعقودٍ على هذه الوشوم لما تكشفه من خفايا وارتباطات بين المجموعات والعصابات، وما لهذه الوشوم من معانٍ ودلالات.
أما في الآونة الأخيرة، وبعد صدور المُجلَّد الأول من كتاب "الوَشْم في ملفات الشرطة الجنائية الروسية"، عن دار "فيول" اللندنية بقلم الباحِث دامون موري، التفتت الصحافة إلى الموضوع، وأفردت له هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، حيّزاً للعَرْض على موقعها، ما شدّ اهتمام المواقع الإخبارية التجارية حول العالم، التي انتقت جزئيّة ظهور لينين وستالين على الأجسام واعتبرتها جاذِبة وأنها ستزيد نسبة القرَّاء لديها. على الرغم من أن هذه الجزئيّة هامشية في الكتاب والمعلومات الموثَّقة حولها ضئيلة، فأضافت إليها من عنديّاتها بما يضمن الإثارة في العرض. فعلى الرغم من صدور كتاب ضخم في ثلاثة أجزاء عن الدار عينها بعنوان "موسوعة الوشوم في ملفات الشرطة الجنائية الروسية"، إلا أن أحداً لم يعتبرها ذات بال ليتناقلها، فباتت تخصّصية تعني الباحثين في عِلم الجريمة والجنائيين.
بعيداً من الترويج، يحتوي كتاب "الوشم في ملفات الشرطة الجنائية الروسية" على معلوماتٍ قيّمةٍ حول لغة الوَشْم وثقافته، ففيه 180 صورة أصلية لوشوم عالم الإجرام، من محفوظات روسية رسمية، تعود إلى مجموعة الخبير الأول في عِلم الجريمة في وزارة الداخلية السوفياتية أركادي برونيكوف، الذي اهتمّ بتصويرالوشوم على أجسام المُجرمين الخطرين بشكلٍ خاص.
بين عام 1963 وأواخر ثمانينيات القرن الماضي، قام أركادي برونيكوف بزيارة المُعتقلات السوفياتية في جبال الأورال وسيبيريا، وجمع آلاف الصوَر التي تظهر فيها وشوم تُصوِّر الجماجم، النجوم، العيون، الملائكة، الرموز الكَنَسية والدينية، السفن الشراعية، ولينين وستالين.
أجرى برونيكوف العديد من المُقابلات مع المُدانين، وجمع المعلومات حولهم، وصورهم، وجمع هذه الوثائق.
وتعتبر مجموعته الأشمل في دراسة ظاهرة الوَشْم عالمياً. وكان برونيكوف يُساعِد الشرطة القضائية بانتظامٍ في حل القضايا الجنائية الشائِكة في جميع أنحاء روسيا السوفياتية، عبر جَمْع وتحليل المعلومات مُستخدِماً مجموعة الوشوم الخاصة به لتحديد الجُناة أو التعرّف على الجُثث.
فهذه المجموعة من الصوَر والوثائق أُعدَِّت حصرياً للاستخدام من قِبَل الشرطة الجنائية، وتهدف إلى التعرّف على لغة الوَشْم والتعمّق في فَهْمِها، وتُسْتَخَدم كأداةٍ مساعدةٍ في التعرّف على نفسيات المُجرمين.
لكن للوشوم لغة بصرية جاذِبة، وفيها الكثير من الإبداع الفني، وهي تعبِّر بشكلٍ واضحٍ عن طبقةٍ اجتماعيةٍ كاملة، إلى الكشف عن شخصية صاحب كل وَشْم، من العدواني، إلى الضعيف، أو الحزين، أو المغرور. ويكشف بالتالي عن نواحٍ غامضةٍ من حياة وفنون هذه الطبقة التي قلّما تعترف الأنظمة بوجودها.. طبقة العالم السفلي.