أليف شافاق: أنا في المنفى.. واليوم أكثر من أيّ وقت مضى

من التحرش الجنسي إلى الذاكرة التركية ومقابر المنبوذين اجتماعياً.. ماذا قالت أليف شافاق عن بلادها؟ وكيف كتبت روايتها الأخيرة؟

  • أليف شافاق: أنا في المنفى.. واليوم أكثر من أيّ وقت مضى
    أليف شافاق: أنا في المنفى.. واليوم أكثر من أيّ وقت مضى

أليف شافاق الأستاذة الجامعية، والروائية التركية المُلتزِمة، يتابع الأتراك أكثر من غيرهم أخبارها ومؤلّفاتها، وذلك رغم مُعارضة السلطة لأعمالها المُدافِعة عن حقوق المرأة والأقلّيات. ولِدَت في ستراسبورغ في فرنسا عام 1971، وهي تبلغ الآن من العُمر 48 عاماً. ربّتها أمّها الدبلوماسية، وتوزّعت سنوات حياتها الأولى بين أنقرة ومدريد وعمان. تعيش اليوم في لندن، وتكتب بالإنكليزية. ألّفت روايات كثيرة، وأغلبها من الكُتب الأكثر مبيعاً بعد ترجمتها إلى أكثر من 30 لغة. من عناوينها: "قواعد العشق الأربعون"؛ "قصر القمل"؛ "لقيطة إسطنبول"؛ "مرايا المدينة"؛  "أنا وسيّدي"؛ "الصوفي"؛ "النظرة العميقة"؛ "حليب أسود"؛ إلخ. 

في روايتها الأخيرة "10 دقائق 38 ثانية في هذا العالم الغريب"، تحاور شافاق إسطنبول عبر نسائها المُهمّشات والمنبوذات، وتقدّم صورة مُعاكسة للكليشيهات السياحية عن المدينة. تطلّ الشخصية المركزية ليلى تكيلا على القرّاء منذ الصفحات الأولى لتحكي لهم مصيرها المؤلِم في إسطنبول الفاقِدة للرحمة. 

في الحقيقة، يتعرّف القرَّاء إلى تكيلا كجثّةٍ مُلقاة في سلّة قمامة، ويستمعون إلى صوت فكرها الآتي من زمن ما بعد الموت. وذلك واضح من عنوان الرواية: الدماغ يبقى نشطاً بعد الموت مدة عشر دقائق ستستحضر خلالها ليلى شريط حياتها الأليم، وذكرياتها مع صديقاتها المُضطهدات، وحبها وزواجها من علي، المُناضل الذي احترمها وتجاهل وضعها كبائعة هوى وارتبط بها. يتخلّل ذلك استحضار لأحداث تاريخية مهمة كتدشين جسر البوسفور سنة 1973، وتظاهرات فاتح ماي 1977. والجميل في الرواية هو صراع أصدقاء ليلى لإهدائها الجنازة التي كانت تحلم بها، ودفنها قرب قبر حبيبها علي، الذي قُتَِل خلال إحدى التظاهرات.

وهنا نص الحوار الذي أجرته معها مجلة "لوبس" الفرنسية: 

  • أليف شافاق: أنا في المنفى.. واليوم أكثر من أيّ وقت مضى
    أليف شافاق: كنت أرغب في إسماع صوت أناس يُهملهم المجتمع والأدب التركيان

س: كيف ولِدَت روايتك "10 دقائق و38 ثانية في هذا العالم الغريب"؟

ج: أظهرت بعض الدراسات العلمية أنه بعد الموت، عندما يتوقّف القلب عن النبض، يظلّ الدماغ نشطاً لمدّة 10 دقائق. هذا أعطاني هيكل الكتاب، الذي يبدأ بالنهاية. ليلى، الشخصية الرئيسية، ماتت للتوّ. أُلقيت جثتها في مكبّ نفايات، لكن عقلها كان ما زال يعمل ودقيقة تلو الأخرى، تتذكّر وجودها. نسافر هكذا للخلف في تاريخها.

س: ليلى مدفونة في مقبرة المُتخلّى عنهم. هل هذا المكان موجود؟

ج: نعم، إنها مقبرة في إسطنبول لا مثيل لها. لا توجد نُصب تذكارية، ولا أزهار، ولا أسماء. المدفونون هناك أعضاء سابقون في مجتمع المثليين الذين رفضتهم عائلاتهم، وأطفال مُتخلّى عنهم، ومشرّدون، ومومِسات، والمزيد من اللاجئين الذين ماتوا وهم يحاولون الوصول إلى أوروبا. هناك، يصبح البشر أرقاماً. ذهبت في الاتجاه المُعاكس: ذهبت من الرقم لأعود إلى الكائن البشري.

الاعتداءات الجنسية والعنف القائم على النوع الاجتماعي يمثلان مشكلة كبيرة في تركيا

س: صديقات ليلى مُبعدات أيضاً، إمرأة مُتحوّلة جنسياً، وأخرى هربت من بيت الزوجية، وثالثة لاجئة ...

ج: كنت أرغب في إسماع صوت أناس يُهملهم المجتمع والأدب التركيان. كلما أصبح النظام أكثر استبدادية، كلما زاد ميله إلى فرض نموذج أوحد. وإذا لم يسعفك الحظ في مُطابقة هذا النموذج، بسبب لون بشرتك أو أصلك أو آرائك السياسية، تصبح حياتك صعبة للغاية - بسرعة كبيرة، يمكن أن يصبح أي كان شخصاً محظوراً.

س: لماذا حدّدت تاريخ وقائع الرواية في الستينيات والتسعينيات؟

ج: لا يمكن للمرء أن يفهم تركيا الحالية إذا كان لا يعرف تاريخها. على الرغم من أن كتابي تخييل خالص، إلا أن إطاره واقعي للغاية ويستند إلى وقائع تاريخية مثل حرب فييتنام أو مذبحة 1 أيار/مايو 1977 في إسطنبول. وتنتهي الرواية في التسعينيات لأنه في ذلك الوقت، تمّ التصويت على قانون لتخفيف عقوبة المُغتصبين، إذا كانت ضحيّتهم عاهِرة. تعبّأت النساء، ثم تمّ سحب القانون. إنها واحدة من آخر الانتصارات العظيمة للحركة النسوية. أردت أن أذكّر بذلك لأن تركيا بلد فاقِد الذاكِرة.

س: هل تكتبين باللغة التركية أم بالإنكليزية؟

ج: أكتب منذ 15 عاماً باللغة الإنكليزية، ثم أحيل نصّي على مُترجِم تركي. بمُجرَّد أن أتلقّى النسخة التركية، أعيد صوغها. علاقتي العاطفية للغاية مع اللغة التركية، تزعجني في بعض الأحيان. في اللغة الإنكليزية، أشعر أنني أكثر حرية. أعبِّر عن الكآبة بشكلٍ أفضل باللغة التركية، الإنكليزية هي لغة الفُكاهة والسُخرية.

س: روايتك حسيّة للغاية. لماذا هذه الكثرة من التفاصيل؟

ج: لقد كتبت هذا الكتاب في وقتٍ لم يعد بإمكاني الذهاب إلى إسطنبول وأدركت أن أكثر ما كنت افتقدته هو طعم خبز السمسم أو رائحة بلح البحر والبطاطا المقلية التي تُباع في الشارع. إسطنبول هي مدينة الروائح والأذواق والأصوات، إنها تُروى من خلال الحواس.

  • أليف شافاق: أنا في المنفى.. واليوم أكثر من أيّ وقت مضى
    رواية "10 دقائق 38 ثانية في هذا العالم الغريب"

س: في مجلة "نيويوركر"، كتبت أن الكُتّاب الأتراك لم يعد بإمكانهم أن يكونوا غير سياسيين.

ج: إذا كنت كاتباً في ديمقراطية مُهدّدة (...) فلن تسمح لنفسك بعدم الخوض في السياسة ولا بعدم التنديد بالظُلم الذي تلاحظه. من ناحية أخرى، فإن أحد الدروس التي لا حَصْرَ لها للحركة النسائية، هو أن السياسة لا تنحصر في صراعات حزبية، بل توجد في أيّ مكان توجد فيه علاقة قوّة. الكتابة عن الجنس أو عدم المساواة بين الجنسين يمكن أن تكون أيضاً عملاً سياسياً.

س: لقد كنت مؤخّراً موضوع مُلاحَقة قضائية بسبب جريمة "الفحش" في تركيا، لأن كتبك تعالج مسألة التحرّش الجنسي أو الاعتداء الجنسي على الأطفال. 

ج: لا تريد السلطات أن يتناول الكُتّاب هذه الموضوعات. الأمر المفارِق والمأساوي هو أن الاعتداءات الجنسية والعنف القائم على النوع الاجتماعي يمثلان مشكلة كبيرة في تركيا. تقريباً واحدة من كل ثلاث زيجات تكون ضحيتها فتاة صغيرة، وفي السنوات الأخيرة، زاد العنف ضد المرأة بنسبة (غير مسبوقة). بدلاً من التحرّك، وفتح الملاجئ، وتغيير القانون، يأمر المحافظون المُتطرّفون بإجراء تحقيقات بخصوص الروايات!

أعبِّر عن الكآبة بشكلٍ أفضل باللغة التركية، الإنكليزية هي لغة الفُكاهة والسُخرية

س: أسلي إردوغان، أحمد أطلان، والعديد من الكُتَّاب الأتراك سُجِنوا أو ما زالوا في السجن. 

ج: تحتفظ تركيا بسجلٍ مُحزِنٍ لعدد الصحافيين المسجونين. لقد فقد العديد من الأكاديميين وظائفهم بسبب توقيع على عريضة. وتتم مُقاضاة الكُتّاب أو الرمي بهم في السجن بسبب مقابلة أو مقال أو كتاب أو إعادة نشر تغريدة فقط. إذا تجرّأت على الحديث عمّا يجري فعلاً في تركيا، فأنت متّهم بالرغبة في تشويه صورة البلد.

س: هل تعتبرين نفسك في المنفى؟

ج: نعم، منذ زمان، ولكن اليوم أكثر من أيّ وقت مضى ..

تقديم وترجمة: عبد الرحيم نور الدين