إدغار موران.. عن "كورونا" وحياتنا التي يجب أن تتغير
يضعنا "كورونا" اليوم أمام أنفسنا، وأمام حقائق تتعلق بهويتنا الإنسانية في عالم استهلاكي متوحش. فما هي رؤية الفيلسوف الفرنسي ادغار موران للوباء؟ وما الذي يتوجب علينا فعله اليوم قبل الغد؟
في حوار أجري معه قبل أسبوعين مع مجلة "لوبس" الفرنسية، يناقش إدغار موران انتشار وباء "كورونا". ويقدم الفيلسوف الفرنسي صاحب "الثقافة والبربريّة الأوروبيّة" و"إلى أين يسير العالم؟" رؤيته لهذا الوباء، من موقع العارف بالعولمة وما تنتجه من أزمات توجب علينا البحث عن حلول عالمية بديلة، ليس أقلها إعادة النظر بأنماط معيشتنا وأهمها الإستهلاك المتوحش والروابط العائلية والإنسانية والمصير البشري المشترك. وهنا نص الحوار الذي ترجمه لنا عبد الرحيم نور الدين.
س: ما هو الدرس الرئيسي الذي يمكن استخلاصه، في هذه المرحلة، من جائحة فيروس "كورونا"؟
ج: تظهر لنا هذه الأزمة أن العولمة هي بمثابة ترابط متبادل من دون تضامن. من المؤكّد أن حركة العولمة أنتجت التوحيد التقني والاقتصادي لكوكب الأرض، لكنها لم تجعل التفاهم بين الشعوب يتقدّم. منذ بداية العولمة في التسعينيات، هيمنت الحروب والأزمات المالية. وخلقت المخاطر الأرضية - البيئة، والأسلحة النووية، والاقتصاد المفتقر إلى القواعد التنظيمية- مصيراً مشتركاً للبشر، لكن هؤلاء لم يدركوا ذلك. اليوم، يوضح الفيروس هذا المصير المشترك بشكل مباشر ومأساوي. هل سنعي بذلك أخيراً؟ في غياب التضامن الدولي، والمنظمات المشتركة لاتخاذ تدابير مناسبة لنطاق اجتياح الوباء، نشهد انغلاقاً أنانياً لكل أمة على ذاتها.
س: تطرّق الرئيس ماكرون في خطابه إلى خطر "الانغلاق القومي"..
ج: هذه هي المرة الأولى التي نستمع فيها إلى خطاب رئاسي حقيقي. لم يتعلّق الأمر فيه بالاقتصاد والأعمال فقط، بل أيضاً بمصير جميع الفرنسيين، المُعالَجين والمُعالِجين، والعمال الذين أجبروا على البطالة الجزئية. إن تلميحه إلى النموذج التنموي الذي ينبغي تغييره هو بداية الطريق. ومع ذلك، فإن ترياق الانغلاق القومي ليس هو الانغلاق الأوروبي، لأن أوروبا عاجزة عن الاتحاد بهذا الخصوص؛ وإنما هو تشكيل تضامنات دولية بدأها الأطباء والباحثون من جميع القارات.
س: في رأيك، ما هي التغييرات التي ينبغي القيام بها؟
ج: يخبرنا فيروس كورونا بقوّة، أنه يتوجّب على البشرية كلها أن تبحث عن مسار جديد يتخلّى عن العقيدة النيوليبرالية، من أجل صفقة سياسية جديدة اجتماعية وبيئية. ومن شأن المسار الجديد أن ينقذ ويقوّي الخدمات العامة مثل المستشفيات التي عانت في أوروبا من تقشّف غير معقول منذ سنوات عديدة. وسيصحّح المسار الجديد انعكاسات العولمة من خلال إنشاء مناطق متخلّصة من العولمة، من شأنها حماية عدد من الاستقلاليات الذاتية الأساسية.
س: وما هي هذه "الاستقلاليات الأساسية"؟
ج: أولاً، الاكتفاء الذاتي من الغذاء. في وقت الاحتلال النازي، كانت لدينا زراعة فرنسية متنوّعة أتاحت إطعام السكان من دون مجاعة، على الرغم من الافتراسات الألمانية. اليوم، نحن بحاجة إلى إعادة التنويع. ثم إن هناك استقلالية صحية. اليوم، يتم تصنيع الكثير من الأدوية في الهند والصين ونحن معرّضون لخطر النقص الفادح. ينبغي الرجوع إلى التصنيع المحلي لما هو حيوي للأمّة.
س: هل تفاقم العولمة الأزمة الصحية بحيث تحوّلها إلى أزمة عامة؟
ج: لقد حدث ذلك بالفعل. فعندما يقرّر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الحفاظ على نسبة إنتاج النفط الروسي، فإن ذلك يؤدّي إلى انخفاض الأسعار في المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة حيث قد تواجه تكساس صعوبات خطيرة وربما قد يخسر ترامب في الانتخابات الرئاسية القادمة.
إن الذعر يؤثّر أيضاً على المموّلين، مما يتسبّب في انهيار للبورصة. نحن لا نتحكّم في هذه التفاعلات المتسلسلة. إن الأزمة التي كان سببها الفيروس، تُفاقم الأزمة العامة للبشرية التي جرفتها قوى جاهِلة لا تتقيّد بأيّ تحكّم.
س: إذا ما قارنا ما يجري حالياً بالأنفلونزا الإسبانية لسنتي 1918-1919، التي كانت موضوعاً لتكتّم شديد من جانب السلطات، فإننا نلاحظ ممارسة الحكّام للشفافية.. أليس هذا مفعولاً إيجابياً للعولمة؟
ج: في زمن الإنفلونزا الإسبانية، لم تكن السلطات تريد أن يدرك الناس، وخاصة المقاتلين، هذه الآفة. هذا التعتيم مستحيل اليوم (...) لقد مكّنتنا شبكات المعلومات من أن ندرك تقدّم هذا الوباء في كل بلد على حدة. لكن ذلك لم ينشأ عنه تعاون على مستوى أعلى. التعاون الوحيد الذي أطلق، كان تعاوناً دولياً عفوياً بين الباحثين والأطباء. لا تستطيع "منظمة الصحة العالمية" ولا "منظمة الأمم المتحدة" توفير وسائل المقاومة للبلدان التي تعاني من الحرمان.
س: "لقد عدنا إلى وقت الحرب": غالباً ما تأتي هذه العبارة لوصف الوضع في إيطاليا وفرنسا. لقد عشتَ هذه المرحلة. بماذا يوحي لك هذا التماثل؟
ج: في ظل الاحتلال النازي، كانت هناك ظواهر من الحبس والعزلة المنزلية، كانت هناك غيتوات.. ولكن الاختلاف الكبير مع الوضع الحالي هو أن إجراءات العزلة المنزلية فرضها العدو، بينما هي مفروضة الآن ضد العدو، أي الفيروس. بعد أشهر قليلة من الاحتلال الألماني، بدأت قيود التموين تظهر.
لم نصل بعد إلى ذلك الحد، على الرغم من أن هناك بوادر ذُعر. ولكن إذا استمرت هذه الأزمة، مع انخفاض نقل البضائع على المستوى الدولي، يمكننا أن نتوقّع عودة تقنين التموين. هنا ينتهي التماثل. فنحن نواجه حرباً من نوع آخر.
س: لأول مرة منذ عام 1940، تم إغلاق المدارس والجامعات ...
ج: نعم، ولكن في ذلك الوقت، لم يكن الإغلاق إلا لفترة وجيزة. وقعت هزيمة فرنسا في حزيران/يونيو، شهر بداية العُطَل. وفي تشرين الأول/أكتوبر الموالي، أعيد فتح المدارس.
س: ما الذي يمكن أن نتوقّعه من الحَجْر الصحي؟ هل هو الخوف؟ أم انعدام الثقة بين الأفراد؟ أو على العكس من ذلك، تطوير علاقات جديدة مع الآخرين؟
ج: إننا نعيش في مجتمع عرف تدهور بنيات التضامن التقليدية. إحدى المشاكل الكبيرة هي استعادة أنواع التضامن، بين الجيران، وبين العمال، وبين المواطنين.. مع الإكراهات التي نمر بها، سيتم تعزيز أنواع التضامن بين الآباء والأطفال الذين توقفوا عن الذهاب إلى المدرسة، وبين الجيران. سوف يتم المساس بقدراتنا الاستهلاكية ويتوجّب علينا الاستفادة من هذا الوضع للتفكير مجدّداً في النزعة الاستهلاكية، أي بعبارة أخرى الإدمان، أو "الاستهلاك المخدر"، وتسمّمِنا بمنتجات من دون فائدة حقيقية، ولتخليصنا من الكمّ لصالح الكيف.
س: علاقتنا بالزمن، ربما قد تتغيّر هي أيضاً..
ج: نعم. بفضل الحَجْر الصحي، وبفضل هذا الوقت الذي استعدناه، والذي لم يعد متقطّعاً، ولا موقوتاً بدقة، هذا الوقت الذي يتخلّص من دوّامة "مترو - عمل – نوم"، يمكننا أن نعود إلى أنفسنا، ونعرف ما هي احتياجاتنا الأساسية، أي الحب والصداقة والحنان والتضامن وشاعرية الحياة.. يمكن للحَجْر الصحي أن يساعدنا على البدء في تطهير نمط حياتنا من السموم، وفَهْم أن العيش بشكل جيد يعني تفتّح الـــ "أنا" الذاتي، ولكن دائماً داخل جماعات الــــ"نحن" المتنوّعة.
س: أخيراً، هل يمكن بشكل مفارق، أن تجلب هذه الأزمة معها الخلاص؟
ج: لقد تأثّرت كثيراً برؤية هؤلاء النساء الإيطاليات، في شرفات منازلهن، يغنين ترنيمة الأخوة "فراتيلي دي إيطاليا" (إخوان إيطاليا). يجب علينا استعادة التضامن الوطني، ليس التضامن المنغلق والأناني، بل المنفتح على مصيرنا المشترك "الأرضي".. قبل ظهور الفيروس، كان البشر من جميع القارات يعانون من المشاكل نفسها: تدهور المحيط الحيوي، انتشار الأسلحة النووية، والاقتصاد غير المنظم الذي يزيد من الفوارق الاجتماعية.
هذا المصير المشترك موجود، لكن بما أن العقول قلقة، بدلاً من الوعي به، فإنها تلجأ إلى الأنانية الوطنية أو الدينية. بالطبع، إن التضامن الوطني ضروري، ولكن إذا لم نفهم أننا بحاجة إلى وعي مشترك بمصير الإنسان، وإذا لم نحقّق تقدماً في التضامن، وإذا لم نغيّر نمط التفكير السياسي، فإن أزمة الإنسانية ستزداد سوءاً. رسالة الفيروس واضحة. الويل لنا جميعاً إذا كنا لا نريد سماعها.
المصدر: مجلة "لوبس" الفرنسية، عدد 2889، من 19 إلى 25 مارس/آذار 2020.