حب واحتراق ورسائل غرام لا تنتهي.. ما سرّ عشق الأدباء للأديبات؟
أنسي الحاج وغسان كنفاني وغادة السمان،ثم نزار قباني وكوليت الخوري وغيرهم .. لماذا يقع الأدباء في غرام الأديبات؟ ولماذا يتبادلون الرسائل؟
«للرسالة سحر أبيض لا أسود، يتحوَّل فيها المرء إلى رقعة ملساء نقية إسمها الورقة، وتخطّ الروح فوقها رموز الصدق. الرسالة جموح القلب إلى المستحيل، وشهيّة الأشواق إلى تقمّص اللغة حتى البقاء»، هذا ما أوردته الأديبة السورية غادة السمّان في محاولة تقديمها الثانية لرسائل غسان كنفاني لها، تحت عنوان "وفاء لعهد قطعناه".
كأن السمان بعبارتها تلك تُحدِّد أركان جماليّات الرسالة الأدبية من صدق البوح وغزارة المشاعر وتخطِّي الزَّمن، بحيث تتأنسن الرسائل، وتتكثّف ملامح كاتبها، ويُصبِح صوته الداخلي أوضح وأعلى نبرةً، حتى أنها علَّلت نشرها ما خطّته يد كنفاني لها بالقول: «لأشهر صوته على الذاكرة كالخنجر»، وذلك ضمن مقالة نشرتها في مجلة "الهدف" البيروتية في تموز/يوليو عام 1979 في الذكرى السابعة لاستشهاد صاحب "عائد إلى حيفا".
وأكدت الكاتبة السورية حينها أن تلك الرسائل العتيقة لم تعد مِلكاً لأحد، وإنما تخصّ القارئ العربي كجزءٍ من واقعه الأدبي والفكري، كما أنها تدخل في باب الوثائق الأدبية أكثر مما تدخل في باب الرسائل الشخصية بعدما انقضى أكثر من ربع قرنٍ على كتابتها، إضافة إلى أن نشرها سيُسهم في إحياء ذكرى الأديب الراحل، وإبراز الجانب الإنساني من شخصيّته النضالية.
دافِع نرجسي
ترى غادة السمّان في هذه الخطوة أيضاً فضحاً للنفاق والزيف الاجتماعي الذي يصادر حق المرأة في التعبير عن ذاتها، ويقسرها على مُسايرة التقاليد وكِتمان علاقاتها الخاصة خشية المجتمع، لاسيما في «عصر التراجُع صوب أوكار تزوير المشاعر البشرية الجائِعة إلى الحرية»، كما تقول صاحبة "أعلنت عليك الحب"، مع عدم إنكارها لدافعها النرجسي من وراء نشر الرسائل، وهو ما عبَّرت عنه بقولها في مقدِّمتها: «ها أنا أستجوب نفسي في لحظة صدقٍ وأضبطها وهي تكاد تتستَّر على عاملٍ نرجسي لا يُستهان به: الفخر بحب رجل كهذا أهدى روحه لوطنه وأنشد ما معناه: مولاي وروحي في يده/ إن ضيَّعها سلمت يده، وأعتقد أن كل أنثى تزهو ولو سراً بعاطفةٍ تُدغدغ كبرياءها.. وأنا بالتأكيد لا أستطيع تبرئة نفسي من ذلك جزئياً»، لتعود وتؤكِّد مرة أخرى أن نشر تلك «الوثائق الأدبية» كان أمانة في عنقها، لأنها من حق المجتمع، وتدخل في باب أدب البوح والاعتراف.
وهذا اللون شبه مفقود في الأدب العربي وهو أحوج إلى التشجيع، فرسائل غسان كنفاني، كما تراها، هي جزء من أدبه الذي هو ملك للناس بعد موته، ولا يجوز أن يُكتم بل إن دافِع الوفاء الشخصي لغسان يقتضي رد جميله، كما تؤكِّد أنها بنشرها لتلك الرسائل تعارض الميل الدائم في الأدب العربي لرسم المناضل في صورة السوبرمان، وتحييده أمام السحر الأنثوي وتنجيته من التجربة، بحيث يتمّ تحويله من رجلٍ إلى تمثالٍ في الكواليس المسرحية السياسية، رافضةً أن تؤذي الحقيقة من خلال إبقاء تلك الرسائل طيّ الكتمان التي أهداها إليها «رجل لم يكن قلبه مضخَّة صدئِة». تقول السمّان: «كما أن للحقيقة سطوة ترفض مُجاملة الزيف، وركوعاً مني لسطوتها سأنشر رسائل زمن الحماقات الجميلة من دون تعديلٍ أو تحوير، لأن الألم الذي قد تُسبِّبه لآخرين عابرين مثلي هو أقل من الأذى اللاحِق بالحقيقة إذا سمحت لقلمي بمُراعاة الخواطر».
ورغم رغبة صاحبة "الجسد حقيبة سفر" في الحصول على رسائلها إلى كنفاني لتقوم بنشرها إلى جانب رسائله لها، حتى تكون الحقيقة بوجهيها أمام القرّاء، إلا أنها لم تستطع لذلك سبيلاً، وإمعاناً في المُفاجأة قامت السمّان بعد رحيل أنسي الحاج بنشر رسائله لها، وإعلانها بأنها لم تكتب له أية رسالة لأنهما كانا يلتقيان كل يوم تقريباً في مقاهي بيروت، لتكون الحقيقة بوجهٍ واحدٍ مرة أخرى، مع اعترافها بأنها عجزت عن تمزيق رسائله الرائعة أدبياً، مُعتبرةً نفسها واحدةً من المُلهمات الألف للشاعر الذي لا يمتلك سوى حبيبة واحدة هي الأبجدية، وحب لا يخونه طوال العُمر إسمه.. الشعر.
سطوره معرَّشة ببخور الكلام
من الرسائل التي ما زال القُرَّاء ينتظرونها بشغفٍ كبير، هي ثلاثون رسالة من نزار قباني أرسلها للأديبة السورية كوليت خوري بعد فراقهما إثر قصة حب عاصفة جمعتهما في خمسينيات القرن الماضي، وكانت صاحبة "أيام معه" أعلنت أكثر من مرة عن نيَّتها بنشر هذه الرسائل وفق تسلسلها الزمني مع 16 رسالة أخرى كانت تبادلتها مع قباني وحصلت عليها من إبنة الشاعر هدباء.
لكن المشروع ما زال في الأدراج، ورغم عدم قُدرتنا على التواصُل مع الأديبة، نُمِيَ إلينا أن وضعها الصحي ليس جيّداً، وأن هناك أحد أصحاب دور النشر البيروتية يُحاول ابتزازها بادعائه الحصول على رسائلها لنزار، لكنها تُعلن له باستمرار أنها لم تفعل شيئاً في حياتها تخجل من الإفصاح عنه، ومن ذلك إعلانها في ندوةٍ جاءت بمناسبة الذكرى الثامنة لرحيل قباني بأن رسائله تفصح عن إنسانٍ عاطفي ينضح بالحزن، ولم يكن يفهمه أحد سواها، وأن سطوره كانت «معرَّشة ببخور الكلام».
ذكريات ملوَّنة
أما ما أُفرِج عنه أخيراً فهو رسائل بالاتجاه المعاكس هذه المرة، من الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان إلى الصحافي الفلسطيني الأردني سامي حداد، وذلك ضمن كتاب "رسائل حب إلى سامي حداد" عن دار أزمنة في عمّان.
وجاء في مقدِّمة الكتاب بقلم الشاعر والناقد المغربي عبد اللطيف الوراري بأن تلك الرسائل التي كُتِبَت أواسط سبعينيات القرن المنصرم تضمَّنت «جوانب مهمّة من سيرة حياة طوقان وشعرها ومواقفها من الأشياء والوجود، ومن ذلك آراؤها حول أحوال العرب في زمن الهزائم، ووصفها للحياة تحت الاحتلال، وتقييمها للأحداث السياسية هنا وهناك، وتأمّلها في عصرها المُصطَخِب بالأحداث والأكاذيب والخسارات الجماعية».
هذا الأمر اعتبره الوراري مُبرِّراً آخر يُضاف إلى قيمة هذه الرسائل، إلى جانب تبيانها كيف تحوّلتْ قصة الحُبّ الحالِمة في لحظةٍ إلى هزليّةٍ مُضحِكة، ثُمّ إلى مأساةٍ حكمت على كل شيء بالانتهاء.. إِلّا الذكريات الملوَّنة، لكن «هذه المُراسلات بدورها تبقى ناقصة أيضاً ما دامت ردود سامي حدّاد عليها لم تُنشَر بعد، وبالتالي عدم إمكانية الوقوف على طرفيْ العلاقة وتفاصيلها وطبيعة تطوّرها وصولاً إلى نهايتها»، كما يشير الناقد المغربي.
الرسائل شخصيات معنوية
أما ما يتعلّق بالدافع وراء احتفاظ الأدباء بمُراسلاتهم مع أقرانهم في الأدب، ورغبتهم بنشرها بعد الموت، فله العديد من الأسباب منها ذاتية الأديب ورغبته في إعادة تسليط الضوء عليه، أو لإيضاح صورة الأديب الراحل، أو صورته هو في عيون ذاك الأديب، مع التأكيد باستمرار على أن «الرسائل شخصيات معنوية حيّة، ومن الظلم أن تعيش حياتها في سجنٍ مُظلِم، حتى إذا رأت النور كان نصيبها التمزيق، ثم الموت»، كما يقول الباحث "سامي الكيالي" في دراسته "الرسائل الخاصة" ونشرتها مجلة "المجلة" في عددها رقم 48 وصدرت عام 1960.
كما أن للرسائل أثرها في الكشف عن الكثير من مكنونات الصدور، وقيمتها، بحسب الكيالي، فهي تعبّر تعبيراً صادقاً عن أحاسيس تختلج في ضمير كاتبها، وكلماتها تنسال من قلم مرسلها بصورةٍ عفوية، وكثيراً ما يبوح بأشياء قد لا يبوح بها إذا علم أنها ستُذاع وتُنشَر.
ولو أيقن أن أحداً غير الذي كُتِبت له سيطّلع عليها لآثر أن تظل حبيسة في صدره. وسر ذلك، بحسب الكيالي، أن «الإنسان يكتب إلى مَن اصطفاه بودِّه وائتمنه على سرّه، يشعر وكأنه يكتب إلى ذات نفسه»، وفوق ذلك فإن "الرسالة الشخصية هي انطلاق وتحرّر من كل قيد، وقد يلجأ الكاتب في غيرها إلى بعض التعمُّل والمُسايرة، أما فيها فلا، لأنها مرآة لروح الكاتب أكثر منها لأدبه»، كما يوضِح الباحث "عبد اللطيف الأرناؤوط" في كتابه "تأمّلات في رسائل الأدباء".
التّعرّي أمام الأشباح
وعلى ندرة الرسائل بين أدبائنا العرب، لاسيما تلك الموجّهة من أديبةٍ إلى أديب، إلا أن الغرب زاخِر بمثل هذه الأنماط الأدبية، وربما أن تحرّر مجتمعاتهم أبرز أسباب ذلك.
ذلك أن القارىء يرى الحميمية واضحة ومن دون مواربة، وثمة إعلاء لشأن الشهوة بكافة أشكالها، ومن ذلك رسائل الحب المُتبادَلة بين هنري ميللر وأناييز نين، وهناك ما يُوازيها في علاقة جان بول سارتر بـسيمون دو بوفوار المعروفة تاريخياً بوهجها العاطفي، وأيضاً رسائل الشاعر الألماني راينر ماريا ريلكه لمحبوبته لو أندرياس سالومي، وغيرهم الكثير ومنهم فرانز كافكا في رسائله إلى محبوبته ميلينا، التي أقرَّ فيها بأن الكتّاب يتعرُّون في رسائلهم، وكتب ذات مرة: «أن تكتب رسالة معناه أن تتعرَّى أمام الأشباح. وتنتظر هي هذه اللحظة بجشع. القبل المكتوبة لا تصل إلى وجهتها، الأشباح ترتوي منها في الطريق. بفضل هذا الغداء الشهيّ، تتضاعف بشكلِ مُذهِل».
أدب الرسائل على أهميّته، بات خاضغاً اليوم لطبيعة العصر ومعاييره الجديدة، إذ تم استبدال الورقة بالشاشة والقلم بالكيبورد، وفي بعض الأحيان الاستعاضة عن المشاعر الحقيقية بقلوب ملوَّنة، وصوَر مُتحرّكة، وكأن اللغة تبدَّلت، ورومانسيّتها الجميلة أخذت طابعاً آخر بعيداً عن رائحة الورق والحبر.