"الأرض الأمّ": في كل زمان وأرض هناك عشتار
من خلال نظرته للنساء يَراهُنَ البريحي في الحقول مُنحنيات لصنع خصب الأرض.
يعود الفنان السوري أنس البريحي إلى مسقط رأسه السويداء، ويعود منها، حاملاً طيّبات ما صنعته أيادي نسائها العامِلات في الحقول، مُفعَماً بثقافة أولى الحضارات في التاريخ، سومر وأكاد، حيث تمتزج الطيّبات المُكعّبة الولادة في ثلاثيّة خصب الآلهة مُتفاعِلة بالأنثى- الأمّ، والأرض- الأمّ. ثلاثية طالما شكَّلت ثقافة وإيديولوجيا عصر الحضارات القديمة التي أسَّست للحضارات الإنسانية اللاحِقة.
ولِدَ الفنان في السويداء السورية حيث ينتشر عَبَق ذلك العصر، ولا ينفصل عنه، فيرحل مُفعَماً بصوَره، وآياته، ورؤاه، ليجذبه من جديدٍ إليه عاجزاً عن الانفكاك من مؤثّراته الطبيعية عليه، وهو المجبول بخصب الأرض، وخصب الأمّ، وتكامُل تفاعُل الآلهة معهما.
في ظلّ تعقيدات الأحاسيس التي انتابته، فشكَّلت منه حال انجذاب حنينية لمسقط رأسه السويداء، وانجذاب مُضاد حيث يعيش في بيروت، وفي ظلّ عملية الانسلاخ التي يتعرَّض لها المجتمع التقليدي بكل عناصره، خصوصاً الإنسان، ومنها إلى مصدر حداثة الرزق على أكتاف الثقافة المُعاصِرة، قدَّم أنس البريحي مجموعة من لوحاته في معرض لم يستطع التفلّت من العودة القسرية به إلى هاجسه الأمّ، وهاجسه الآخر المُتمِّم له الأرض، فكان "الأرض الأمّ" (Mother Earth) معرضه الجديد في غاليري "أجيال" في الحمراء في بيروت.
الأمّ والأرض رمزا الخصوبة، ورمزا استمرار الحياة، تربطهما هالة الألوهة التي ما انفكّت تشغل الإنسان منذ كينونته الأولى. هي مصادر إلهام البريحي في معرضه الجديد، فلم يقوَ على التفلّت منها، وصورة المرأة منحنية فوق تراب الأرض، تنغرز يدها بالتراب، كأنها تعطيه طبيعة الخصب المُتكوّن فيها، يتفاعلان لوحات فنية، في معرضه الجديد.
أكثر اللوحات تجسيداً لحال البريحي، ولما يمثله من التفاعُل الثلاثي للخصب - الأرض والمرأة والآلهةـ هي لوحة "أمّ الغيث"، يُجسّد فيها البريحي ثقافة محيطه، وإيديولوجيا بيئته، ومناخات مجتمعه. و"أمّ الغيث" رواية تجمع الأسطورة مع الواقع، عبر مُعتقدات مُتخيّلة لدى المجتمعات التقليدية.
أشخاص كثيرون في حالٍ تفاعلية مع الطبيعة، بزهورها، وأشجارها، وطيورها، بما تكتنفه من دمى التخويف التي استخدمها المزارعون لحماية جناهم، ورايات وأثواب مُزدانة بألوان الأرض، مُتّشحِة بالزهور، والطيور، وعناصر الطبيعة، وجناها، تكتمل بصورة الآلهة تعلو اللوحة، كأنها مُلهِمة لحركتها، إنها الإلهة "عشتار"، رمز الخصب المتوالد في ثنائية الأمّ والأرض.
و"أمّ الغيث" هي حال رمزية لجأ إليها سكان تلك المجتمعات أيام الجفاف، وشحّ الماء، يقيمون لها الطقوس علّها تكافئهم ببعض مطر يروي ظمأ أرضهم، ويُثير خصبها.
يتساءل الفنان البريحي عن سبب اعتماد "أمّ الغيث" لصلاة الاستسقاء، بدلاً من الإله، ذلك أن "الذكور بصلابتهم، وقوّتهم، يمتلكون في داخلهم إناثاً حسَّاسة كالضوء، فتتشكّل كل الدوائر إناثاً ملوّنة"، على حد قوله للميادين الثقافية.
من خلال تلك النظرة للنساء، يَراهُنَ البريحي في الحقول مُنحنيات لصنع خصب الأرض، رسم لوحاته كلها، منها ما هو على الكانفاس، ومنها ما هو على الكرتون، ألواناً زاهية، وصوَراً تجريدية، تتماهى الأجساد فيها مع الطبيعة. نساء مُنحنيات، مُتلاصِقات بالأرض الأمّ. يقول البريحي: رمزية النساء التي رسمت تُحاكي الألوهة المؤنّثة..تحاكي أمّنا الأرض.. تذكّرت أهلي يصنعون قوتهم بحب.. فنضجت مقاييس الحب في مُخيّلتي... لأقدّم التحية لكل النساء اللاتي تنحنينَ للأرض"، وكأن كل النساء بنظره هن "الإلهة عشتار".
ويختم عن المعاني المُتضمّنة في معرضه: "عشتار كانت إلهة الخصوبة.. وفي كل زمان وكل أرض.. هناك عشتار تشبه بيئتها".
البريحي (1991) نال شهادة الإجازة (2014) من جامعة دمشق للفنون الجميلة، وبسبب اندلاع الأحداث السورية، انتقل إلى بيروت لينال شهادة الماجستير في عِلم النفس والعلاج بالفنون من الجامعة اللبنانية. له معارض فردية أخرى منها "صائِد الحلم" في غاليري أجيال 2018، و"منال" سنة 2017 في صالات في بيروت والأردن، كما شارك في معارض جماعية في الولايات المتحدة، والبحرين والكويت وبيروت بين 2015 و2017.