عن محمد حسن خليفة الذي نظر والده ناحيته وابتسم

لم يُشبع زميلنا الشاب محمد حسن خليفة فرحته بمجموعته القصصية الأولى. لم يبلغ حفل توقيعه، لكنه مات داخل معرض القاهرة للكتاب بين الكتب التي أحبها وأحبته.

  • عن محمد حسن خليفة الذي نظر والده ناحيته وابتسم
    سيرة الغائب.. كيف أنهى محمد حسن خليفة قصته الأخيرة؟

أحب القصص القصيرة حتى يبدو لنا أنه جعل من إحداها عنواناً لسيرته التي انتهت بشكل مفجع. إذ كتبها بجمل مكثفة ولغة دافئة حنونة، قبل أن ينهيها بدهشة. فميلاده في قرية الشوبك الغربي في الجيزة، في 6 نيسان/أبريل 1997، لم يكن يوحي بشيء غريب لأهل قريته، حتى أنهم لم ينتبهوا لصوت بكائه. فالقرية الصغيرة نسبياً اعتادت بكاء الأطفال، غير أن وفاته في أول أيام "معرض القاهرة للكتاب" في دورته الـ51، جعلت الجميع يسمعون صدى هذا البكاء.

البداية كانت في صباح 23 كانون الثاني/يناير 2020. كعادته، استيقظ الزميل في الميادين الثقافية محمد حسن خليفة مبكراً، حيث معرض الكتاب الذي سيفتح أبوابه للجمهور، وهو اليوم الذي كان بمثابة عيد للكاتب الشاب الشغوف بالقراءة. ارتدى ملابسه ونزل من بيته مودعاً والدته، حسبما صرحت لإحدى القنوات التلفزيونية المصرية.

استقل خليفة سيارة أجرة من قريته إلى ميدان الجيزة قاصداً المعرض، حيث تنتظره مجموعته القصصية الأولى بعنوان "إعلان عن قلب وحيد"، لكن، ليلقي عليها النظرة الأولى والأخيرة! هذا الشاب الذي انشغل بالأدب منذ العام 2015.

ربما في طريقه إلى المعرض تذكر خليفة يوم أرسلت له دار "الكنزي" خبر موافقتها على نشر مجموعته القصصية. كان تقييم اللجنة التابعة للدار بأن المجموعة التي تضم 17 قصة قصيرة غلبت عليها الواقعية السحرية، وأن كاتبها لا بدّ وتجاوز الستين من عمره، لا شاباً عشرينياً يبدأ مسيرته مع النشر. هذا ما أعلنه محمد صلاح، رئيس مجلس إدارة الدار للميادين الثقافية.

ترجل خليفة من السيارة ثم استقل مع الناس حافلة تقلهم إلى أبواب المعرض. لا ندري ما الذي كان يشعر به حينها. ربما في طريقه تذكر يوم جلس يكتب قصته "إعلان عن قلب وحيد"، في التاريخ الذي في ذيل الصفحة، 4.27 صباحاً من يوم 31 كانون الأول/ديسمبر 2017، كما جاء في النسخة التي أرسلها لي الراحل قبل وفاته، والتي بدأها قائلاً: "إعلان عن قلب وحيد وجدته مُعلقًاً على بعض الجدران في الشارع، عبارة عن ورقة بيضاء مكتوب في منتصفها، قلب وحيد ورسمة لقلب منكسر، لم أجد توقيعاً، ولا أي معلومة أو وسيلة تدلني على صاحب الإعلان".

كشفت تلك القصة سرّ محمد الدفين الذي أخفاه كثيراً خلف ضحكته التي يقابل بها الجميع. لم يكن للموت مكانٌ في حديثه، كما لم يجد المرض موطئاً بينه وبين من عرفوه. لم يعرف أحدٌ سرّ ذلك الثقب في قلب محمد الذي نفذ منه أصدقاؤه إليه فأحبهم وأحبوه! لكن في الوقت ذاته منع عنه الهواء أحياناً فكان يختنق ويدخل المستشفى للعلاج. 

  • كيف أنهى محمد حسن خليفة قصته الأخيرة؟

يروي صديقه الشاعر أحمد عايد للميادين الثقافية القصة. يتذكر ليلة شتوية جمعته بمحمد حسن خليفة، أخبره فيها أنه مصاب بأمراض حساسية. هنا كشف له خليفة أنه هو أيضاً مريض قائلاً: "هل تعرف يا صديقي أن لديّ ثقباً في القلب؟ لقد ولدت به. كثيراً ما أصاب بضيق في التنفس واحتجزت في المستشفى مرات". تذكر عايد أنه حينذاك تعجب من مرض صديقه غير الظاهر، ويضيف "لكن ابتسامة خليفة طوت الموضوع فعرجنا إلى حديث آخر، بعدما نصحته بالاهتمام بمرضه والاعتناء بنفسه أكثر".

ربما استجاب خليفة لنصيحة صديقه، حتى أن جميع من عرفوه لم يلحظوا مرضه. لكن في ذلك اليوم لم يكبح خليفة شهوة حبه للقراءة، فبعد وصوله إلى المعرض دخل من بابه بعد أن وقف طويلاً في طابور الزوار، ثم ذهب سريعاً إلى مقصده. إلى دار "الكنزي" حيث تقف مجموعته القصصية الأولى منتظرة كاتبها.

سرعان ما وجد نفسه أمام مجموعته التي حلم بإصدارها كثيراً. نظر إليها مبتسماً كعادته. تأمل الإهداء إلى والده الذي توفي مبكراً، تاركاً عائلة من ثلاثة أطفال في رعاية أمهم ربة المنزل. ظل محمد متعلقاً بوالده، حتى أنه أهداه مجموعته: "إلى والدي رحمة الله عليه"، وبحسب منشور له على "فيسبوك" فقد كان ينوي أن يجعله إهداءه الدائم لأعماله المقبلة، لكن القدر لم يمهله لكتابتها.

اتسعت ابتسامة الشاب أكثر، ربما تخيل أصدقاءه الذين سيأتون إلى حفل توقيعه، لكنه عاد وتذكر أن ذلك سيكون بعد ساعات؛ فاستيقظ القارئ النهم في داخله. وبحكم مشاركته في تنظيم بعض معارض الكتاب ضمن فريق ثقافي يدعى "ميكرفون"؛ يعرف الكاتب الشاب أماكن الشراء بأسعار مخفضة فقرر أن يبدأ جولته. كان منفذ البيع في "الهيئة العامة لقصور الثقافة" ما زال مغلقاً، والجماهير محتشدة أمامه، بينما هو محشور وسطهم يفكر في العناوين التي سيقتنيها. حينها انفتح الباب وتدافع الجميع. 

لكن الشاب النحيل محمد حسن خليفة سقط بينهم، وبينما كان يصارع للنجاة ضاق تنفسه وانقطع. الثقب في قلبه الذي ولد معه اتسع مبتلعاً فرحته وعمره، فتوفي قبل وصوله إلى مستشفى "الدفاع الجوي" بصحبة أحد أصدقائه الذي انتظر أهله حتى جاؤوا إلى المستشفى فحملوه جثة إلى مثواه الأخير، تاركين خلفهم مجموعته القصصية التي لم يشبع محمد من فرحته بها، بينما راح الأصدقاء والجماهير يتهافتون على شراء عمله الأول والأخير. 

  • عن محمد حسن خليفة الذي نظر والده ناحيته وابتسم
    سيرة الغائب.. كيف أنهى محمد حسن خليفة قصته الأخيرة؟
  • عن محمد حسن خليفة الذي نظر والده ناحيته وابتسم
    سيرة الغائب.. كيف أنهى محمد حسن خليفة قصته الأخيرة؟

نفدت الطبعة الأولى واحتاجت الدار إلى طباعتها مرات أخرى، لكن جميع من اشتراها كانوا يتوقفون أمام الدار في انتظار من يوقع لهم مجموعة الكاتب الشاب.

يقول خليفة في إحدى قصصه بعنوان "روحي مقبرة"  وكأنه كان يتنبأ برحيله: "علقت خبر موتي أمامي على الحائط، كل صباح ومساء كنت ألقي نظرة عليه، لأطمئن أن ورقة الجورنال (الصحيفة) التي كتب فيها الخبر بخط كبير، وصفحة أولى، بعيداً عن الوفيات، ما زالت سليمة، وتستطيع أن تقاوم معي الأيام القادمة".

  • كيف أنهى محمد حسن خليفة قصته الأخيرة؟

 

في تلك القصة كان محمد حسن خليفة يريد أن يكتب خبر وفاته بخط كبير وفي الصفحة الأولى، وليس في صفحة الوفيات. لكن القدر ربما منحه اللحظة المناسبة ليحظى بما يشبه أمنيته، فلم يجد سوى أولى أيام "معرض القاهرة للكتاب"، والذي يشارك فيها بإنتاجه الأدبي للمرة الأولى، بين الكتب التي عاش ومات بينها على بعد أمتار من مجموعته. 

  • عن محمد حسن خليفة الذي نظر والده ناحيته وابتسم
    سيرة الغائب.. كيف أنهى محمد حسن خليفة قصته الأخيرة؟
  • عن محمد حسن خليفة الذي نظر والده ناحيته وابتسم
    سيرة الغائب.. كيف أنهى محمد حسن خليفة قصته الأخيرة؟

كُتب خبر وفاة خليفة بخط كبير، لكن ليس في صفحة الوفيات، بل في صفحات الثقافة. وفاته كانت أول خبر مهم في اليوم الأول لمعرض الكتاب، حتى أنه دفع وزارة الثقافة إلى إصدار بيان تنْعى فيه الكاتب الشاب، كما نعته هيئة الكتاب وإدارة المعرض، ووجهت وزيرة الثقافة إيناس عبد الدايم بإقامة حفل تأبين لخليفة يوم 4 شباط/فبراير في قاعة ملتقى الإبداع ببلازا.

كما قررت دار "الكنزي" تخصيص أرباح المجموعة كاملة لأسرة الكاتب الراحل.