"تان تان".. وجه العنصرية القبيح
"تان تان" صوّر لنا سكان الكونغو (المستعمرة البلجيكية) في أبشع صورة، وكذلك العرب.
"عشق" بعض الرسّامين الأوروبيين المغامرة في "بلاد الشرق الساحرة"، فعاشوا في البادية وسط قبائل البدو أو في الأرياف، وجسّدوا في لوحاتهم نمط عيش "الأهالي" وعاداتهم. من مشاهد صيد الأسود إلى الرقص والصلاة وغيرها، حتى أضحى إسم المستشرق يُحيل إلى الفنان الذي يُبدِع في رسم المشاهد الغرائبية في القرن 19م، كما يمكن أن نقرأ في بعض المعاجم.
الرسوم المتحرّكة وُظّفت أيضاً في هذا المسار، كما نلحظ ذلك في شخصية "تان تان"، الفتى البلجيكي الشهير وكلبه "سنووي" ومغامراتهما التي لا تنتهي.
هكذا جال "تان تان" في بلاد الشرق وأفريقيا. حطّ في المجال الجغرافي الواقع خارج القارة الأوروبية، وخاض "مغامراته" بين شعوب لا تنتمي عرقياً وثقافياً إلى نفس الفضاء الحضاري الذي ينتمي إليه الأوروبيون البيض.
وكما استثمرت الرواية في ترسيخ الهيمنة الاستعمارية بحسب ما بيَّنه لنا الراحل إدوارد سعيد، فإن فن الرسم كان أيضاً من الأساليب الناجحة التي زوَّدت الأوروبيين بالأسس الناظِمة للهيمنة الثقافية على الشعوب المُسْتعْمَرة، وتشكيل الصورة النمطية عنها.
فماذا رأى "تان تان" في بلادنا؟ وكيف تصرَّف مع شعوبها وثقافتها؟
"تان تان" بين العرب: لصوص وسُذَّج يأكلون الصابون
جورج ريمي Georges Remi المدعو إيرجي Hergé، الرسّام البلجيكي الذي طالته خلال حياته المهنية اتهامات بالتعاون مع النازية إبان الحرب العالمية الثانية، هو "الأب المؤسّس" لشخصية "تان تان" (1929). هذا الفتى المُغامِر الذي جسّد ما هو راسخ في المخيال الأوروبي عن "الغير"، وهو خليط من موروثٍ ديني عن قصص الكتاب المقدّس، وأساطير ألف ليلة وليلة.
فقد عكس "تان تان" القناعة الأوروبية عن بلادنا بوصفها موطن مختلف، وبعيد، ومُفَعم بكل ما هو غرائبي وعجائبي لا يتّسع صدره للعقلانية أو للتحضّر، لذا فهو مسرح يستحق المغامرة، فيخوضها الفتى الأوروبي الأبيض بشجاعة تُحاكي مغامرات الرجل الأبيض التي أفضت إلى إخضاع بلدان عديدة في أفريقيا وآسيا واستعمارها.
من خلال أربعة "مُجلّدات" جال تان تان في بلاد العرب، ثلاثة منها في المشرق؛ "سجائر الفرعون"(1934)، "تان تان في أرض الذهب الأسود"(1950)، "تان تان والفحم المُخزّن"(1958)، ورابع في المغرب هو "السلطعون ذو الكلاّبات الذهبية".
والصورة النمطية كانت نفسها هنا وهناك، فلا أهمية للمكان ولا للزمان عند الرسام جورج ريمي وبطله "المُغامِر الشجاع". هكذا نجد أسماء مدن لا وجود لها في أرض الواقع، فيما الثابت الوحيد في شرق حكايات سندباد أو شهرزاد، وشرق مغامرات تان تان، هو مشاهد التخلّف في حياة البَداوة أو المدن العربية العتيقة.
جورج ريمي الذي زار الجزائر المستعمرة الفرنسية، جعل منها نموذجاً لكل بلدان "الشرق الأخرى"، صوَره النمطية لا تُفرّق بين القصبة (المدينة القديمة في الجزائر) وبين مدن المغرب الأقصى، التي يظهر فيها مثلاً جنود فرنسيون من أصل عربي، وهم يرتدون لباساً خاصاً بقبائل الطوارق البربرية البدوية في صحراء الجزائر، كما دوّن ذلك، الكاتب الفرنسي لوي بلينlouis blin في كتابه الذي خصّصه لأعمال جورج ريمي: "العالم العربي في مُجَلَّدات تان تان"، والعربي الذي يُصادفه الفتى الأوروبي في مغامراته هو إما تاجر عبيد، أو طائش غير منضبط، أو عديم الذوق، أو لص، وفي أحسن الحالات ساذج أبله يبتلع الصابون ظناً منه أنها غذاء، كما نرى في مغامرة "سجائر الفرعون"، في منطقة عرفت صناعة الصابون منذ العهد الفينيقي أي قبل ثلاثة آلاف سنة، كل هذا يُضفي على تلك المغامرات، طابعاً استشراقياً واضح المعالم.
"تان تان" في أفريقيا: أنت لست قرداً؟
لم يصدر من "تان تان" أيّ تعليق على الوجود الاستعماري في بلادنا، بل وبدا بالنسبة إليه أن الوجود الفرنسي أكثر من طبيعي في مغامرات "السلطعون ذو الكلاّبات الذهبية" التي دارت في المغرب الأقصى.
لا ينكر لوي بلين ميول الفنان البلجيكي إيرجيhergé الاستشراقية، لكنه ينفي عنه تهمة النزعة الاستعمارية، مُعلِّلاً ذلك بأنه كان إبناً لبيئته وللفترة التاريخية التي عاش فيها. حيث كانت فترة السيطرة الاستعمارية الأوروبية (القرن العشرين).
لكن تهمة العنصرية والنظرة الاستعلائية الأوروبية البيضاء ضد الأفارقة من ذوي البشرة السوداء، كما في بعض العبارات الواردة في مغامرات "تان تان في الكونغو"، لا يمكن تبريرها ولا التغاضي عن مضمونها العنصري الحاد، كمُخاطبة "تان تان" الدائمة للطفل الكونغولي "كوكو" بالزنجي الصغير.
وصورة الطفل "كوكو" كانت ترمز بالأساس في تلك الفترة إلى "العبد" الأفريقي الذي تتلخّص مهمته في الحياة في خدمة المستوطنين البيض، أو عبارات من قبيل " أنت لست قرداً؟"، أو"الرجال السود هدأوا"، وهي التجسيد الحيّ لما فعله "المغامرون" البلجيكيون من أفعال تجاوزت العبارات العنصرية إلى جرائم إبادة حقيقية في حق سكان تلك الأرض وثرواتها الحيوانية والطبيعية.
"تان تان" صوّر لنا سكان الكونغو (المستعمرة البلجيكية) في أبشع صورة، كسالى وسُذَّج يتحدّثون بطريقة غير مفهومة أقرب إلى التوحّش، ويتصرّفون بطريقة عنيفة، ويعيشون في وسط غرائبي، وهي الصورة النمطية الأوروبية عن سكان أفريقيا وأدغالها.
إيرجي الذي يجهل أفريقيا اكتفى بمجموعة من المقالات الصحفية التي تتحدّث عن الكونغو من أجل صوغ "مغامرات" بطله، واعتمد أيضاً على كبار المُستكشفين الأوروبيين كهنري مورتون Henry morton stanley، الذي أرسله ملك بلجيكا ليوبولد الثاني في رحلة استكشافية لأغراض استعمارية. هذا الذي أوصل "مغامرات تان تان في الكونغو" إلى المحاكم في بلجيكا وغيرها بتهمة العنصرية.
ولا ينجو العرب من تلك النظرة الدونيّة للرجل الغربي في مغامرات "سجائر الفرعون" و"تان تان والفحم المُخزّن"، وهي نظرة تؤسّس لخطاب الهيمنة الثقافية القائم على المهمة التحضيرية المقدّسة للرجل الأبيض من جهة، وعلى تحفيز الأوروبيين للاستيطان في جنّات هذا "الشرق الساحر" بجماله من جهة أخرى.
من العلوم الاجتماعية إلى الأدب إلى فن الرسم إلى الرسوم المتحرّكة، وصولاً إلى السينما، يواصل الاستشراق دعم المنظومة الاستعمارية بأدوات الهيمنة الثقافية التي تحاول أن تُعَزِّز له أسباب ديمومة السيطرة.
ورغم ما يبدو من تعدّد أنماطه في سياقات تاريخية مختلفة من القرن 18م إلى اليوم، فإن ما يظلّ ثابتاً فيه هو ترسيخ المركزية الغربية، وتكريس النظرة الدونيّة لبلادنا ولشعوبنا.