هاندكه: القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي لا يمكن ترجمته مطلقاً
تسلم جائزة نوبل وسط انتقادات له لتبريره جرائم الحرب الصربية بحق المسلمين في البوسنة. ماذا يقول بيتر هاندكه عن القرآن الكريم؟ وما هي مواقفه من الحكم والفلسفة والأدب "من أجل التغيير"؟
تقديم وترجمة: عبد الرحيم نور الدين
الكاتب النمساوي بيتر هاندكه (1942، النمسا) الفائز بجائزة نوبل للآداب لعام 2019، ليس مجهولاً في العالم العربي، إذ ترجمت بعض أعماله إلى لغة الضاد، مثل "المرأة العسراء" (الذي حوِّل إلى فيلم سنة 1978)، و"رسالة قصيرة للوداع الطويل"، و"خوف حارس المرمى عند ضربة الجزاء"، و"الزنابير"، و"كاسبار"، و"محنة".
كما أنه معروف على الصعيد العالمي، ليس بسبب مؤلّفاته فحسب، وإنما بسبب مواقفه وتصريحاته المؤيدة للزعيم الصربي الراحل سلوبودان ميلوسيفيتش حيث ألقى كلمة في جنازته عام 2006. كما أنه نفى أن تكون مذبحة 8000 مسلم بوسني فى بلدة سريبرينيتسا إبادة جماعية.
لكل هذه الأسباب، هاجمه أدباء كثيرون آنذاك (سلمان رشدي وسوزان سونتاغ على سبيل المثال لا الحصر)، وانتقدوا منحه هذا العام جائزة نوبل. حسماً للسِجال، صرّح أحد أكاديميي نوبل بأن الجائزة أدبية وليست سياسية، وفي البلاغ الرسمي ورد بأن الجائزة "كافأت منجزاً مؤثّراً استكشف ببراعة لسانية محيط وخصوصية التجربة الإنسانية".
هاندكه كاتب مسرحي، وروائي، وصحافي، وكاتب للسينما، ومُترجِم (لمؤلّفات باتريك موديانو، وروني شار)؛ ويعتبره البعض "أحد أعظم الكتّاب الأحياء باللغة الألمانية". وبالإضافة إلى ذلك، هو قارئ لنوفاليس، وسيربانتيس، وباول سيلان، وجورج بيرنانوس، وإمانويل بوف، ومُعجَب كبير ببوب ديلان. بدأت مسيرته بالمسرح لتكتسح جلّ الأنواع الأدبية التي طبعها ببصمته الشخصية. له روايات ذات عناوين "رائعة" (قلق حارس المرمى في وقت ضربة الجزاء"، رسالة قصيرة لوداع طويل، المصيبة غير المبالية). حصل على العديد من الجوائز كجائزة بوشنر وهي أعلى تمييز أدبي في ألمانيا، وكتبه مُترجمة إلى عدّة لغات، وكان مرشّحاً للحصول على جائزة نوبل للآداب، في أواخر الثمانينات، لكن دفاعه عن الصرب نسف مصداقيته وجعل سمعته في الوحل.
وللتعريف أكثر بآراء هذه الشخصية اخترنا خصيصاً ترجمة هذا الحوار الذي أجري معه منذ سنوات، لكن أهميته تكمن في أنه أبدى فيه مواقفه من الحُكم وعِلم الاجتماع والفلسفة والحب والفنّ، وكذلك رؤيته للأدب الذي يأخذ على عاتقه "تغيير العالم".
*****
لقد سافرت كثيراً حول العالم، في إسبانيا، في الولايات المتحدة، في اليابان، قبل أن تستقرّ هنا، في الضاحية الغربية لباريس، قبل 30 عاماً. لماذا غادرت النمسا ولماذا اختيار مثل هذا المكان؟
صحيح أنني غادرت النمسا، لكن جسدياً فقط. بقي جزء مني هناك، مع أسلافي، والجداول، والبساتين، والمقابر، وكذلك اللغة الألمانية التي هي لغتي الأمّ، على الرغم من أن أمّي كانت سلوفينية. لم أتمكّن مطلقاً من الإقامة في اللغة الفرنسية، التي بقيت قواعدها النحوية غريبة بالنسبة لي. ومع ذلك، كانت باريس بالنسبة لي مثل مكّة المكرّمة أو القدس. جئت إلى هنا للمرة الأولى منذ فترة طويلة، في سبعينات القرن الماضي. في النمسا، كنت أشعر بأنني مُراقَب طوال الوقت، وبأنني أفتقر إلى الحرية.
في باريس، كيف يُفسَّر ذلك؟ لا توجد مياه في هذه المدينة، ومع ذلك وجدت أن هناك معابر في كل مكان. وممرات. عندما بحثت مع ابنتي الكبرى عن منزل للإيجار، نزلت في مدينة كلامار (Clamart). منذ بداية هذه الإقامة، قلت لنفسي، "إنه هناك". كان هذا بسبب لون السماء، وخط الأفق، والتلال. بدأت أمشي بجنب طريق السكك الحديدية. أحببت تلك المناظر الطبيعية التي حيّرتني. عند قدمي، يمكن أن توجد كمأة، وفي الأدنى، كان هناك منظر باريس مع برج إيفل. خلق ذلك ترابطات غريبة. أدركت أن المحيط كان البُعد المناسب لي.
هل تحب المحيط لأنك ترفض أن تكون قريباً جداً من مركز الحُكم؟
أنا أحب الحُكم، ولكن الحًكم الخفيّ الذي لا يمكن وصفه. من ناحية أخرى، أنا لا أحب الحُكم المؤسّسي.
لقد درست القانون في غراتس، في النمسا، من عام 1961 إلى عام 1965، والذي تخلّيت عنه. ثم لم تمارس أية مهنة، ما عدا الكتابة؟
لم أشعر في هذه الدراسات بأية بهجة. الشيء الوحيد الذي أثار اهتمامي هو تاريخ القانون، وخاصة دراسة القانون الروماني والقانون الكَنَسي. لكنك تعلم أن القانون ليس مجالاً يمكن دراسته في سن العشرين، على عكس الطب أو الجيولوجيا. لأن المرء في ذلك العُمر، لا يكون قادراً على إقامة روابط بين التجريد والواقع، وبين المبادئ والمواقف الملموسة. إن التجربة الحيّة فقط هي التي تُعدُّك لهذا العلم.
لقد قمت بوظائف غريبة هنا وهناك أثناء دراستي، في مصانع مختلفة وفي المنشرة التي كان يمتلكها عمّي، لكنني كنت بدلاً من ذلك كسولاً. بصرف النظر عن الكتابة، ماذا كان بإمكاني أن أقوم به كعمل؟ دائماً ما أحببت المهن اليدوية. لكنني اكتفي بطلاء الدرابزينات، وبجزّ العشب، وبالترميق. هذا يكفيني. عندما أبري قلم رصاص، أشعر بارتياح حقيقي. أحب أن أكتب باليد وأن أحسّ بقلم الرصاص. في الأساس، أنا معجب بالأشخاص الذين يعملون بأيديهم، وأنا شخصياً، لا أشعر بأنني مختلف عنهم كثيراً، وغالباً ما أشعر أنني حِرَفي.
مسرحية "إهانة الجمهور"(Outrage au public )، هي التي جعلتك مشهوراً سنة 1966. في المقدّمة، تشرح أنها "مسرحية منطوقة": إنها لا تقدّم أية حبكة، ولا أي تمثيل للعالم. يدخل الكوميديون إلى الخشبة ويبدأون في سبّ الجمهور. هل قرّرت كسر جميع قواعد المسرح؟
في عام 1964 حلَّت أغاني فرقة البيتلز ورولينغ ستونز، ومعها طاقة موسيقى الروك. هذا أعطاني فكرة نوع من الضوء الصوتي. بالإضافة إلى ذلك، مع زوجتي الأولى التي كانت ممثلة، كنت أذهب إلى المسرح في الكثير من الأحيان. لم يكن يعجبني ذلك المكان. كنت أشعر بـ "نفور مرح" من المسرح، إذا سمحت لي بهذا التضاد. لهذا السبب رغبت في نقل طاقة أغاني البيتلز إلى خشبة المسرح.
تُلقي شخصيات مسرحياتك المنطوقة خطابات، لكن المسرحيات نفسها لا تحكي شيئاً
نعم، لقد حدث ذلك بهذا الشكل، لكن أرجو ألا ترى في ذلك نتيجة إيديولوجيا أو رغبة في أن أكون طلائعياً. هناك العديد من الأصوات بداخلي. أنا لست مصاباً بالفصام، بمعنى أنني لست مجنوناً، لكن لديّ مع ذلك ميل إلى انفصام الشخصية. خلال اليوم، تتحدّث أصوات عديدة بداخلي وتتناقض في ما بينها، وتشتمني أو تداعبني، كما تشتمُ العالم أو تداعبُه. في مسرحي، أسمح لها بالتعبير عن نفسها. حتى لو كنت لا أعتبر نفسي كاتباً مسرحياً في المقام الأول، وإنما كمؤلّف ملحمي. سردي وملحمي.
ادّعى بيرتولت بريخت أنه يكتب مسرحاً ملحمياً. هل تشعر بالقرب من نهجه؟
لا يهمّني بيرتولت بريخت: لقد كان تعليمياً. كان يريد تغيير العالم، وأنا أسخر من مثل هذا الطموح. لا يمكننا تغيير العالم. يمكننا فقط نقل الأشياء السيّئة من مكان إلى آخر، وإبعادها عن النفس، قبل أن تعود بعد لحظات قليلة. ماذا تفعل القوى السياسية اليوم؟ إنها تقدّم الحجج للقتل. في البداية، نقول إن الحجج صحيحة وأننا على حق في القتل. ثم نفكّر، ونقول إن هذه الحجج ربما تكون خاطئة وأن كل هذا سيّىء.
نعم، أنا أعرف، أعبّر عن نفسي بشكل سيّىء وأنا لست واضحاً. لكنني لا أرغب في التعبير عن نفسي بكيفية جيدة. علاوة على ذلك، كثيراً ما أتيه عندما أتكلّم. أنا أتيه أيضاً عندما أكتب، لكن ذلك يبقى واضحاً لأن الكتابة هي بعدٌ يحدث فيه الوضوح بقدر زائد. عندما أتكلّم، لا أستطيع الوصول إلى هذا الوضوح الثاني.
حسنًا، دعنا نعود إلى ما قلته سابقاً: تعتبر نفسك مؤلّفاً ملحمياً... معظم رواياتك، إن لم تكن كلها، تجري أحداثها في بلدان تعيش في سلام. وأنت تصف الحياة اليومية للناس العاديين. ومع ذلك نحن بعيدون جداً عن الإلياذة. أين الملحمة هنا؟
أكثر بكثير من هوميروس، إن مثلي الأعلى في الأدب هو الرواية القروسطية، ولا سيما دورة المائدة المستديرة (la Table ronde) وبيرسيفال لوغالوا (Perceval le Gallois)، وكريتيان دي تروا (Chrétien de Troyes). الحرب ليست حاضرة بقوّة فيها. ما الذي يجعل من هذه الروايات ملحمات؟ في الواقع، إنها تروي قصصاً بسيطة للغاية. في البداية، البطل شاب وبريء. يرحل بحثاً عن الحب ويذهب بعيداً، بعيداً جداً. قبل اكتشاف أن الحب كان موجوداً بالفعل، وحاضراً منذ البداية، وأنه لم يره.
في رأيي، العالم الحالي قريب بشكل لا يصدّق من روايات العصور الوسطى. أعتقد أن هذا يرجع إلى جغرافيتنا وإلى وسائل النقل لدينا. اليوم، أنت تركب طائرة، أو قطاراً، وتصل بسرعة إلى شاطئ البحر أو إلى حافّة غابة. تعبرها، تذهب إلى جزيرة. يشبه الرجل المعاصر، بحركيته، الفارس المتجوّل في العصر الوسيط. إنه لا يخوض معارك، بالمعنى العسكري للكلمة، لكنه يتوقّع في كل من هذه الأماكن المحَن الداخلية والتحديات والألغاز. ويبحث عن الحب. اليوم فقط يمكننا كتابة ملحمة تتحدّث عن لا شيء تقريباً وتكون في الوقت نفسه مثيرة للغاية.
واحدة من أشهر رواياتك، "المرأة العسراء"(1976) ، تروي الوحدة الجديدة التي عانى منها العديد من النساء بعد التحرّر الجنسي في السبعينات، ولكن أيضاً بعد التفتّح، وبعد ازدياد عدد حالات الطلاق
لا يهمّني عِلم الاجتماع ولا أؤمن بالتاريخ كفئة فلسفية. لهذا السبب، فإن طريقتك في تقديم روايتي تروّعني. ولكن يمكنني أن أحكي لك كيف حدث كل ذلك. في السبعينات، عشت وحدي مع ابنتي الكبرى، التي كانت صغيرة آنذاك. عشنا في تجزئة جديدة في ضواحي فرانكفورت، وليس بعيداً عن جبل. كان هناك العديد من النساء اللائي كن وحدهن طيلة النهار، خلال الأسبوع. ولما كنت أبقى في المنزل، لأنني كنت كاتباً مزعوماً، كنت أشاهد حياة تلك النساء اليومية. من خلال جميع نوافذ المباني، كنت أتابع إعدادهن للطعام، بمفردهن. لذا فكّرت في كتابة قصة عن ذلك. لم يكن لديّ أي نوع من النيّة السوسيولوجية. كنت في قلب القصة التي أردت سردها. أردت أن أحكي قصة عن امرأة، قالت ذات يوم لزوجها: "اتركني". من هناك، تابعت بعثه إلى المجهول. لكنني بدوري أشعر بكوني مضحكاً لتقديم المرأة العسراء بهذه الكلمات: لأنني أوضح.
قد تكون شخصياتك تبحث عن الحب، لكن هذا الأخير نادر في كتبك. لدينا بالأحرى انطباع بأن جداراً غير مرئي يفصل بين الكائنات البشرية، وأن كل شخصية هي وحيدة إلى أقصى الحدود. يعيش الأزواج منفصلين تحت السقف نفسه. ليس بإمكان الأطفال والكبار التواصل. هل أنت كاتب مضاد للاتحاد؟
في نظري، هناك تمزّق مأساوي بين الرجل والمرأة. وهذا لا يتعلّق بمسائل المزاج، وأنا لا أحيل هنا على تاريخي الشخصي. هذاالتمزّق عالمي. تحت السماء، أرى المرأة، لكنها تبقى معزولة رغم كل جهودها، وحيدة وتائهة. سيكون ميلي أن تشدّني الرأفة أكثر من الحب عندما أنظر إلى النساء. لكن المرأة مُستغنية عن حبي كتعاطف. بالنسبة لي، الحب هو بين-إثنين بين "قدرة مجنّحة" والرأفة. أما بالنسبة إلى أطفالي، فأنا أعتبرهم كأسلافي. هم من يمتلكون السلطة، وحضورهم هو الذي علّمني. أنت تعرف عبارة وردزورث: "الطفل أب الإنسان". إن ذلك يناسبني تماماً، أشعر بذلك.
لقد كتبت أيضاً 3 دراسات حول مواضيع غير عادية. لقد نشرت، على سبيل المثال، دراسة عن الجُكْبُكس (Juke Box)
اليوم، اختفت تقريباً آلات الجكبكس من الحانات. وقد اشترى بعضها مَن يحنّون إلى الماضي وقرّروا وضعها في منازلهم. ولكنهم بعد ذلك، أدركوا أن الأمر غير ناجح على الإطلاق! الشيء الأساس في الجكبكس هو أن يوضع في مكان عام. إنه يتيح لك الاستماع إلى الأغاني مع الآخرين، وغالباً مع غرباء – إلى حد ما، مثل "العبيد" السود في حقول القطن، الذين كانوا يغنّون جنباً إلى جنب. يخلق الجكبكس رابطاً غير مادي بين البشر. في أحد الأيام، كنت في نورماندي العليا (Haute-Normandie)، في جيزور (Gisors)، في حانة متواضعة جداً، وكان لا يزال هناك جكبكس. طلبت تشغيله. على طاولة الشرب، كان هناك رجلان، متضرّرين للغاية، يشربان. شغلت أسطوانة Dire Straits، "سلاطين الأرجوحة" (Sultans of Swing)، فغيّرا وجهيهما، واستيقظا. كان الوقت ما بعد الظهر، الوقت الذي لا يحدث فيه أيّ شيء. هنا حدث تقاسم، بدأ الجكبكس في حكي شيء ما، لقد خلق لنا قصة.
لقد كتبت أيضاً دراسة عن التعب ودراسة عن اليوم الناجح
نعم، كان مثل اختبار الحب. كما تعلم، عندما يجلس الحبيب أمامك ويقول: "أنصت إليّ، لديّ شيء مهم لأخبرك به". أردت أن أثبت أنني قادر على قول شيء ما عن التعب. في دراستي، قارنت بين كيفيّات تعب مختلفة. كان هدفي هو إظهار وجود إرهاق أساسي ومفيد لأنه يزيدك ويمنحك إمكانية الوصول إلى العالم. أما بالنسبة إلى اليوم الناجح، يبدو لي أنه يكمن في معركة بين الفراغ السعيد والعمل السعيد. أنا حذر من موقف فاوست (Faust)، الذي يريد أن يكون نشطاً ويبحث عن السعادة في النشاط. لا أعتقد أن اليوم الناجح يمكن تخصيصه بالكامل للعمل. لكنني لا أشيد بالتأمّل أيضاً. في الحقيقة، بالنسبة لي، فإن اليوم الناجح هو اليوم الذي ينجح في حل التناقض بين الفعل والتأمّل.
في كل الأحوال، طريقتك في كتابة الدراسات هي مناهضة للطريقة الجامعية. أنت لا تذكر أيّ مرجع، وتنطلق من ملاحظات شخصية يتمّ التقاطها من الواقع المعيش
نعم، إنها طريقة استقرائية. أنطلق من الأشياء الصغيرة للوصول إلى الكل. أراد روائي مثل بالزاك (Balzac) أن يفهم المجتمع ككل، وكان يقوده طموح شمولي. إنه يجسّد بِكتابه "الكوميديا البشرية" المعادل الروائي لروح النسق في الفلسفة. أنا معجب ببلزاك كثيراً، لكنني أعتقد أن العالم بأسره حالياً لا يتيح الوصول إليه بهذه الطريقة. وبالتالي فإن المشكلة برمّتها هي أن تبدأ بالتفاصيل والملاحظات الصغيرة، لربطها معاً في ملحمة. لكن لا ينبغي خنق التفاصيل ولا الأحداث العميقة للحياة! في الوقت نفسه، لا أثني على الشظية من أجل الشظية، أفهمني جيداً: ما يهمّ في النهاية هو أن نقول العالم ككل بحركة واحدة وفي إيقاع واحد، انطلاقاً من العناصر الهاربة جداً.
يجعلني ذلك أفكّر في جملة قرأتها في المجلّد الأخير من يومياتك، "أَمْس على الطريق": "مفكّر في اللقطة: أنا فقط ذلك"
نعم! لا أستطيع الجلوس على طاولة والبدء في التفكير. الأشخاص الذين يدهشونني أكثر، هم أولئك الذين يجلسون حول طاولة على استوديو التلفزيون ويفكّرون سوياً. بالنسبة لي، عادة ما يأتي التفكير في الحدود بين نشاطين. على سبيل المثال، القراءة والمشي. إنها مسألة دوائر. عندما تتناقض دائرتا نشاطات مع بعضهما البعض أو تجتمعان، تأتي لحظة من التفكير. من ناحية أخرى، ليس الفكر في رأيي منفصلاً عن الشكل. من المهم جداً أن تُمثَّل الفكرة دائماً بإيقاع وبصورة، كما هي الحال عند المفكّرين السابقين على سقراط. كان هيراقليطس وبارمينيدس يؤلّفان قصائد في غاية الإيقاعية. بالنسبة لي، إنهما يجسّدان النموذج المطلق للفلسفة والأدب مجتمعين. وهذه القدرة على مزج الفكر والشكل معاً لم يعد بالإمكان العثور عليها عند الفلاسفة المعاصرين. ليس لدى هيدغر، ككاتب، إيقاع. انه ثقيل جداً. الفيلسوف الوحيد في القرن العشرين الذي اقترب من الكمال ما قبل السقراطي هو لودفيج فيتجنشتاين. كانت كتبه بالنسبة لي وحياً، وتقريباً إنجيلًا سالباً. يروي فيتجنشتاين الفرق بين ما يمكن قوله وما لا يمكن قوله، إنه يرسم خط ظلّ الفكر. اليوم، عندما يجلس المرء حول طاولة في استوديو تلفزيوني، فإنه يتظاهر بأنه بإمكانه التفكير في كل شيء. وهذا هو بالضبط السبب الذي يجعله يقول أيّ كلام.
بالنسبة لك، الإيقاع مهم جداً إذاً؟
نعم، الإيقاع هو الذي يعطي الكلمة طابعها الجمالي. كما هي الحال في القرآن الكريم: ليست الكلمة التي تهمّنا بل النصّ الغنائي، إيقاع النصّ. علاوة على ذلك، فإن القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي لا يمكن ترجمته مطلقاً، إلى أية لغة في العالم. كثيراً ما أتساءل كيف يفعل الإيرانيون ذلك. القرآن مرتبط بالمصوتية العربية، معناه ممزوج تماماً مع موسيقاه.
أنت قادر على قراءة القرآن في النصّ؟
نعم، أنا أعرف اللغة العربية الفصحى.
أودّ أن أتحدّث الآن عن الخلافات التي أعقبت موقفك من الحرب في يوغوسلافيا السابقة.
تأتي هذه الأسئلة حول يوغوسلافيا دائماً في نهاية المقابلات التي أجريها. أنا متعب، وعادة ما أقول هراء، والصحافيون يحتفظون فقط بهذه التصريحات، وهذا يساعد على تشويه سمعتي. في الحقيقة، أفضّل عدم التطرّق إلى هذا الموضوع، فهو قريب جداً من قلبي.
بيتر هاندكه، ما هي العلاقة بينك وبين الحقيقة؟
ليست مشكلتي هي الحقيقة بل هي الرغبة في أن أكون واقعياً. بالمعنى الذي يمكن أن يكون سيزان (Cézanne) قد قاله: أريد أن أخرج لوحات. يسعى الفنان بهذا المعنى إلى إخراج الحقيقة. بدأت الكتابة قبل حوالى 50 عاماً، واليوم ما زلت في رحلة استكشافية. أنا مثل الباحث. أقبل أن أتيه. أتقبّل أن أتيه أمام أعين العالم، لكن لا أن أتيه في الكلمات.
المصدر: مجلة "فيلوزوفي ماغازين" الفرنسية (Philosophie Magazine).
ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك المقالات والتحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]