متحف بسوس يحيي ذاكرة "موسم العزّ"
ماذا تعرفون عن تاريخ صناعة الحرير في لبنان؟ إليكم قصة متحف يحيي ذاكرة هذه الصناعة.
يحلّ متحف الحرير في بلدة بسوس اللبنانية ضيف شرف على منصّة الأحاديث العالمية عن الحرير، القادمة مع المشاريع الاقتصادية الضخمة التي يُطلقها الصينيون في مبادرتهم الكبيرة المعروفة ب"خط الحرير". يرجعون بها سنوات طويلة إلى الوراء، ويذكّرون بأهمية الحرير كعملٍ قامت عليه اقتصادات في العديد من دول العالم، وارتبط بعدَّة أصناف من القطاعات الاقتصادية منها الزراعة والصناعة وما فيها من حياكة، وخياطة، وتطريز وسوى ذلك من أمور، وقامت عليها حروب، مثلما تأسَّست عليها علاقات سياسية، واجتماعية، وثقافية بين الشرق المُصنِّع للحرير، ومُنتجه، وبين مُستهلكيه الأوروبيين.
لم يكن متحف بسوس للحرير إبن الساعة التي تطرح فيها مشاريع "خط الحرير" الصيني. لكن أحد الصناعيين اللبنانيين، وهو جورج عسيلي، بادر إلى إنشاء المتحف بعد أن اشترى موقعاً لنسيبٍ له في بسوس ليكون مُنتجَعاً له، وكان الموقع مصنعاً للحرير الذي كان يُعرَف بـــ"المخنق"، نسبة إلى عملية خنق الشرانق التي يصنعها دود القزّ، بهدف استخراج خيوط الحرير منها.
يقع المتحف على منحدرٍ خفيضٍ شديد الانحدار في مُنتصف الطريق بين بيروت وبين عاليه، ويقوم على قطعة أرض كبيرة من جنائن وبساتين، يتوسّطها مبنى حجر من طبقتين، يحتضِن ذاكرة لبنانية هامة، فيها تراث هائل من الصوَر التي قامت عليها الحياة الريفية اللبنانية، ومارستها مختلف المناطق، والقرى والبلدات حتى مُنتصف القرن الماضي، قبل سيطرة مظاهر، وقِيَم الحَداثة الغربية على لبنان، وتحويل صورته إلى حالٍ مدينية، جذبت الريف إلى بيروت ومدن أخرى، ففرغ الريف من سكانه، وتراجعت فيه الأعمال التقليدية القائمة على الإنتاج اليدوي، زراعةً، أو حِرْفةً، أو صناعة.
تبدأ الجولة في المتحف من مدخله الخارجي، وبداية عبر درجات حجر لسُلّمٍ صغير، يُفضي إلى ممرّاتٍ طويلةٍ تعبر بين مساكب الزهور العطرية المتنوّعة، من ياسمين، وإكليل الجبل، والخُزامى، والقصعين، وسواها، بالإضافة إلى أشجارٍ متنوّعة، ومنها خصوصاً التوت الذي من دونه، مع دودة القزّ، لا حرير في الكون.
وصولاً إلى المبنى الحجر، وفي طبقته الأرضية عُرِضَت منتوجات الحرير من ألبسةٍ، ومصنوعاتٍ يدوية، وبقايا معصرة كانت تعمل على الدواب، وباب مزدوج، كبير الحجم، سميك، وكان يصنع بحجمه الكبير لتأمين الحماية من تدخّلات واعتداءات خارجية مُحتَملة، وفيه فتحة مُقفلة، وهي باب صغير يُتيح دخول الفرد الواحِد، لضَبْطِ الدخول الآمِن.
وإلى الطبقة العُليا، صعوداً على سُلَّم حجر طويل نظراً إلى ارتفاع أسقف المبنى، وقبل نهاية السُلّم، مستوعَب بلاستيك شفّاف يعرض مئات الشرانق، يُهيّىء الزائر إلى ما هو قادِم إليه.
دخولاً إلى الصالة الكبيرة للمتحف، على يسار المدخل، صوَر مُجسّمة لأبناء الجبل من نساءٍ ورجال، يوم كانوا يعملون في الزراعة، وتربية القزّ، وإنتاج الشرانق، تُعيد المرء إلى ريف لبنان ما قبل خمسينيات القرن الماضي، ولوجاً إلى القرن التاسع عشر وما سبقه.
صناعة الحرير
أهم ما يُقدِّمه المتحف هو عملية حيَّة لتصنيع الحرير من ألفها إلى يائها. يبدأ المشهد بتفقيس بذور القزّ، وتجري العملية على صفائح بيضاء، تحتمل حرارة مُعيّنة تحتاجها البذور للتفقيس بعد أيامٍ قليلة، وعليها فتات ورق التوت المفروم بأحجامٍ دقيقةٍ حتى إذا خرجت الدودة الصغيرة من بذرتها، بدأت تقتات من الورق لتكبر.
وما هي إلا أيام قليلة لا تزيد على الأسبوعين، حتى تبدأ بلفّ نفسها بخيط الحرير تخرجه من فمها، وتظلّ على هذا المِنوال من دون انقطاع، ولا توقّف، حتى يقفل عليها بصورةٍ تامة، وبسماكة خيط واحد مُلتفّ حولها، والغاية الطبيعية أن تبيض داخل الشرنقة، ثم تمزِّقها لتخرج منها، فتتحوَّل لاحقاً إلى فراشة لو تركت تعيش على طبيعتها قبل تدخل الإنسان لاستغلال بدائعها، غير المقصودة، بإنتاج خيوط قوية لمَّاعة، لا تُعطي قيمتها لأيّ صُنفٍ آخر من الخيوط والأقمشة.
قبل تمزيق الدودة المُتشرنِقة للشرنقة، تُجمَع الشرانق، وتوضع في الماء المغلي على حرارةٍ مُعيّنة، مع سائل مُعيّن، ليبدأ تحلّل الخيط الذي تتكوَّن الشرنقة منه، وقد يصل طوله إلى 300 متر وربما أكثر.
على منصّةٍ أخرى، دولاب يدويّ، يُربَط عليه طرف خيط الشرنقة، وبعد تحلّلها، يبدأ لفّ الخيط بتحريك الدولاب برويةٍ منعاً لانقطاعه. ثم تتحوَّل الخيوط إلى بكرات، ومنها إلى الأنوال للحياكة.
في المتحف، تُعرَض كل الآلات التي يحتاجها إنتاج الشرانق، وتحليلها، وحياكتها، ومنها الأنوال التي توقَّفت عن العمل برحيل آخر مُتقني تشغيل النول منذ أربع سنوات، وكان إسمه ألبير فغالي. مع العِلم أن أنوالاً أخرى جرى إحياؤها في السوق التراثية لبلدة زوق مكايل اللبنانية.
تراجُع الحرير
بلغت صناعة الحرير ذروة ازدهارها في القرن التاسع عشر، وانتشرت في مختلف المناطق اللبنانية، وتسبَّبت بازدهار المجتمع اللبناني، إلى جانب زراعات على مستوى مُماثِل من الأهميّة هي الزيتون.
ومن أهم وأعتق الأسباب لتراجُع صناعة الحرير، هي الحرب العالمية الأولى التي أدَّت إلى خراب المشاغل، وكساد الإنتاج بسبب إقفال الأسواق، ثم تحلّ عناصر أخرى منها دخول مُنافَسة اليد العامِلة الأرخص ثمناً من دولٍ شرقية، وتطوّر صناعة الأقمشة التي حلَّت محل الحرير المُصنَّع يدوياً، وإهمال السلطات المُختصّة التي أقفلت مكتب الحرير الذي كان يؤمِّن البيوض، وأسواق التصريف للمزارعين.
ومع مرور الوقت، انقرضت الصناعة، ولم يبق مَن يعتمدها، فتراجعت زراعة التوت المَصدَر الأوحد لغذاء القزّ، وأهملت المخانق التي تصنع الحرير.
ويذكر مُعمّرون كيف كان يتحوَّل موسم القزّ إلى احتفاليةٍ كبرى رمزاً للجنى الكبير الذي كان ينتظره المُصنِّعون له، أملاً بالبحبوحة التي ستلي الموسم، ولذلك عُرِفَ موسم القزّ بـــ"موسم العزّ"، وقد ورد ذلك في مسرحية "ميس الريم" لفيروز والرحابنة، ومسرحية "موسم العزّ" لوديع الصافي وصباح.
يفتح المتحف أبوابه أمام الزوَّار سنوياً بين الأول من أيار/مايو، وتشرين الثاني/نوفمبر، وخلال العام تجري عملية تصنيع الحرير من التفقيس حتى التشرنق فالحياكة، ويعرض المتحف منتوجاته، وأخرى مستورَدة من مشاهير صناعة الحرير في العالم.
ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك المقالات والتحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]