117 عاماً على ميلاده.. يحيى حقي شغله الكادحون
مصري يتحدر من أسرة ذات أصول تركية، تملكت روحه صوفية البسطاء، ورفض "جائزة صدام حسين".. من هو يحيى حقي؟
عاش مستنداً إلى عصاه. ينحني إليها كأنه يحمل فوق ظهره حوادث القرن العشرين. قصر قامته جعله أقرب إلى الأرض التي أحبها، فثمة شخصية أخرى تختبئ في حياة الكاتب الراحل يحيى حقي. تلك هي "شخصية مصر" التي قال إنها النبع الذي يصب منه وفيه، معتبراً أن "فيها سراً إلهياً".
العجيب أن عروق حقي ليس فيها نقطة دم مصرية، فقد ولد في 17 كانون الثاني/يناير 1905 لأسرة من أصول تركية. أمه "سيدة" – ذلك هو اسمها - كانت مولعة بقراءة القرآن الكريم وكتب الحديث والسيرة، بينما كان والده محمد مفتوناً بالأدب العربي القديم وأشعار المتنبي. رغم ذلك، غرسته قوة غريبة في هذه الأرض، حتى أصبحت الاهتزازت البسيطة في هذا الشعب تعصف به معنوياً وعضوياً.
في حديث صحافي، سُئل حقي عما يؤلمه، فأجاب: "الإهمال"، لكن مصر التي أحبها لم تهمله حياً وميتاً، إذ اختارته هذا العام شخصية "معرض القاهرة الدولي للكتاب"، كما اختارت "هوية مصر" شعاراً له، فليس إلا صاحب "قنديل أم هاشم" ممثلاً لهويتها.
رسب في المدرسة ونجح في وزارة الخارجية!
ولد يحيى محمد حقي في بيت من طابقين تملكه وزارة الأوقاف المصرية في حارة الميضة خلف مقام "السيدة زينب". ورغم رحيلهم عنه إلى منطقة "الخليفة"، فإن هذا البيت كان له عظيم الأثر في نفسه وتكوينه الأدبي.
تعلم حقي في "كُتّاب" السيدة زينب، ثم التحق بمدرسة "والدة عباس" المجانية التي يدرس فيها أبناء الأسر الفقيرة، وأمضى فيها 5 سنوات تعيسة. وقد وصف سوء حالة التعليم قائلاً: "كنت أتعذب عذاباً هائلاً وأنا أحشو دماغي بمعلومات لا أكاد أفهم منها شيئاً، فكان طبيعياً أن أرسب في السنة الأولى الابتدائية، ولكني لم أرسب بعد ذلك قط".
تعرف حقي في منفلوط إلى طباع الفلاحين وعاداتهم، واتصل اتصالاً مباشراً بالطبيعة المصرية والحيوان والنبات، كما عاش هناك تجربة حب عميقة، كما وصفها، لكنه لم يشأ أن يستفيض في الكلام عنها.
حصل حقي على الشهادة الابتدائية في العام 1917، ثم الكفاءة في المدرسة الإلهامية الثانوية، ثم البكالوريا سنة 1921 من المدرسة السعيدية، لكي يتأهل لدخول الجامعة. كان يحلم بدراسة الطب، لكنه خشي تكرار تجربة رسوبه وتحميل أسرته مزيداً من الأعباء، فالتحق بمدرسة الحقوق العليا.
في الحقوق، رافقه توفيق الحكيم وحلمي بهجت بدوي والدكتور عبد الحكيم الرفاعي، حتى حصل على درجة الليسانس في العام 1925. عمل بعدها في المحاماة، لكنه لم يلبث فيها أكثر من 8 أشهر، حتى وجد له أهله وظيفة معاون إدارة في منفلوط في الصعيد الأوسط بعد وفاة والده في العام 1926، فقبلها وتسلم عمله بها في العام 1927.
تعرف حقي في منفلوط إلى طباع الفلاحين وعاداتهم، واتصل اتصالاً مباشراً بالطبيعة المصرية والحيوان والنبات، كما عاش هناك تجربة حب عميقة، كما وصفها، لكنه لم يشأ أن يستفيض في الكلام عنها.
بعد عامين قضاهما في منفلوط، حملته الصدفة من الصعيد إلى عواصم العالم الكبرى. وبحسب ما حكى في سيرته، كان راقداً بعد نهار أنهك روحه، يقلب في صحيفة ولا يقرأ، وإذ بنظره يقع على إعلان لوزارة الخارجية بأنها ستعقد مسابقة تعد الفائزين فيها بوظائف أمناء المحفوظات في القنصليات والمفوضيات. إلقاء النظرة على الإعلان قلب حياته رأساً على عقب، إذ تقدم للمسابقة ونجح.
ترك الدبلوماسية لأجل الحبّ
جاء اسم حقي في ذيل قائمة وزارة الخارجية، فعيّن أميناً لمحفوظات القنصلية المصرية في جدة، باعتبارها أسوأ المناصب الشاغرة وقتذاك، ثم بعدها بعامين، نقل إلى إسطنبول. هناك، اختلف الوضع تماماً، ووفق ما جاء في كتاب «رسائل يحيى حقي إلى ابنته نهى» لإبراهيم عبد العزيز، كان لحقي بعض الأقارب في تركيا من فرع بعيد من ناحية والدته، يعيشون بمنأى عن العاصمة. وقد استضافوه استضافة كاملة، في مقابل أن يساهم في مصاريف البيت.
شهدت تركيا قصة حبه الأولى، فقد تكوّنت الأسرة التي أقام لديها من أب وأم وابنتين. وقد أعجب إعجاباً خفياً بالفتاة الكبرى. يحكي إبراهيم عبد العزيز أن إعجابه سرعان ما تحول إلى حب، وفكر في أن يرتبط بها، لكن طبيعة عمله الدبلوماسي كانت تفرض عليه ألا يتزوج من أجنبية، ولا حل إلا باستقالته.
تمنت أسرة الفتاة حدوث هذا الارتباط، وخصوصاً أنها اعتبرته واحداً منها، فسألته أن يترك عمله، ويمتهن عملاً حراً ويعيش معهم هناك، لكن حال دون ذلك أن مثل هذا التفكير كان بعيداً عن طبيعته وتكوينه النفسي، فليس له من سبيل في العمل إلا في المجالين الدبلوماسي والأدبي، وليس له عن مصر بديل.
انتهت قصة الحب سريعاً، فقد ترقى إلى سكرتير ثالث للإدارة الاقتصادية لوزارة الخارجية، وعاد إلى مصر، ولم يلبث طويلاً حتى فكر في الزواج. في تلك الأيام، لم يكن متاحاً للشاب أن يتعرف إلى أي فتاة، فراح يشيع بين معارفه أنه يبحث عن زوجة تكون «فتاة صالون وأدب ولغة أجنبية».
خلال مسيرته، ركز حقي في إبداعه على الكادحين والبرجوازية الصغيرة، كما رصد تخبط المثقفين بين المثالية المنشودة والواقع المعيش، فكانت رواية "قنديل أم هاشم"، ثم "البوسطجي" وغيرهما من الأعمال التي تحولت إلى أفلام سينمائية.
تلقي قصة زواجه بعض الضوء على شخصية حقي، فقد ذهب مع أحد معارفه إلى منزل العروس، لتقدم له مشروباً، حتى يتسنى له رؤيتها - وفق تقاليد ذلك الزمن - وعندما استقر في الصالون، دخلت فتاة وسلمت عليه، فاندمج في التعرف إليها باعتبارها العروس، وعندما دخلت العروس المقصودة، كان قد ارتضى قدره مع التي تحدث إليها. عندما أفهموه أنها ليست العروس، لم يعبأ، فقد اختارت له الأقدار عروسه التي أنجبت له ابنته نهى، لكن حياته معها لم تدم سوى شهور معدودة، أصيبت بعدها بمرض خطير وتوفيت تاركة في نفسه حسرة شديدة.
في العام 1949، عيّن حقي سكرتيراً للسفارة المصرية في باريس، والتقى هناك زوجته الثانية الفرنسية جان ماري وتحابا، وتزوجا سنة 1954، لتكون تلك الزيجة سبباً في تغيير مجرى حياته مرة أخرى، فقد اضطرته قوانين وزارة الخارجية التي تحول دون تزوج الدبلوماسيين من أجانب، إلى ترك العمل، ليتزوج جان ماري، وينتقل إلى العمل في وزارة التجارة والصناعة.
في العام 1955، أصبح يحيى حقي أول وآخر رئيس لمصلحة الفنون. وقد استمر في منصبه 3 سنوات، أسس فيها عدداً من المنارات الثقافية المهمة، لكنه، وفق مقال للشاعر نجيب شهاب الدين، "اختلف مع النظام السياسي، وأجبر على الانسحاب. قضى بعد ذلك 7 أشهر مستشاراً لدار الكتب، ثم استقال من الأعمال الحكومية متفرغاً لأدبه".
بدأ بالكتابة مبكراً.. ورفض جائزة صدام حسين
يقول حقي في كتابه "خليها على الله" إنه بدأ الكتابة في سن السادسة عشرة. وكانت معظم كتابات تلك المرحلة ساذجة، ثم بدأ بكتابة القصة وهو طالب في كلية الحقوق، متأثراً بالأدب الروسي الذي وجد فيه أن كل شخص تشغله قضية كبرى هي قضية خلاص الروح. وقد نشر أولى قصصه بعنوان "قهوة ديمتري" في صحيفة "الفجر" التي كانت تصدرها المدرسة الحديثة برئاسة أحمد خيري سعد.
خلال مسيرته، ركز حقي في إبداعه على الكادحين والبرجوازية الصغيرة، كما رصد تخبط المثقفين بين المثالية المنشودة والواقع المعيش، فكانت رواية "قنديل أم هاشم"، ثم "البوسطجي"، ومجموعته القصصية "سارق الكحل"، وغيرها من الأعمال التي تحولت إلى أفلام سينمائية، ولاقت نجاحاً كبيراً.
كما كان لحقي إسهامات نقدية في كتب "خطوات في النقد" و"فجر القصة المصرية"، و"حقيبة في يد مسافر". كما أكسبه عمله الدبلوماسي معرفة ببعض اللغات، فنقل بعض الروائع الأدبية إلى العربية، إذ ترجم رواية "القاهرة" لدزموند ستيوارت، و"لاعب الشطرنج" للنمساوي ستيفان زفايج، ورواية "البلطة" للروملني سادو فينو، ورواية "طونيو كروجر" للألماني توماس مان.
رفض يحيى حقي "جائزة صدام حسين للعلوم والآداب والفنون"، وقال إن السبب هو يدا صدام حسين الملوثتان بدماء المسلمين، بعد أن قتل كثيراً من الكرد والإيرانيين.
رشحه منجزه الإبداعي لنيل العديد من الجوائز، من بينها "جائزة الدولة التقديرية في الآداب" في العام 1969، وهي من أرفع الجوائز التي تقدمها الحكومة المصرية. كما منحته الحكومة الفرنسية في العام 1983 "وسام الفارس من الطبقة الأولى".
لم يكن يحيى حقي من الساعين لنيل الجوائز؛ ففي العام 1990، وقعت حادثة رفضه "جائزة صدام حسين للعلوم والآداب والفنون"، والتي تحكيها ابنته نهى، مؤكدة أنها جاورته يوم أخبروه بترشحه إليها، وأنها سألته عن سبب اعتذاره عن الجائزة، فأجابها بأنه لا يستطيع وضع يده في يد هذا الرجل - صدام - ويداه ملوثتان بالدماء. فلما سألته: دماء من؟ قال: "دماء المسلمين، فهو قتل كثيراً من الكرد والإيرانيين".
في رفضه لجائزة صدام حسين، تحجج حقي بترشحه إلى "جائزة الملك فيصل" التي لا يمكن معها الترشح إلى جائزة أخرى، لكن ابنته تقول إن ذلك لم يكن حقيقياً، لكن الأقدار شاءت أن تعوضه، فرشح بعدها إلى جائزة فيصل، لكونه رائداً من رواد القصة العربية الحديثة، وحصل عليها في العام 1990.
بقي حقي دائماً أحد الأسماء المطروحة لنيل "جائزة نوبل للأدب"، لكن عندما هنأته الصحافية سهير جودة بفوزه بجائزة فيصل، علق قائلاً: "أحلم بحصول مصري على جائزة نوبل في العلوم".
تملكت روح حقي صوفية البسطاء، فلم يتعلق بالأموال، وقال في جلسة جمعته بالكاتب عبد المنعم معوض إنه فقد الشعور بقيمة المال نتيجة لحياته كموظف يتسلم راتباً أول كل شهر.
في بيته، لم يتحمل حقي مسؤولية الإنفاق، بل أوكلها إلى زوجته، حتى إنه كثيراً ما كان يسير بلا نقود. وحسبما نشر في "روز اليوسف" في العام 1993، كتب في الخمسينيات عدة مقالات لجريدة الجمهورية. ومع أول مقال، فوجئ برئيس التحرير صلاح سالم يقدم له أربعين جنيهاً مقابل المقال، فرفض استلام المال، لشعوره بأنه يسرق من خزينة الدولة مبلغاً لا يستحقه.
في مرضه الأخير، واجه أزمة مادية، ومن ثم قرر رئيس الوزراء علاجه على نفقة الدولة، ودخل أحد المستشفيات، وبقي فيه عدة أيام. وخلال إقامته، وقعت أحداث زلزال 12 تشرين الأول/أكتوبر 1992، فأصر على الخروج من المستشفى، لأنه رأى أن المصابين أولى بالسرير الذي ينام عليه.
في صباح يوم الأربعاء 9 كانون الأول/ديسمبر 1992، رحل يحيى حقي عن عمر ناهز 87 عاماً. وقد لفظ أنفاسه الأخيرة في غرفة الرعاية المركزة في "مستشفى كليوباترا" في مصر الجديدة، بعدما أوصى بأن يدفن فور وفاته، وأن يُكتب خبر صغير يُطلب فيه أن تُقرأ له سورة من القرآن، تكون له سنداً في لحظات السفر الأبدية.