محمد عبد المطلب.. "كبير أهل المحبة" بدأ مؤذناً
بإحساس زاخر بالجماليات والخصوصية في الأداء، رسّخ نفسه واحداً من أهم مطربي "الزمن الجميل".. من هو محمد عبد المطلب؟
ثمة تواريخ ميلاد مختلفة في المراجع المكتوبة المتوافرة بين أيدينا تجعل الباحث المتأنّي لا يحسم بالتمام متى وُلد المطرب المصري محمد عبد المطلب.
ففي حين يرد في كتاب "السبعة الكبار في الموسيقى العربية المعاصرة" لفيكتور سحّاب المُلمّ بمحطّاتٍ من تاريخ الموسيقى العربية والمصرية تحديداً، أنّ عبد المطلب وُلد عام 1907 (الصفحة 337- الطبعة الأولى أيار 1987)، يرد في أحد مقالات الياس سحاب المطّلع والعارف أيضاً، أنّ عبد المطلب "وُلد عام 1904 ونزل من الريف إلى القاهرة عام 1925، كما يقول عبد المطلب في مذكراته التي سجّلها في حلقة مركّزة لإذاعة (صوت العرب)".
ثمة مراجع أخرى هامّة وأساسية من بينها صحيفة "الأهرام" المصرية تذكر أنه وُلد في العام 1910.
لكن أيّاً كان العام الذي وُلد فيه محمد عبد المطلب، فإنّه قد بشّر بفنان عربي عملاق أسّس لذائقة طربية أصيلة ذات خصائص ونكهة مميزة.
فقد امتاز عبد المطلب وانفرد بخصوصيةٍ في الأداء. أداؤه لا مثيل له، وكل مَن يحاول أو سيحاول تقليده سيكون مقلِّداً صغيراً، فيما الأصيل والأصليّ هو عبد المطلب.
الناس على الدوام يحبّون الحقيقيّ ولا يستحسنون "النُّسَخ" المقلِّدة في المجالات كافة، لا سيما في الفضاء الإبداعيّ وعلى صعيد الموسيقى والأصوات.
وفق تحليل مبسَّط فإنّ عبد المطلب اتّصف بأداء لم يخلُ أحياناً من نتوء بسيط جداً "هنا" أو "هناك" في بعض الجُمَل الموسيقية الغنائية ربطاً بتقاطيع الكلمات على وجه التحديد، لكن بطريقة انسيابية جميلة وآسرة مسجّاة بفخامة شعبية.
كل هذه السمات - لَوْ خُيّل لنا أنّ بعضها متناقض- جمعها عبد المطلب بصوته وأدائه الطربيّ تلقائياً بلا أدنى تكلُّف أو افتعال، وبتمرُّسٍ جليّ وبإحساس عالٍ زاخر بالجماليات. وهذا ما شكّل بصمةً أسلوبية رائعة لديه وألبس صوته شخصيتها المميزة. وقد عدَّها الجمهور والذوّاقة سائغة مستطابة، حتى لَوْ لم يعرفوا كيفية تفسيرها وماهيّتها لأنّ الفنّ يُحَسّ أي أنه يُدرَك بالحواس. ونادراً ما "يُشرَّح" الصوت البشريّ أو يُفسَّر الأداء في التنظير أو التحليل بأسلوب سهل تفهمه الأكثرية.
في معظم الأحيان تميل الغالبية – حتى على مستوى النخبة - إلى الاستمتاع بالفنّ والموسيقى والإضاءة عليهما من دون الجنوح نحو محاولة تأويل وشرح بواطنهما ومكامن قوّتهما وركيزتهما لأنّ كثرة التحليل قد تُفقِد فعل التلقّي عند المتلقّي - إنْ في الاستماع أو المشاهدة - لذّته الفِطرية.
في هذا الإطار، ليس استطراداً، نسترجع على سبيل المثال ما يقوله الكبار عن الصوت، بينهم الشاعر أنسي الحاج حين كتب عن فيروز أنّ "في صوتها ذلك "الشيء الأكثر" الذي لا يفسَّر" (في أحد مقالاته في صحيفة الأخبار اللبنانية). إذاً هذه البصمة الأسلوبية في صوت صاحب "الناس المغرمين" هي أحد أبرز أسرار نجاح محمد عبد المطلب في عصره واستمرار أغانيه حتى يومنا هذا.
كذلك فإنّ وقْع أدائه على المسامع وحضوره على المسرح تدثّرا بصدقية فنية، إضافة إلى أنّ عبد المطلب بأدائه وحضوره قريب إلى القلب. ومن أسرار نجاحه واستمرار أغانيه أيضاً عبقرية الألحان المحبَّبة مثل أغنية "أهل المحبة".
عبد المطلب فنانٌ خالد تستحضره الذاكرة الموسيقية العربية التي حفر أثره فيها، والمعاهد الموسيقية الأكاديمية العربية. فنّانون ومطربون يعيدون إحياء نتاجه في القرن الحادي والعشرين، وينكبّ على تناوله الباحثون، ووسائل الإعلام ذات المستوى الثقافي العالي التي تحتفي بحضوره الأسلوبيّ الفريد.
ردّدت الأجيال أغاني عبد المطلب: من "إسأل مرّة عليَّ" و"ما بيسألش عليَّ أبداً"، مروراً بـ"ساكن في حيّ السيدة"، و"حبيتَك وبحبَّك وححبَّك على طول"، و"بتسأليني بحبّك ليه" التي شَهَرَتْه في مصر عام 1933، وسواها. يُحسَب لعبد المطلب تمكُّنه من الارتجال موسيقياً ومقاميّاً ببراعة. إنها قيمة إبداعية تُضاف إلى حُسن قماشته الصوتية وأدائه.
تعلّم عبد المطلب أصول الموسيقى والغناء على يد الموسيقار داود حسني (1870- 1937). وكان محمد عبد الوهاب (1898- 1991) أستاذه الثاني. كان محمد عبد المطلب "مذهبجياً" ("المذهبجية" تعني الكَوْرس) في فرقة عبد الوهاب.
بعد ذلك، اختار عبد المطلب التحليق منفرداً في فضاء الغناء. مع ذلك، ظَلّ ينعم باهتمامٍ مميّز من عبد الوهاب، علماً بأنّ الأخير أنتج له فيلم "تاكسي حنطور" عام 1945 (إخراج أحمد بدرخان).
غنّى عبد المطلب من ألحان فريد الأطرش "يا ليلة فرحنا طولي". ولحّن له محمود الشريف "ودَّع هواك"، و"رمضان جانا" (على سبيل المثال) وهي من أشهر أغاني رمضان في العالم العربي.
كثيرون لا يعرفون حتى اليوم أنّ صاحب هذه الأغنية هو عبد المطلب لأنّ عدداً كبيراً من المغنّين أدّى الأغنية بعد وفاته في آب/أغسطس عام 1980، ولا تزال الأغنية تلقى رواجاً وتؤدَّى بحناجر مختلفة. كذلك، لحّن له الكبار: رياض السنباطي (شفت حبيبي)، وكمال الطويل، وسيد مكاوي، وغيرهم.
أمّا عبد الوهاب، فلحّن له "فايت وعينيه في عينيَّ"، و"يا نايمة الليل وأنا صاحي" (1945، من فيلم تاكسي حنطور)، وسواهما... والملفت أنّ اللبناني فريد غصن (وهو أستاذ مرسيل خليفة) قد لحّن لعبد المطلب لحناً أعاد تسجيله المطرب عبد الغني السيد (العشرة صعبانة عليَّ). عمل عبد المطلب في صالة بديعة مصابني، وبرز في عدد من الأفلام من بينها: "علي بابا والأربعين حرامي" (1942)، و"كدب في كدب" (1944)، و"الجيل الجديد" (1945).
يُكتب أنّ عبد المطلب تزوّج ثلاث مرات بعد قصص حبّ. طلّق مرّتين ثم استقرّ مع زوجته الثالثة والأخيرة، وفقاً لما ورد في صحيفة "اليوم السابع"، فيما ورد في مقال في "الأهرام" أنّ عبد المطلب تزوّج مرّات عدّة، من دون ذكر عددها.
ويذكر الباحث محب جميل في كتابه "محمد عبد المطلب سلطان الغناء" (دار آفاق للنشر والتوزيع) أنّ "رحلة عبد المطلب الفنية دُوّنت خلال حياته مرّتين: الأولى بقلم الكاتب محمد السيد شوشة عام 1956 (...) والثانية كانت بقلم اللبناني سليم اللوزي عام 1962، والتي أراد عبد المطلب تحويلها إلى فيلم سينمائي من إخراج صلاح أبو سيف ليقوم هو بنفسه بدور البطولة فيه".
لم يدخل عبد المطلب المدرسة. التحق كسائر أبناء جيله من أهل القرى بما يعرف بــ الكتّاب فحفظ القرآن الكريم، وكان يهوى الغناء فيغني في المزارع والحقول. شجعه اخواته وأهله على أن يؤذن الفجر في جامع القرية التي صارت تستيقظ للصلاة على صوته. وقالت إحدى بناته في حوار صحفي إن: "الأذان ساعد والدي على أن يوسع طبقات صوته".
لمع عبد المطلب وذاع صيته بالمواويل وقد استعذب الجمهور كثيراً أغانيه العاطفية على وجه الخصوص. في زمن الدمج الخلاّق أحياناً و"الإغرابية الإكزوتيكية" occidentalisant Exotisme والتجريب والحداثة بجمالياتها ومختبراتها، وصولاً إلى التغريب والانسلاخ المستغرَب وغير الواعي عن الهوية، يُستحضر محمد عبد المطلب كأحد وجوه الأصالة الفنية والموسيقية الغنائية العربية.