"متلازمة الورقة البيضاء".. كيف يفقد الكاتب إبداعه؟
يعاني خلالها الكاتب من جفاف إبداعه. اختبرها كتاب كبار، ودفعت أمل دنقل إلى التفكير في الانتحار. ما هي "متلازمة الورقة البيضاء"؟ وما أسبابها؟
يقول الروائي أحمد خالد توفيق (1962 - 2018) إنّها حالة تجعل صاحبها يظل لساعات يرمق صفحة خالية، منتظراً أن ينفتح في الورق باب سحري يقوده إلى عالم الرواية. إنها "سدّة الكتابة" أو متلازمة "الورقة البيضاء" التي وصفها صاحب "يوتوبيا" بأنها أشبه بفقدان الرجل قدرته الجنسية وجفاف عصارة الحياة في جسده.
تلك الورقة البيضاء التي يشرد فيها الكاتب، ولا يستطيع ملأها بالأفكار والأحاسيس والتصورات، دفعت الشاعر أمل دنقل (1940 - 1983) مرة إلى التفكير في الانتحار، وذلك بعد فشله في كتابة الشعر لمدة 3 سنوات بين الأعوام 1963 إلى 1966، لكن دنقل عدل عن قراره بعدما نجح في استعادة وحي الشعر، فصارت الكتابة لديه "بديلاً من الانتحار"، وإن بقيت عند أحمد خالد توفيق "جزءاً من الجحيم".
في العام 1947، تناول المحلل النفسي النمساوي إدموند برغلر (1899 - 1962) أزمة "سدّة الكتابة"، قائلاً إنها حالة يفقد فيها المؤلف القدرة على إنتاج عمل جديد أو يواجه تباطؤاً في عمله الإبداعي. وقسّم برغلر السبب إلى عائقين جزئي وشامل، مرجعاً الأمر إلى الشعور بالخوف وعدم الأمان نتيجة جفاف الابتكار في الأفكار أو أساليب الكتابة. لكن بعيداً من الأسباب الإبداعية، قد يتعلق الأمر بأسباب خاصة بنفسية الكاتب أو بظروف مجتمعه السياسية والاجتماعية.
دنقل حاول الانتحار.. ونجيب محفوظ أحد ضحاياها
بعد ديوانه الأول "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة"، غلبت على أمل دنقل روح التشاؤم، والتي عبّر عنها في قصيدته "كلمات سبارتكوس الأخيرة". تزامن ذلك مع إقامته في مدينة السويس التي كانت مليئة بأبناء الريف الفقراء والأميين، ما جعلها تخلو من أي جو أدبي وثقافي. وقال في حوار مع مجلة "الأسبوع العربي" في العام 1974 إنّ تواجده في السويس حينها ضيّق عليه الخناق، وجعله يعيش مللاً دائماً وفراغاً عاطفياً كبيراً. أما الأهم، فكان فقدانه الحس الإبداعي مدة 3 سنوات، ما دفعه إلى التفكير في الانتحار.
أما نجيب محفوظ (1911 - 2006)، فقد توقف عن الكتابة الإبداعية بسبب التحولات السياسية والاجتماعية التي شهدتها مصر. حصل ذلك بعد قيام ثورة تموز/يوليو 1952، إذ انقطع أديب نوبل عن الكتابة لفترة دامت 5 سنوات. وقد عزا صاحب "ثلاثية القاهرة" السبب إلى اعتقاده بأن "ثورة الضباط الأحرار" قد حققت حينها ما كان يصبو إليه في أعماله الأدبية، لكن البعض يرى أن توقف محفوظ عن الكتابة كان لشعوره بالحاجة إلى اكتشاف أشكال سردية تناسب مرحلة ما بعد الثورة، وهو ما تحقق بعودته في العام 1957 برواية "السمّان والخريف".
يرى الناقد الأدبي المصري حسين حمودة أن "سدّة الكتابة أو متلازمة الورقة الفارغة أو توقف الكاتب والمبدع عموماً عن الإبداع، كلها تعبيرات متنوعة تشير إلى فترات من التوقف العابر يمر بها بعض المبدعين. قد تطول هذه الفترة أو تقصر، لكن بعض المبدعين يجتازونها ويعاودون نشاطهم، فيما يتوقف البعض الآخر إلى الأبد".
ويضيف حمودة في حديثه إلى الميادين الثقافية: "هناك حالات أخرى قد ترتبط بعمل إبداعي بعينه يبدأ المبدع فيه ويقطع شوطاً، ثم يتوقف ولا يكمله. طبعاً، هناك حالات متعدّدة لذلك، وأسماء عديدة مرت بمثل هذه التجارب، منها نجيب محفوظ، وأمل دنقل، ونجيب سرور، وإدوار الخراط، وصولاً إلى جون شتاينبك وارنست همنغواي واللورد بيرون ورامبو".
ويؤكّد الناقد الأدبي المصري أنّ هذه الحالات تختلف وتتباين من مبدع إلى آخر، وكذلك تفسيراتها، إذ تتّصل أحياناً بأبعاد نفسية (وهي بدورها متنوعة جداً) أو بفترات زمنية يحتاجها الكاتب إلى تأمل تجربته وتغيرات العالم من حوله (كما حدث مع محفوظ)، أو بانقطاع طاقات الإبداع بوجه عام (ولعل هذا ما حدث في تجربة همنغواي في آخر حياته)، أو بتوقف حال الإبداع في عمل إبداعي بعينه (كما حدث مع لورد بيرون وعند كثيرين غيره)، أو بانشغال الكاتب عن الإبداع وانغماسه في مشاغل بعيدة عنه. وأحياناً، يقترن توقف الكاتب عن الإبداع بفقدانه الإيمان بالإبداع ذاته واختيار مسار آخر للحياة (كما هي الحال مع رامبو).
لكن ما هي سُبل الخروج من هذه الحالة؟ يجيب حمودة أن مواجهة حالات التوقف هذه، سواء كانت عابرة أو متصلة، قصيرة أو طويلة، تتوقف على قدرة المبدع على إعادة الاهتمام بإبداعه ومجابهة مشاكله، أياً كان نوعها. ويوضح أن الحلول قد تتوقف أيضاً على أن يكون المبدع صاحب مشروع ممتد قابل للتنامي والاستمرار (بمعنى أن تجربته الإبداعية لا تنهل من نبع سريع النضوب)، وقد ترتبط أيضاً بمدى إيمان المبدع بأهمية ما يقدمه، سواء لذاته أو للآخرين حوله، أو للإنسانية كلها في مستقبل غير منظور.
"الورقة البيضاء".. تغلّب عليها "العراب" بملف أفكار
أحمد خالد توفيق الملقب بــ"العراب"، والذي ترك عشرات الأعمال بين القصة والرواية، يذكر في كتابه "اللغز وراء السطور" أنه اعتاد تدوين أفكاره على ورقة بيضاء لا تفارقه أبداً، ويملأها بجمل قصيرة سرعان ما يعيد كتابتها على جهاز الكمبيوتر الخاص به، وذلك ضمن ملف يتجاوز عدد صفحاته 200 صفحة أعده خصيصاً ليوفر له مخزوناً من الأفكار يتغلب بها على "writer block".
هذا ما يفصح عنه أيضاً الروائي المصري الشاب مصطفى منير، إذ يروي لــ الميادين الثقافية أنه واجه لعنةَ بخل الكتابة مرات عدّة، لكنه قاومها بقراءة أعمال عظيمة تحرّك في داخله غيرة الكاتب وتضربه بسؤال واحد: "هل ترى نفسك أقل من تقديم ما هو أعظم؟".
ويؤكد أنه يتبع فعل القراءة بفعل الكتابة: "أكتب قصة أو خاطرة أو مقطعاً سردياً عن أي شيء، عن كوب الشاي المُر، عن زوجتي التي تعاني من كثرة كتبي، عن وسامتي غير الموجودة. المهم ألا أخسر ثقة الكتابة في موهبتي، لأنها إن شعرتْ بضعفي أمامها، ستتمكن مني وتهزمني بالطريقة نفسها التي تهزم الموت بها".
ويرى كاتب "قيامة الظل" أن الإجابة تكمن في الأصوات؛ "تلك التي يسمعها الكاتب في كل لحظة تمر، أصواته الداخلية وحديثه مع شخصياته، أصوات شخصياته ذاتها، وأصوات الأفكار الباحثة عن الخروج إلى عالم الورق، ثم يأتي بعد ذلك دور الكتابة وأهميتها بالنسبة إليه، هل كانت مثلاً علاجه مثلما آمن مارسيل بروست؟ أم هي الطريقة الأفضل لعرض الحقائق من دون تجميل، كما فعل نجيب محفوظ؟".
واختتم منير بالقول: "إذا استطاع الكاتب أن يتحمّل نهاراتِ يومه وتمشيات آخر اليوم وسهرات الليل، من دون الأصوات الموجودة في رأسه، ولم يفرق معه وجودها أو عدمها، وأهميتها ودورها، فهو قادر على التعايش مع فكرة سدة الكتابة، وسينتظر فرج ربّ الحكايات. أمّا الكاتب الغارق في خيالاته، وفي بناء عوالمه، وفي استقطاب شخصيات من اللا شيء، وفي خلق حبكة لم تُعرَض من قبل، الكاتب الذي يكتب من أجل الكتابة، الذي تحرّكه الكتابة، ولا يقدر على أي فعل سواها، فقد يصل الأمر إلى انتحاره، إذا قرّرتِ الكتابةُ يومياً تجاهله وسحب خيط الأفكار من دماغه".