كي لا ينسى الصغار.. بيسان ومحمد "يناضلان" لحفظ تاريخ فلسطين
كي لا تتحقّق مقولة بن غوريون: "الكبار سيموتون والصغار سينسون"، يعمل شباب من غزة للحفاظ على تاريخ بلادهم. إليكم حكاية بيسان عودة ومحمد أبو لحية.
تسير بيسان عودة (23 عاماً) داخل أحد الأزقّة الضيّقة في قطاع غزَّة، وقد توزّعت على جانبيه طاولات مقهى شعبي تجعل المكان أكثر ضيقاً. تلقي بيسان التحية على بعض من تعرفهم، وتتابع نتائج مساعيها اليومية مع الشباب، لتنشيط السياحة الداخلية والتجوال على الأماكن الأثرية والتراثية الفلسطينية في القطاع المحاصر.
تكرّس بيسان جهدها للحفاظ على الموروث الثقافي الفلسطيني بشقّيه المادي والمعنوي.اختارت الفيديوهات القصيرة والبرامج والمبادرات لتنشيط ذاكرة الغزّيين. تبادرت الفكرة إلى رأسها عندما سمعت أمنيات صديقتها بزيارة أزقّة القدس، والتي لم تكن تعلم أن البلدة القديمة في غزَّة بنيت بنفس الطراز منذ آلاف السنين، لتصحبها في اليوم التالي وتلاحظ دهشتها وهي تتفقّد فن العمارة في تلك الحارات القديمة وتقارنها بالصوَر المتواجدة على هاتفها الذكي.
ولأن السرد أو الكتابة لن يجديا نفعاً في عصر مواقع التواصل الاجتماعي، فقد قرّرت بيسان أن تبدأ تصوير برنامج "حكواتية" ممسكة كرسياً قابلاً للطيّ بين يديها، ومتنقّلة بين تلك المعالم. وما أن استقرّت على المضمون حتى وضعت كرسيّها خلف المعلم تماماً، وبدأت الحديث عنه لترتبط الصورة الذهنية لدى المشاهد بما ترويه من قصص تاريخية.
هكذا تخبرنا عن سوق الذهب، وتقول إنه لم يكن كذلك قديماً، بل كان عبارة عن إسطبل للخيول في العهد البيزنطي خاص بزوار المعبد الوثني الذي تحوّل إلى كنيسة ثم إلى مسجد في عهد عمر بن الخطاب ويحمل إسم "المسجد العمري". ولفتت إلى أنه وبعد الاستغناء عن الخيول استقرّت الآراء إلى تحويل تلك الحوانيت أي الدكاكين إلى سوق للذهب بسبب صِغْر مساحته وعدم الرغبة في طمس معالمه.
تكرّس بيسان جهدها للحفاظ على الموروث الثقافي الفلسطيني بشقّيه المادي والمعنوي، واختارت الفيديوهات القصيرة والبرامج والمبادرات لتنشيط ذاكرة الغزّيين.
تطفو الابتسامة على وجه بيسان وهي تحدّثنا عن تمثال طائر العنقاء الذي يتّجه للبحر، وعن الجندي المجهول الذي يشير بيده ناحية القدس، وعن المعالم التي يصادفها الشباب في طريقهم كل يوم، لكنهم لا يعرفون مسمّياتها أو سبب وجودها، ولذلك فإنها تكشف عن قصّتها من خلال مادة مرئية تتحدّث عبرها وكأنها تروي قصة لصديق ما.
تنتقل بيسان إلى ميناء غزَّة، الذي كان معبراً في زمن الكنعانيين لتصدير الفاكهة والحبوب، لكنه تهدَّم وأعيد بناء المرفأ في العهد الحالي الذي تحطّمت مقابله سفينة أستانيا المحمّلة بأسلحة للاحتلال قبل وصولها إلى خط برليف بسبب عاصفة بحرية، فبقيت أجزاء منها مرئية لأيّ زائر للميناء اليوم.
الأمر نفسه فعلته بيسان مع أسماء الشوارع.إذ تروي على سبيل المثال، كيف أن شارع الرمال سمّي بذلك لأن الرمل كان يكسوه كالصحراء. أما السرايا فقد كانت سجناً منذ الوصاية المصرية على القطاع ثم الإنتداب الإنكليزي الذي تبعه احتلال إسرائيلي، وبعد خروجه من غزَّة تمّ قصفه من قِبَل المروحيات الإسرائيلية لتقرّر السلطات تحويله إلى متنزّه واسع.
أما حيّ الشجاعية فقد أخذ إسمه، وفقاً لبيسان، من إسم القائد شجاع الدين الكرد، فيما جاء إسم بيت لاهيا من إسم الإله الذي كان يعبده الكنعانيون قديماً، لكن الترجيحات الجديدة تشير إلى أنه اشتقّ من كلمة لهو نظراً لأنها منطقة شديدة الخضرة.
الأمر نفسه مع بيت حانون الذي حمل إسمه من قرية قديمة كان فيها معبد لعبادة الآلهة والأصنام بناه الملك حانون، وكذلك دير البلح والتي يوجد بداخلها ثاني أقدم دير للديانة المسيحية في العالم.
تأخذ بيسان نفساً طويلاً لتوضح أن المجال قد لا يتّسع للحديث عن جميع أسماء الأماكن والشوارع في غزَّة، ولذلك فإنها تنتقل إلى الأمثال الشعبية التي ترى أن التحريف قد طالها.
وفي حديثها مع "الميادين الثقافية" تقول إن مثل "همّ البنات للميمات" والمقصود بالميمات الأمّهات اللواتي يتولّين الاعتناء ببناتهن، لكن تعاقب العصور وتغيّر النظرة للمرأة جعلت الميمات يتحوّل إلى ممات.
وتشير إلى أن الفلسطينيين وضعوا أمثالاً لبعض المناسبات كموسم حصاد الزيتون. ومنها على سبيل المثال، مثل "بدّك بدّ وسيف الحدّ".
والبدّ حجر ضخم تسحق تحته ثمرة الزيتون، والمقصود به أن يهرس البدّ عظام العمود الفقري، أما سيف الحدّ فهو بمعنى قطع الرأس.
وفي هذا السياق، تذكر بيسان أيضاً وجبة "المسخّن" الشهيرة، التي ابتدعتها النساء الفلسطينيات في موسم حصاد الزيتون لانشغالهن بالعمل داخل الحقل، فكن يضعن بقايا الطعام المتواجدة في بيوتهن مع خبز الصاج قبل تسخينه في فرن من الطين، بخلاف الوصفة المتّبعة اليوم حيث يتمّ إعدادها بالدجاج بدلاً من اللحم الأحمر. فضلاً عن العديد من المأكولات الفلسطينية الأخرى التي يحاول الاحتلال سرقتها كالحمّص والفلافل والمقلوبة.
ولم تنس بيسان فاكهة البطيخ التي "كانت عبارة عن رمز للمقاومة في وجه المحتل. ففي بداية احتلال فلسطين كان يمنع رفع العلم الفلسطيني منعاً باتاً فيرفع المتظاهرون بدلاً منه البطيخ بسبب احتوائه على كافة ألوانه".
وتضيف أن المستوطنين"حاولوا استفزازهم وتحويل ملكية هذه الفاكهة لهم من خلال زراعتها بشكل مكثّف، ما دفع الشباب إلى الانتفاض ضدّ محاصيلهم وإتلافها إلى أن أصبح البطيخ "الإسرائيلي" يتحرّك تحت حماية الجيب العسكري".
يوافق محمّد أبو لحية بيسان في أن مواصلة الحديث عن التراث تبقيه حيّاً، كي لا تتحقّق مقولة بن غوريون: "الكبار سيموتون والصغار سينسون".
أبو لحية الذي ترعرع في مدينة القرارة الغنية بالتراث الثقافي الفلسطيني، ساعده على إنشاء "متحف القرارة الثقافي" الذي يحتوي كل ما احتفظ به منذ الطفولة بمساعدة كبار القرية الذين كانوا يحلمون بحماية تراثهم من المحتل، الذي طالما هاجم البيوت وصادر مقتنيات أهلها قبل انسحابه من غزَّة.
"حضارة تأسّست منذ ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، لكم أن تتخيّلوا كميّة التراث الذي تضمّه اليوم"، بهذه الجملة يعبّر أبو لحية عن المقتنيات التي تملأ الغرفة، ومن بينها الثوب الفلسطيني الذي يميّز كل مدينة في غزَّة، ويعبّر عن الحال الاجتماعية للمرأة استناداً إلى لون أو تفاصيل النقوش على الثوب.
أكثر ما يخشاه أبو لحية اليوم هو طمس التراث عبر نسيانه، أو الحروب المتكرّرة التي تشنّ على القطاع وخاصة قريته القرارة المحاذية للأراضي المحتلة.
ويلفت إبن غزَّة في مقابلة مع "الميادين الثقافية" إلى أن لباس الرجال كان القمباز والجلابية، أو الحطّة والعقال والكوفية، كما كان يستخدم أدوات معينة في الحِرَف الصناعية أو الزراعية التي تحوّلت اليوم إلى جزء من التراث كلوح الترس والمنجل والمدراع.
يستغلّ محمّد المناسبات الوطنية ليستضيف الجدّات اللواتي يروين قصص البلاد وبعض الأمثال الشعبية الشهيرة للأطفال وتعليمهم كيفية طحن القمح، كما حدث خلال مخيّم "بيت جدّي" الذي درّب الشباب خلاله على تقديم عروض الدبكة والكورال المتضمّن للأغاني التراثية مثل "ليا وليا".
ويضيف إن الأمر لا يخلو من العروض والمبادرات والجولات التثقيفية حول المدينة وإعداد المواد المرئية وتقديم نماذج حيّة للعرس أو الزفّة الفلسطينية التي تشتهر بها القرارة، وترديد بعض الأهازيج ولعلّ أشهرها "يا بو الحطّة والعقال".
أكثر ما يخشاه أبو لحية اليوم هو طمس التراث عبر نسيانه أو الحروب المتكرّرة التي تشنّ على القطاع وخاصة قريته المحاذية للأراضي المحتلة.
فالقرارة تجمع عدداً كبيراً من المواقع الأثرية تحت الأرض، وهي معرّضة للسحق خاصة تلك التي تحتوي على الأواني الفخارية والزجاجية بفعل مرور الدبابات الإسرائيلية فوقها باستمرار.
خوفاً على هذا التراث، يؤكّد أبو لحية أنه سيسعى إلى تسجيل قريته ضمن قائمة منظمة "اليونيسكو" للتراث بما فيها المتحف الذي أسّسه، ولو استغرق الأمر سنين طويلة.