كيف يجابه الإخوة سحّاب محاولات طمس الثقافة الفلسطينية؟
في كتابهم "الموسيقى والغناء في فلسطين قبل 1948 وبعدها"، يؤكد الأخوة سحاب على دور الموسيقى والغناء في فلسطين بتثبيت الشخصية الثقافية والتاريخية في مجابهة المشروع الصهيوني.. وهنا نص الحوار مع فكتور سحاب.
بعد صدور كتاب "الموسيقى والغناء في فلسطين قبل 1948 وبعدها" عن "المؤسّسة العربية للدراسات والنشر" للإخوة سحّاب الذين وُلدوا في يافا، دكتور فكتور والمايسترو سليم والباحث إلياس، التقت الميادين الثقافية فكتور سحاب في حوار حول هذا النتاج الثقافي، ربطاً بالقضية الفلسطينية، وصولاً إلى إشكالية التراث الحيّ في مداه وغَوْرِه وكيفية تعريفه راهناً.
فكتور سحّاب أكّد في الكتاب أنّ الموسيقى والغناء في فلسطين تعلُّقٌ وتشبُّثٌ بالشخصية الحضارية والثقافية والتاريخية، في مجابهة مشروع استيطانيّ يَعي خطورة الثقافة في صلب السياسة والوجود.
لذلك، يلاحق كيان الاحتلال كل مظاهر الثقافة الشعبية أو الكلاسيكية الفلسطينية في الغناء والموسيقى وكل أوجه الثقافة، وصولاً إلى الحِرَف الشعبية والشعر واللغة، لأنّ مشروعها إحلاليٌّ، يرمي إلى اقتلاع أهل الأرض لإحلال مستوطنين مكانهم، لا جغرافياً فحسب، بل حضارياً وثقافياً وعلمياً واجتماعياً.
هكذا، يتبدّى الغناء والموسيقى في فلسطين مقاوَمةً لمشروع الاقتلاع منها، ويمثّلان مع كل نواحي التراث الفلسطيني قُطباً جاذباً يحول دون التشظّي في الآفاق والتشرذم في المنافي. الموسيقى والغناء يتجلَّلان حتماً بروح الشعب الفلسطيني الباقية والمتوارثة جيلاً بعد جيل.
الباحث والكاتب فكتور سحاب حاضَرَ طويلاً في التاريخ والحضارة والثقافة المعاصرة، وهو عضو في وفد لبنان إلى "مجمع الموسيقى العربية"، ومن كُتُبه "عن القومية والمادية والدين"، و"من يحمي المسيحيين العرب؟"، و"السبعة الكبار في الموسيقى العربية المعاصرة"، و"مؤتمر الموسيقى العربيّة الأول- القاهرة 1932"،و"أضواء على السينما الغنائية العربية"... ومن أبرز استنتاجاته في حواره مع الميادين الثقافية أنّ القادة العرب يحتاجون إلى النشوء في تربة التراث حتى تستقيم علاقتهم بالشعوب العربية. وهنا نص الحوار.
كتاب "الموسيقى والغناء في فلسطين قبل 1948 وبعدها" الذي صدر في عمّان وبيروت يضمّ جزْأين: الموسيقى والغناء في فلسطين قبل 1948 (تأليف إلياس سحاب وسليم سحاب)، والموسيقى في فلسطين بعد 1948 على اعتبارها "فعل بقاء في الأرض وفعل توحيد" (تأليف فكتور سحاب). هل كان تقسيم البحث في الكتاب بينكم عفوياً بغية تسهيل المهامّ وتجزئتها، أم أنه ارتكز على الدراسات التاريخية لكلٍّ منكم؟ ما هي فوائد البحث والتأليف المشترك؟ وبماذا أَمَدّا موضوع الكتاب على مستويَي التلمُّس والرؤية؟
في ثمانينيات القرن الماضي، كان العلامة المناضل الراحل الدكتور أنيس صايغ يقود نحو 90 باحثاً من أساتذة الجامعات والمفكّرين والعلماء في وضع فصول "الموسوعة الفلسطينية" التي صدرت في دمشق في 7 أجزاء. وقد كلّف أخوَيَّ إلياس وسليم بأن يكتبا دراسةً عن الموسيقى في فلسطين قبل 1948، فوضعا هذه الدراسة. وكلّف إلياس وكلّفني أن نكتب دراسة في الفكر السياسي الفلسطيني بعد 1948، فكتبنا بحثاً مطوّلاً، ثم كلّفني بكتابة: الفنون والتقاليد الشعبية والحرَف اليدوية في فلسطين قبل 1948.
وقد ظهرت الدراسات الثلاث في الموسوعة، ثم أعيدَ نشر دراستي الأخيرة في كتاب: التقاليد والمعتقدات الشعبية والحِرَف اليدوية في فلسطين قبل 1948 (عن دار الحمراء). أما ما كتبتُه في كتابنا الثلاثي الجديد، فهو دراسة أنجزتها بناءً على تكليف من "مؤسّسة الفكر العربي" في بيروت، في موضوع: الموسيقى في فلسطين بعد 1948. وقد نُشرت في "التقرير العربي الحادي عشر للتنمية والثقافة: فلسطين في مرايا الفكر والثقافة والإبداع، الصادر في العام 2019.
كتابنا الثلاثي، إذاً، يجمع: دراسة الموسيقى والغناء في فلسطين قبل 1948، لإلياس وسليم، ودراستي: الموسيقى في فلسطين بعد 1948. ولم تكن في البدء لدينا فكرة جمع الإثنتين معاً في كتاب، لكنني أعدتُ طباعة الدراستين على حاسوبي، ثم خطرت لي فكرة نشرهما في كتابٍ واحد. ونحن نعيش في هاجس المحاولات الإسرائيلية لطمس الثقافة الفلسطينية العربية من أجل محاولة محو الوجود الفلسطيني، ضمن إطار الغزو الثقافي الغربي العام للوطن العربي. وقد لاقت الفكرة حماسةً فورية لدى إلياس وسليم، ولدى الناشر ماهر كيالي لنشر الكتاب في "المؤسسة العربية للدراسات والنشر".
كتبتَ في تقديم الكتاب أنّه بعض نتاج رحلة العمر مع الموسيقى، ومع القضية الفلسطينية والجذور التي ترفض أن تنسى تربتها، متمنياً أن يكون هذا النتاج على مستوى يخدم فلسطين، ويسد بعض الحاجة إلى إحياء الذاكرة، وأضفتَ أن قضيتكم الأولى هي قضية فلسطين والثقافة من أمضى أسلحتها. كيف يمكن جعل الحركة والفعل الثقافيين والنتاج المرتبط بهما أكثر فعاليةً وتأثيراً اليوم في مجابهة محاولات طمس التاريخ والذاكرة؟
العقيدة الصهيونية قائمة على النظرية العنصرية في تكوين الشعوب، على أساس وحدة الدم واستيطان الأرض؛ الدم من يهوديّة كل مولودٍ لامرأة يهودية، والأرض من الاستيلاء على أرض فلسطين (النظرية النازية الألمانية: Blut und Boden).
نحن على العكس، نؤمن بالنظرية التي قال بها الفيلسوف الألماني فيخته (Fichte)، والمربّي العربي ساطع الحصري، وأيّدتها الدراسات السوسيولوجية الحديثة، وهي أنّ القوميات تتكوّن من مجموعةٍ من الناس تجمعهم اللغة (حاضنة الثقافة) والتاريخ (حاضن الوعي السياسي). ولذلك، نعتقد أنّ صوْن الثقافة هو ذوْدٌ عن وجود الأمة، والموسيقى عمادٌ أساسي في ثقافتنا الموحَّدة والموحِّدة.
لذلك، كنت قد أصدرت في العام 1948 كتابي "ضرورة التراث" عن "دار العلم للملايين"، وقلت فيه إن التراث: أولاً غير مسؤول عن هزيمتنا التاريخية أمام الغرب. ثانياً، إنّ التراث ضروري من أجل وحدة الأمّة العربية، ولا سيما الشعب الفلسطيني. ثالثاً، إنّ التراث ضروري من أجل استقلال شخصيتنا العربية وتمايزها عن الحضارات الأخرى. رابعاً، إن القادة العرب يحتاجون للنشوء في تربة التراث حتى تستقيم علاقتهم بالشعب، ويمكن عندئذٍ أن يستقيم الحكم غير المستبد، أي ما يسمَّى "ديمقراطية".
حفظ التراث وتنشئة الأجيال عليه مع ضرورة الانفتاح على حضارات العالم بعد هذه التنشئة تعد كلها السبيل السليم للنهوض.
ورَدَ في الكتاب أنه على صعيد الموسيقى الشعبية الموروثة يتّضح لكم أنّ ملامح الفولكلور الفلسطيني (غناءً ورقصاً وموسيقى) جزءٌ من إطار أوسع للفولكلور العربي المشرقي. كيف تقيّم وتنظر إلى تسميات علمية وشعبية في المقابل كـ"الفولكلور الفلسطيني" و"اللبناني" و"السوري" و"الأردني"؟ وماذا تقول عن الخصوصيات الفولكورية والتراثية في كل بلد؟
في العام 1973 كنتُ أجري بحثاً عن التراث الموسيقي اللبناني، فقابلتُ الأب لويس الحاج، عميد المعهد الموسيقي في "جامعة الكسليك" آنذاك، ثم الفنّان زكي ناصيف، وسألتُهما السؤال نفسه: ما هي جذور التراث الموسيقي اللبناني؟ أجابني الأب الحاج: ليس من تراثٍ موسيقيّ لبناني، هذا تراث موسيقي "سريانيّ". أما زكي ناصيف، فقال لي، بمضمون شبيه، لكن بتعبيرٍ مختلف: ليس ثمة تراث موسيقي لبناني، هذا تراث "بلاد الشام". وحين تأمّلت في الإجابتين، وجدتُهما متطابقتين، لكن كُلاًّ من الحاج وناصيف أجاب بحسب ميل وعيه التاريخي أو الديني أو السياسي.
وحين كنتُ أكتب بحثي للموسوعة الفلسطينية: "الفنون والتقاليد الشعبية والحِرَف اليدوية قبل 1948"، صادفتُ في المصادر أموراً عن العادات في فلسطين، لم أفهمها تماماً. فكنتُ أسأل حماتي القروية الكسروانية المارونية، فكانت تفسّر لي الأمور بوضوحٍ كان يذهلني، فالعادات الشعبية في فلسطين شديدة الشبه بما لدينا في لبنان. وهكذا قُلْ في الأردن وسوريا وبعض مناطق العراق. والقول بفولكلور "لبناني" و"سوري" و"أردني" و"فلسطيني"، إنما هو فهم يتضح مصدره إذا عدنا إلى 1917، واتفاق سايكس - بيكو على تقسيم تركة السلطنة العثمانية بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى.
يتضمّن الكتاب "التنويط" (Notation)، أي التدوين الموسيقي بالنوطة الموسيقية للـ"عتابا" و"الميجنا" و"المْعَنَّى" و"الدلعونا" و"الشّْرُوقي" وسواها. إلى أيّ مدى يُسهم "التنويط" في توسيع دائرة انتشار هذه الألحان في العالم، وفي الغرب تحديداً؟
هذه الأنواع الغنائية شعبية ريفيّة تنتمي إلى بلاد الشام، أو البلاد الأربعة المذكورة آنفاً، وهي مرتبطة ارتباطاً أنثروبولوجياً بأنماط العيش في أريافنا، ولم تكن تُغنَّى في مدننا المجاورة لتلك الأرياف. وقد مدّنَتْها (أي جعلَتْها تُغنَّى في المدن) حركتا "فرقة الأنوار" و"الفرقة الرحبانية" في النهضة الموسيقية اللبنانية التي امتدّت تاريخياً من أوائل الخمسينيات إلى العام 1974.
هذا ما أعبّر عنه في الكتابة التاريخية العلميّة بعبارة "تمدين موسيقى أرياف بلاد الشام"، أي تحويل الفولكلور إلى أنماط غنائية كلاسيكية. في تلك النهضة، صارت المدن العربية تسمع وتستذوق موسيقى أرياف بلاد الشام، لأن "الميجانا" و"العتابا" و"الشروقي" و"المْعَنّى" وغيرها، صارت تُعزَف وتُؤدَّى على طريقة موسيقى المدن، مع فرقة موسيقية مكتملة، لا على المجوز والربابة والمنجيرة فقط. وهكذا تحقّق نشر الفولكلور الشامي في مدن الوطن العربي.
أما مسألة النشر في العالم، فيجب ألا تكون هاجساً، كي لا نشوّه موسيقانا من أجل هذا الهدف. الغرب ناقصُ المعرفة لأنه لا يعرف موسيقانا، فيما نحن نعرف موسيقاه تماماً. المحافل العلميّة الموسيقية الراقية في الغرب تعرف قيمة موسيقانا العربية، وتحاول استلهامها للخروج من حال الانسداد التاريخي في الموسيقى الغربية الحالية. وسيحظى الغرب بكنزٍ ثقافي موسيقي ثريّ، إذا تمكّن من معرفة موسيقانا واستذواقها، وربما استلهامها في المؤلَّفات الغربية في المستقبل.
وَرَدَ في الكتاب أنّ ثمة من يرى أنّ الغناء حتى يكون ذا أثرٍ ودوْرٍ وطنيين أو قوميين، فلا بد من أن يكون الشعر فيه ذا موضوع سياسي أو وطني مباشر، يحض على العمل الوطني والنضال، ويلهب المشاعر القومية، فيما يرى آخرون أنّ الغناء التراثي الأصيل في ذاته، أكان وطنياً وقومياً مباشراً في شعره أم لم يكن، إنما هو عنصر أكيد في رسم ملامح الهوية الوطنية والقومية. إذا انطلقنا من وجهتَي النظر المذكورتين، ومن التاريخ إلى الراهن: كيف تعرّف اليوم الأغنية الملتزمة؟ وكيف تكون مقوّماتها؟
لقد أجاب عن هذا السؤال الزعيم العربي الراحل جمال عبد الناصر، حين قال إن الفنّ الملتزم هو الفنّ الذي يرتقي بثقافة شعبه. وأضيف أنا، بكل تواضع، إنّ أحد الفلاسفة الفرنسيين سُئل: ما هي الثقافة؟ فقال إنّ شعوب العالم تغنّي، وترقص، وتتزوّج، وتلد، وتربّي أولاداً، وتدفن موتاها، ولكن كلّ شعب يغنّي ويرقص ويتزوّج ويلد ويربّي أولاداً ويدفن موتاه على طريقته. هذه الطرق الخاصة في فعل الأشياء هي الثقافة.
لذلك، في رأيي، ما دام تراثنا هو مِلاط وحدتنا وجوهر تمايزنا بين الحضارات، فإنّ الموسيقى العربية، مثلاً، بمقام "البيّاتي" و"الراست" و"الهُزام" وغيرها، وإيقاع "المصمودي" و"الدارج"... وكل نواحي الفنون العربية والثقافية، ما دامت أصيلة فهي ملتزمة، وهي حاملة للقضية العربية. هذا ما تقوله النظريات غير العنصرية في تكوين الشعوب والقوميّات.
كانت هزيمة 1967 الشرارة التي أوقدت الحميّة لدى الشعراء والمغنّين والفنانين الفلسطينيين، ليبدأوا مرحلة جديدة في الغناء الوطني واكبت الظهور البارز للعمل الفدائي، كما يرد في الكتاب. وقد استعانت المنظمات بهذه الأعمال وتبنّتها ودعمتها. هل هناك دعم حقيقي اليوم على المستويات كافّة لأعمالٍ مشابهة، ولو في ظروفٍ وأُطُرٍ مغايرة؟ كيف يمكن للفن الملتزم عموماً أن يستمرّ بلا دعم؟
الوضع السياسي المتردّي في العالم العربي لن يسمح بهذا الدعم. بيتهوفن كان مدعوماً، ويُنفق عليه أحد الأمراء الألمان. الخديوي إسماعيل كان يدعم عبده الحمولي ومحمد عثمان قُطبَي الموسيقى والغناء العربيّين المدنيين في القرن التاسع عشر. الملك المصري فؤاد الأول والاقتصادي المصري طلعت حرب دعما النهضة الموسيقية والسينمائية والفنية التي أسعدتنا بمحمد عبد الوهاب وأمّ كلثوم ورفاقهما. في لبنان، أشكُّ جداً في أنّ النهضة الموسيقية بين 1950 و1974 كانت ستكون بهذه القامة الشامخة لولا مهرجانات بعلبك التي دعمتها الدولة، ومهرجانات الأنوار التي دعمها الصحافي سعيد فريحة. في كل حالات الدعم التي ذكرت، لم تكن الحوافز التجارية هي سبب الدعم، بل الحوافز الثقافية.
وما دامت الحكومات العربية في غيرِ هَمِّ النهوض والتطوّر، فإنّ الأمور ستظلّ محصورة في الجهود الفردية التي قلّما تصنع نهضةً شاملة. شقيقي سليم في مصر ينشئ أجيالاً من المغنّين والمغنّيات والموسيقيين، لأنه يحظى بدعم "دار الأوبرا" ووزارة الثقافة المصرية، ولديه مئات من الأطفال في الفرَق الموسيقية التي أسّسها، وهو يجمع من "أبناء الشوارع" والمياتم، وينمّي ثقافة هؤلاء الأولاد ويدربهم. من دون الدعم غير التجاريّ الحوافز، الأمور التجارية الرخيصة تكون هي الطاغية، أي المستوى الثقافي والفنّي المتدنّي هو الذي يسود.
قال محمود درويش إنّ "التراث الحيّ هو ما يُكتب اليوم وغداً". إذا طلبنا منك أن تعرّف التراث في القرن الحادي والعشرين بطريقة غير تقليدية، فماذا يكون تعريفك له؟
مع احترامي للشاعر الوطني الكبير، فإن التراث الحيّ هو التراث الحاضر فينا، سواء كان قصيدة معاصرة لمحمود درويش أو قصيدة من التراث القديم للمتنبّي. التراث عمليّةٌ نفسية تَعْتَمِلُ في داخل الإنسان الحيّ اليوم، وتسوق سلوكه في الحاضر، وقد تؤثّر في مجرى الأمور إلى المستقبل، وهي عملية غير محصورة في الماضي ولا في الحاضر، وقد تكون عوامل التأثير فيها مستمَدّة من ماضٍ بعيد أو قريب، أو من ماضٍ قوميّ وطنيّ، أو تكون مستعارة من حضارات خارجية. ولذلك، نرى هذا الإنسان تقليدياً وذاك حداثياً، وهذا الفكر قومياً وذاك الفكر متغرِّباً... مثلاً.
لذلك، أظنّ أنّ التربية من أخطر الأمور في المجتمع البشري، لأنّ الطفل، ولا سيّما بين مولده وسن المراهقة، يكون متلقّياً، أي أنّ العوامل الأساسية في تكوين شخصيته تكون قد زُرعت فيه لتُضافَ إلى جيناته الموروثة.
أما بعد المراهقة، فتبدأ في نفسه الثورة على طفولته، والبحث عن آفاقٍ جديدة، وربما الخروج من تراثه الذي تربّى عليه.
وبناءً على هذه النظرة التي أؤمن بها، أقترحُ أن ينكبَّ التربويّون العرب على التمييز بين المرحلتين، حتى تكون المرحلة الأولى، مرحلة الطفولة، ترمي إلى غرس العوامل العربية الثقافية في نفس الطفل العربيّ، لتتكوّن شخصيته الحضارية في حضن هذا التراث، فيما تكون التربية في مراحل المراهقة وما بعد شديدة الانفتاح على حضارات العالم، لأن المكوث في تراثنا والإعراض عن مستحدَثات البشريّة من دون انفتاح بمثابة حكمٍ مبرم علينا بالهزيمة الحضارية سلفاً.
ولهذا، تكون مرحلة المراهقة والنضج هي مرحلة التسلُّح بأسباب العصر، بعد اكتمال الشخصية العربية، من أجل صنع الغد الجدير والقادر على البقاء وعلى مواجهة المستقبل وصنعه.