عنايات الزيّات.. حياة الكاتب رواية أيضاً!
تقول الحكاية إنها انتحرت بعد رفض نشر مخطوط روايتها الوحيدة، لكن يبدو أن أسباب انتحار عنايات الزيات أكبر من هذا التفصيل. تعالوا نكتشف حكايتها.
"لو متّ غداً لما اهتزّ أحد لموتي.. خطواتي لن تترك أثراً، وكأني أمشي على ماء.. أنا لا أعني شيئاً عند أحد"، عنايات الزيّات، رواية "الحبّ والصمت".
مأساة: ماذا فعلت "الحبّ والصمت" بكاتبتها؟
في صباح أحد أيام كانون الثاني/ يناير عام 1961، وصل الأفندي عباس حلمي الزيّات المراقب العام في الجامعة إلى الدار القوميّة ترافقه إبنته عنايات حاملة مخطوطاً نضّدته بنفسها عبر آلتها الكاتبة ماركة "روتيرن أوبتيما". وقّعت عنايات في دفتر استلام المخطوطات وتركت رقم هاتف منزلها بانتظار ردّ الدار الذي سيأتي في غضون أسبوعين.
لم تكن عنايات طارئة على الكتابة، فقد نشر لها مصطفى محمود بعض النصوص بإسم مستعار وقرأ لها يوسف السباعي وأنيس منصور ومحمود تيمور، وكان بإمكانها أن تنشر الرواية على حسابها الخاص، كما اقترح عليها والدها المثقف صديق "شعراء أبولو" والحنون صديق بناته الثلاث، ولكنها كانت تحلم بصدورها عن دار معترف بها، وكانت مقتنعة بأنّ "الدار القوميّة" إحدى ثمار ثورة تموز/يوليو 1952 تعمل على تحقيق الثورة الثقافيّة التي نادى بها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر.
وطال الأسبوعان حتى استحالا عامين، وعنايات تسأل والدتها كل يوم عند عودتها من المعهد الألماني "حدّ كلّمني؟"، حتى أتى الردّ المنشود في الثالث من كانون الثاني/يناير 1963 حين رنّ جرس الهاتف في منزل عائلة الزيّات، وأجابت والدة عنايات، فأنبأها المتّصل أنّ الرواية لا تصلح للنشر!
اتصلت الدار مجدّداً بعد يومين لتوضح للعائلة التباساً بسيطاً: المخطوط الذي رفضته الدار هو رواية ألمانيّة ترجمتها إلى العربيّة عظيمة الزيات الشقيقة الأصغر لعنايات، لا رواية عنايات "الحبّ والصمت"، لكن عنايات كانت قد انتحرت.
كان يفترض أن تحتفل عنايات في اليوم التالي بعيد ميلاد صديقتها الأقرب الممثلة الشهيرة نادية لطفي، ولما تأخّرت في العودة هاتفت العائلة نادية لتناشدها مازحة أن تطلق سراح ابنتها، فكانت المفاجأة أن عنايات لم تحضر أصلاً – وللمرّة الأولى - لمشاركة صديقة عمرها احتفالها بعيدها.
وبعد 24 ساعة، عثر على عنايات جثة هامدة في شقتها في الطابق العلوي من البناء الذي تقطنه العائلة في الدقّي والذي تمّ تخصيصه لعنايات وابنها الوحيد عباس بعد طلاقها، ليتبيّن أنّها أقدمت على الانتحار من خلال تناول 20 حبة منوّمة تاركة رسالة وداعيّة قصيرة لابنها تخبره فيها أنّها تحبّه وأنّ الحياة غير محتملة!
ولكن المسرحيّة الإغريقيّة المأساويّة لم تنته بعد، فقد اتصلت الدار مجدّداً بعد يومين لتوضح للعائلة التباساً بسيطاً: المخطوط الذي رفضته الدار هو رواية ألمانيّة ترجمتها إلى العربيّة عظيمة الزيات الشقيقة الأصغر لعنايات، لا رواية عنايات "الحبّ والصمت"!
تبدو هذه المأساة حكاية مثاليّة لعشّاق القصص الغريبة والرومانسيين وصائدي الروايات المختبئة خلف الروايات. هي نموذج آخر للرواية التي قتلت كاتبها. ويمكن أن يجد القارئ ما يخفّف من ألمه في الاحتفاء الذي لاقته الرواية بعد وفاة كاتبتها، مع نشرها أكثر من مرّة، وكتابة مراجعات نقديّة حولها، وتحوّلها إلى مسلسل إذاعي وفيلم سينمائي (سيناريو مسعود أحمد، وإخراج عبد الرحمن شريف، وبطولة نيللي ونور الشريف/ 1973)، وإن كان الفيلم بالغ الرداءة ومفرطاً في الخفّة والتسطيح وليس فيه شيء من الإخلاص للقصّة الأصليّة.
إيمان مرسال في أثر عنايات الزيات
الشاعرة والمترجمة المصريّة إيمان مرسال التي طاردها طيف عنايات لم تشأ الركون إلى الحكاية المتداولة (والحكاية المتداولة عن عنايات لا تتجاوز سطرين، أمّا أغلب التفاصيل المذكورة أعلاه فهي حصيلة جهد مرسال نفسها)، فتركت نفسها لتتبّع آثار خطواتها منطلقة في شباط/ فبراير 2015 من الخبر الموجز المنشور في "صحيفة الأهرام" في كانون الثاني/ يناير 1963 وفيه: "ذكرى المرحومة عنايات الزيات.. بقلوب عامرة بالصبر والإيمان تحيي الأسرة اليوم ذكراها التي لا تنسى بمدفن المرحوم رشيد باشا بالعفيفي"، لتصل في الختام إلى كتابها "في أثر عنايات الزيات" الصادر عن "الكتب خان" عام 2019 ضمن سلسلة "بلا ضفاف" وهي سلسلة تعنى بنشر التجارب الأدبيّة الخارجة عن التصنيفات المتعارف عليها من قصّة ورواية وشعر ومقال.
في الطريق إلى عنايات "المقطوعة من شجرة" كان على مرسال أن تبحث عن مدفن رشيد باشا بالعفيفي، وعن مسكن العائلة في الدقّي من خلال خرائط قديمة في مكتب المساحة تعود إلى العام 1961، وأن تقرأ مقالات أنيس منصور الكثيرة عن عنايات وروايتها وتفكّ ألغازها خصوصاً لجهة التفاصيل الإضافيّة التي كانت تظهر في كل مقال جديد، وأن تبذل جهداً هائلاً للوصول إلى عائلة عنايات أو مَن تبقّى منها وهي الأخت الصغرى "عظيمة" وتواجه تحفّظها الشديد في الحديث عن حياة أختها الراحلة في ظلّ إحساس خفيّ بالذنب، وقبلها إلى بولا أو "نادية لطفي"صديقة عنايات الأقرب كما يشير أنيس منصور، وأن تجمع صوَراً ومعلومات وذكريات لتعيد ترتيبها كقطع البازل حسب تسلسلها الزمني بتأنّ شديد، راسمة ببراعة صورة واضحة المعالم لحياة كاتبة مجهولة عاشت وماتت قبل عقود من دون أن تترك أثراً سوى روايتها اليتيمة التي أشيع أنّها ماتت بسببها.
ومن الحقائق التي تخلص إليها إيمان مرسال في كتابها الغنيّ الذي لا تغني هذه السطور عن قراءته كاملاً، أنّ عدم نشر الرواية ليس سوى جزء من المشهد، وأنّ عنايات انتحرت بسبب القسوة، فامرأة سعيدة لا يمكن أن تنتحر من أجل كتاب، بل هي حياة عنايات الزوجيّة الفاشلة التي سبّبت لها من الآلام النفسيّة والجسديّة الكثير.
فقد عادت عنايات إلى منزل عائلتها مع طفل يحبو بعد معاناة مع زوج رفض أن يفارقها بإحسان هو كمال الدين شاهين الضابط الطيّار الذي ينتمي إلى أسرة كبيرة ذات صيت. وفي الحوارات بين نجلاء بطلة "الحبّ والصمت" وصديقتها نادية، يمكن استنتاج الكثير عن حياة عنايات ومعاناتها، فاختيار إسم الصديقة ليس عبثيّاً، بل هو دليل واضح على مدى التشابه بين أفكار عنايات وبطلتها نجلاء ومعاناتهما.
وفي دعوى التطليق للضرر التي رفعتها عنايات أمام محكمة الأحوال الشخصيّة في الجيزة، لم تستطع أن تغادر أسلوبها الرقيق وتربيتها العائليّة، فتجنّبت ذكر التفاصيل واكتفت بالقول إنّ "الحياة الزوجية بينهما كانت سلسلة من المآسي والاعتداءات المهينة عليها كإنسانة وزوجة وأم".
تخلص إيمان مرسال إلى أنّ عدم نشر الرواية ليس سوى جزء من المشهد، وأنّ عنايات انتحرت بسبب القسوة، فامرأة سعيدة لا يمكن أن تنتحر من أجل كتاب، بل هي حياة عنايات الزوجيّة الفاشلة التي سبّبت لها من الآلام النفسيّة والجسديّة الكثير.
كان في ظنّها أنّ مفردات كهذه لها وزن في نظر القضاء، ولكن القاضي كان له رأي آخر، فرفض طلبها، وكان عليها انتظار الاستئناف، قبل أن تخسر الاستئناف أيضاً لأسباب "وجيهة"، وتعيش كابوس أن يطلبها زوجها إلى "بيت الطاعة"، فقد جاء في حيثيّات قرار المحكمة رفض الاستئناف أنّ عنايات "منطوية لا تشارك زوجها وأصحابه عندما يزورونه بعائلاتهم المحترمة الطعام ولا المرطبات".
ورغم كل ذلك، واصلت عنايات العمل على تحقيق حلمها مستغلّة الحريّة التي كفلتها لها إقامتها المستقلّة في الطابق الثاني من منزل العائلة لتكتب روايتها الأولى متخفّية وراء "نجلاء" شخصيّتها الروائيّة التي تشبهها كثيراً، وسيكون عدم نشر الرواية صدمة كبيرة لها، ولكنه ليس صدمتها الأولى على أيّة حال.
وأخيراً سنكتشف مع إيمان مرسال أنّ رفض نشر كتاب عنايات، لم يمنعها من التحضير لكتاب ثان عن سيرة عالم المصريّات الألماني لودفيغ كايمر الذي عمل في المعهد الألماني في القاهرة، وهو مكان عمل عنايات الزيات نفسها.
وقد يسأل القارئ نفسه، وهو يتعرّف إلى عنايات من خلال ما أدلت به شقيقتها عظيمة وصديقتها نادية، عن شهادة لإبنها عباس (وإن كان لا يزال طفلاً لحظة انتحارها)، ولكنه تساؤل سرعان ما يتبدّد بعد الاطلاع على مصير الإبن على لسان خالته عظيمة، فعباس الذي تخرّج من كلية الآثار وتزوّج وسكن في الطابق الثالث فوق شقّة والده في حيّ المهندسين، سقط من شرفة شقته إلى الشارع لحظة دخول سيّارة والده إليه تماماً، ومات. هل كانت حادثة عرضيّة؟ ربّما، لولا ملاحظة عابرة في شهادة "عظيمة" تقول إنّ عباس عانى كوالدته من اكتئاب شديد.
لمحة عن "الحبّ والصمت"
تبدأ الرواية مع حال الحزن الشديدة التي تغرق فيها نجلاء ولا تنجح عائلتها شديدة الثراء وصديقتها نادية في انتشالها منها، بعد وفاة شقيقها الوحيد والمحبوب هشام الذي كان يمثل بالنسبة إليها العالم كله والجدار الذي تستند إليه، إثر اختلال توازنه أثناء لعبه على "المتوازيين"، قبل أن تتمرّد على عائلتها فترفض زيجة تقليديّة من أحد أقاربها "عادل" وتسخر منه.
ثمّ تتمرّد على تقاليد العائلة مرّة ثانية حين تقرّر العمل مع نادية في دار نشر براتب يعادل راتب "مرغني" سائق العائلة الذي يعمل عندها على نحو خاص، ومن خلال عملها في دار النشر تتعرّف إلى الكاتب أحمد ابراهيم الذي يناصب طبقتها العداء وتتأثّر بأفكاره حتى تمقت طبقتها، وتنفعل تماماً مع دخول أحمد إلى السجن خصوصاً حين تكتشف أنّ والدها هو أحد المحرّضين على إدخاله إليه.
إذا كان من الضروري دعوة قارئ هذه المقالة إلى قراءة "الحبّ والصمت"، فإن قراءة سيرة كاتبتها لا تقل أهمية وامتاعاً.
لكن أحمد يقرّر إنهاء حكاية حبّهما بعد خروجه من السجن، لتكتشف بعدها أنه أصيب بمرض خطير فتهرول إليه متجاوزة كل الاعتبارات وحاسمة أمر انتمائها إليه وإلى ما يمثله من رمزيّة مناقضة لما نشأت عليه، وبعيداً عما سيحصل لاحقاً لأحمد وما سينتهي إليه حبّهما، فإنّ الثابت أنّ نجلاء ولدت على يديه من جديد وأعادت اكتشاف نفسها، تماماً كما ولدت مصر من جديد مع فجر ثورة تموز/يوليو الذي يطلع في الصفحة الأخيرة من الرواية.
***
تقول الكاتبة المصريّة منصورة عز الدين إنّ أمتع ما قرأته في العام 2021 هو سِيَر مكتوبة عن حيوات كتّاب سبق أن قرأت لهم، وفهمت كتاباتهم في ضوء جديد بعد قراءة سيرهم وعلاقتها بإبداعهم، وتذكر منها "الساعة الزرقاء" لليليان بيزيتشيني عن حياة جين رايس، و"ريلكه في باريس" لموريس بيتز، وكتابات كثيرة عن حياة باول تسيلان تتناول كل جوانبها من علاقته باللغة والصمت مروراً بحبه المستحيل وعلاقته المضطربة بزوجته جيزيل، و"إبراهيم ناجي، زيارة حميمة تأخّرت كثيراً" لسامية محرز.
وإذا كان من الضروري دعوة قارئ هذه المقالة إلى قراءة "الحبّ والصمت"، فإن قراءة سيرة كاتبتها لا تقل أهمية وامتاعاً، ولا يمكن أن تختصرها هذه السطور، وفيها جهد جبّار ومحترف لكاتبة مبدعة آلت على نفسها ألا تترك الموضوع الذي شغلها قبل إيفائه حقّه بالكامل، ولولاها لكان كل ما نعرفه عن عنايات هو ذلك التعريف الذي تضمّنته مقدّمة روايتها: "في منتصف الستينيات شهدت الحياة الأدبيّة حادثاً فريداً، وهو انتحار أديبة شابّة لا تعرفها الحياة الأدبيّة الدارجة على نحو واسع أو ضيّق، بعد رفض ناشر ما أن يطبع روايتها التي ستطبع وتقرأ لاحقاً وسيصفها الناقد محمود أمين العالم بـ: قصة نضال جسور من أجل الحريّة".
المصادر
- "الحبّ والصمت"، رواية، عنايات الزيات، مركز المحروسة للنشر والخدمات الصحفيّة والمعلومات – القاهرة، 2019.
- "في أثر عنايات الزيات"، إيمان مرسال، الكتب خان للنشر والتوزيع، 2019.