ديوجين: فيلسوف في برميل
سأله الإسكندر عن سبب وقوفه أمام المقبرة الملكية، فأجابه بأنه كان يتأمّل عظام الملوك ولم يجد فرقاً بينها وبين عظام العبيد أو عظام كلب ميت.. إليكم حكاية الفيلسوف ديوجين.
عاش متسوّلاً، يرتدي عباءة قذرة، ومسلّحاً بعصا يلوّح بها على كل من اقترب منه، وفي المساء يأوي إلى برميل. قال عنه الشهرستاني في (المِلل والنِحل): "كانَ حَكِيماً فاضلاً متقشّفاً لا يقتَني شيئاً ولا يأوى إلى مَنزل". في هذا المقال نكتشف أحد أكثر الفلاسفة غرابة.
كان ديوجين Diogène (412 إلى 323 ق م) المعاصرلأفلاطون وأرسطو وتلميذ سقراط فيلسوفاً متشرّداً، وأحدَ رُواد المدرسة الكلبية 1Cynicism. يعيش في برميل ويتجوّل في أثينا في وضح النهار حاملاً فانوساً مضاءً، يبحث عن رجل حقيقي، وأنبلُ الرجال بالنسبة إليه هم الذين يحتقرون الثروة والمجد والسرور ويسيطرون على الفقر والغموض والألم والموت.
حاول ديوجين تطبيق مبدأ "الاكتفاء الذاتي" في حياته، فعاش بالتسوّل، ونام في أروقة المعابد، وكان يرتدي الخِرَق معتقداً أن الفقر يقدّم للفيلسوف مساعدة لا يمكن تعلّمها في الكتب، متّبعاً في ذلك منهج المتشائمين الذين يعتمدون على الطبيعة في كل شيء، ويكتفون بالأساسيات، ويتجاهلون "التصرّفات التي تُحَوِّلُ الرجال الحقيقيين إلى حيوانات سيرك"، لذلك رفضوا خيرات العالم وإغراءاته المتعدّدة.
يقول الشهرستاني عن ديوجين إنه: "كانَ حَكِيماً فاضلاً متقشّفاً لا يقتَني شيئاً ولا يأوى إلى مَنزل".
يقول جان مانويل روبينو في كتابه "ديوجينDiogène" الصادر في العام 2020: إن "ديوجين، عاش ككلب ضال على صدقات معاصريه، ولكن على عكس الحيوان، كان هذا التسوّل اختياراً مفترضاً ووفقاً لما عُرف عن حياة الفقراء في ذلك الوقت، وبشكل خاص وفقاً لمبادئَ فلسفية".
ويضيف روبينو أن ديوجين "لم يكن يفكّر في التسوّل بأيّ شكل من الأشكال: إنه يبحث عما هو شرعي لأنه في مقابل ما يُمْنَحُ له يقدّم مشورته الفلسفية (....) أما مظهره الحقيقي، فيجَسِّده عدد من التماثيل كذلك الذي أقيم له سنة 2006 في سينوب2 (sinop)، مسقط رأسه، حيث يظهر واقفاً يحمل مصباحاً في يده بلحية طويلة وصلعة واضحة، يرتدي خرقة تكشف عن كتفيه وركبتيه وكلبُه إلى جانبه، يمكن العثور على هذه الصورة أيضاً على عملة برونزية تمّ ضربها حوالى عام 100 بعد الميلاد".
سأل الإسكندرُ الأكبر ديوجين مرة عن سبب وقوفه أمام المقبرة الملكية، فأجاب بأنه كان يتأمّل عظام الملوك فما وجد فرقاً بينها وبين عظام العبيد أو حتى عظام كلب ميت، وأن موت كلب لا يختلف عن موت طاغية.
تعدّ صورة ديوجين التي تجسّد عيشه في برميل الأكثر شهرة، حين يثار الحديث عن هذا الفيلسوف. إنها صورة موجودة في كل مكان تجسّدها التماثيل والأعمال الفنية؛ أشهرها لوحة الرسّام والنحّات الفرنسي جان ليون جيروم Jean-Léon Gérôme التي رسمها عام 1860، وتصوّر الفيلسوف رابضاً في برميل يمسك مصباحاً وبجانبه 4 كلاب تحدّق فيه. لكن هل كان ديوجين يعيش في برميل فعلاً؟
يقول جان مانويل روبينو: "هناك خدعة كبيرة. فالبراميل لم تكن موجودة في زمن الفيلسوف ديوجين، فأقدَمُ بقايا البراميل التي عُثر عليها في الأرض الرطبة، تعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، وعلى الرغم من بعض الآثار الأيقونية القديمة، أظهرت بعض الإشارات أن "البراميل" ظهرت في حروب الغال (مابين 58 و 50 ق م) وحرب قيصر الأهلية (ما بين 49-45 ق م). وأصل الخدعة في سوء الترجمة من النصوص الأصلية، فقد ترجمت كلمة (Pithos) إلى برميل وهي ترجمة غير دقيقة لأن الكلمة تعني (جرّة خزفية كبيرة).
الإسكندر الأكبر يلتقي ديوجين
غادر ديوجين أثينا ليقيم في مدينة كورينثوس وهي إحدى المدن العظيمة التي نافست في أهميّتها أثينا والتي ارتبطت بأهمّ حلقاته ومحاوراته.
وفي سنة 336 ق م، ذهب ملك مقدونيا الإسكندر الأكبر3 إلى كورينثوس حيث التقى بديوجين الذي كان قابعاً في جوف برميله المتهالك، فاقترب منه وأجرى معه محاورة خلّدت في كتب التاريخ والفلسفة. قال الملك لديوجين:
- أنا الإسكندر الأكبر.
وقال ديوجين بهدوء وثقة:
- وأنا ديوجين الكلب.
هنا اقترب الملك من الفيلسوف قائلاً:
- أراك محتاجاً إلى أمور كثيرة وتسرّني مساعدتك، إسألني، سأعطيك كلَّ ما تريد.
فأجاب ديوجين:
- نعم، قف بعيداً عن شمسي!
فوجئ الإسكندر بردّ فعله، وأعجب بغطرسته وعظمته وقال لأتباعه الذين كانوا يسخرون من الفيلسوف: "هذا البرميل مليءٌ بالحكمة، ولو لم أكن الإسكندر الأكبر لوددت أن أكون ديوجين".
أصبحت محاورة ديوجين مع الإسكندر الأكبر إحدى أهم المناقشات في التاريخ الفلسفي.
كان ديوجين يعلم بأن محاوِره حاكمُ أكبر إمبراطورية في زمانه، لكن ازدراءَه لرجال السلطة والمال والجاه جعله يخاطبه بتلك الجرأة؛ فالإسكندر الذي كان يطمح إلى بلوغ "نهاية العالم والبحر الخارجي الكبير"، وغزا الهند عام 326 ق م، وشرع بعد ذلك في شنّ حملات عسكرية عدّة انتصر فيها كلها، ودخل شبه الجزيرة العربية وبابل ومصر، تضاءلت عظمته أمام فيلسوف متشرّد يصف نفسه بالكلب استطاع انتزاع تقدير الملك قبل العامة، لأن سلوكاته كانت تتّسق وفلسفتَه التي مرّر من خلالها موقفه من الحياة والحضارة الإنسانية والطبيعة والأخلاق والأسرة والدولة ومؤسّساتها وحكّامها الذين كان يرفض التملّق لهم، فهو الذي كان يوماً يأكل العدس ورآه أحد المارّة فقال له: "لو تودّدت للملوك لما أكلت العدس؛" فسخر منه ديوجين قائلاً: "لو أكلتَ العدس لما تملقّت للملوك".
أصبحت محاورة ديوجين مع الإسكندر الأكبر إحدى أهم المناقشات في التاريخ الفلسفي، وكانت موضوع أعمال أدبية وفنية عديدة على مرّ العصور، وتُعدّ من أهمّ الأدلّة على تجاهل ديوجين للسلطة والثروة والجاه، وعلى إيمانه بأن الحكمة لا تتحقّق إلا بالحرية والاقتراب من الطبيعة والاكتفاء الذاتي من أجل التخلّص من الرغبات والحصول على السعادة، واعتبار الناس سواسية مهما اختلفت طبقاتهم ووظائفهم، وهذا ما عبّر عنه في عدد من محاوراته، فقد سأله الإسكندرُ مرة عن سبب وقوفه أمام المقبرة الملكية، فأجاب بأنه كان يتأمّل عظام الملوك فما وجد فرقاً بينها وبين عظام العبيد أو حتى عظام كلب ميت، وأن موت كلب لا يختلف عن موت طاغية.
ومرة مرّ الإسكندر أمام الحشود التي سجدت له جميعُها إلا ديوجين فذهب إليه وسأله مِنْ على جواده: "ألا تعرفني؟" فأجاب:"أعرفك" فقال الملك:"ألا تخشى أن أنفيك؟ "فأجاب ديوجين مستخفّاً بكلامه:"حيثما وجدت فذاك وطني"، فضحك الإسكندر الذي كان يستظرف فكر ديوجين ويقدّره.
تضاربت الروايات حول سبب وفاة ديوجين. فقد ذكر بعض معاصريه أنه حَبسَ أنفاسه حتى مات، وقيل إنه مرض بسبب تناوله أخطبوطاً نَيِّئاً؛ وقيل أيضاً إنه مات متأثّراً بعضّة كلب مسعور، وقيل إنه أوصى بإلقاء جثته خارج أسوار المدينة لتَقتات الحيوانات البرية على جسده. وعندما مات نصب له معجبوه تمثالاً من البرونز كُتبت على قبره العبارة التالية:"ديوجين مجدك سيبقى خالداً، لقد أظهرت أن الرجال كافون لأنفسهم، وأشرت إلى أقصر الطرق إلى السعادة".
* الفلسفة الكلبية Cynicism مذهب فلسفي أسّسه في القرن الرابع قبل الميلاد الفيلسوف أنتيسثينيــز Antisthenses، أحد أتباع الفيلسوف اليوناني سقراط. ترى هذه الفلسفة أن الشخص الحكيم هو الذي يحتقر الثروة والجاه وكلَّ الرغبات المألوفة في الحياة، وهو غير مقيّد بأيّة التزامات، نحو المجتمع أو الدولة أو الأسرة.
* مدينة في أقصى شمال تركيا، مسقط رأس الفيلسوف ديوجين الذي هاجر منها إلى أثينا.
* الإسكندر الأكبر ملك مقدونيا ما بين 336-323 قبل الميلاد.