حلب ودّعت حارس تراثها.. ماذا قال محبو صباح فخري؟
لم تستيقظ حلب الشهباء من الحزن. ودّعت أمس حارس تراثها الموسيقي وأمير قدودها. فماذا قال محبوه؟
على وقع أداء أذان العصر بصوته الرخيم، ودّع أهالي حلب الفنان صباح فخري بعد وصول جثمانه في موكب مهيب إلى مسقط رأسه؛ مدينة حلب. وقف المئات من محبي "أبو قوس" على جانبي الطريق المؤدية إلى جامع عبد الله بن عباس لوداعه وإلقاء النظرة الأخيرة على الراحل الكبير.
في الرحلة الأخيرة لصاحب القدود الحلبية، ودّع أشجار زيتون مدينته، التي طالما خصّها وغنى لها في مواويله وقدوده وموشحاته.
هذا الحزن لم تستيقظ منه حلب الشهباء بعد، فحارس التراث الموسيقي الحلبي وأمير قدودها، كما يحلو لعشاقه تسميته، اجتمعوا على صوت الأيقونة والأسطورة الحية التي انتقلت إلى طور الخلود الفني بما تركته من إرث ثقافي وفني ضخم.
عاصر صباح أبو قوس، وهو الاسم الحقيقي لصباح فخري، الكثير من نجوم الغناء والفن العربي على مدار مسيرة فنية طويلة، تجاوزت نصف قرن، وثّق خلالها صاحب اللؤلؤ المنضود ما يقارب 160 عملاً فنياً بين ألحان وقصائد وموشحات ومواويل، هدفها الحفاظ على التراث الموسيقي الخاص بمدينة حلب.
بدأ عملاق الطرب الحلبي مسيرته في سن المراهقة كمؤذن في جوامع حلب. تعلم التجويد والأوزان والإيقاعات، وعرف المقامات والقرار والجواب والموال. أدى أوّل موّال في حياته عندما بلغ 15 عاماً، وكان "غرد يا بلبل وسلّ الناس بتغريدك"، الذي تعلمه من إحدى صديقات والدته.
تابع أمير الطرب مسيرته الفنية بخامة الصوت النظيفة والنفس الطويل وتقليب النغمات، ليصبح صاحب صنعة وخبيراً بمكنوناتها. صقل تجربته في أربعينيات القرن الماضي أثناء افتتاح إذاعة دمشق، وبدأ الغناء فيها باسم صباح فخري، نسبة إلى فخري البارودي، الذي اكتشف موهبته وقدمه إلى ساحة الفن في خمسينيات القرن الماضي.
يقول المخرج السوري نجدت أنزور في تصريح إلى "الميادين الثقافية" إن "الفنان صباح فخري رحل، لكن روحه بقيت على قيد الحياة بين وجدان كل شخص حلبي وكل سوري وكل عربي"، مضيفاً أن فخري "ترك أثراً من الصعب أن يمحى"، مبيناً أن "سوريا ولادة ومنتجة للقامات الفنية الكبيرة. عاش صباح فخري ومات عظيماً. الحياة مستمرة بطبيعتها، ولكل إنسان أن يترك أثره في تلك الرحلة الأرضية".
بدوره، قال الفنان الشاب عبود برمدا، الذي تربطه قرابة بعائلة صباح فخري: "إننا كفنانين من مدينة حلب وسوريا عموماً، نقدم واجب العزاء لعائلته ومحبيه وعشّاق صوته الملائكي، ونتمنى أن نستمد القوة لنكمل التراث الذي تركه صباح فخري".
وأعربت إحدى السيدات المشاركات في مراسم التشييع عن حزنها لفقدان من "أسعد القلوب وعلّم الناس حبّ الطرب"، وأردفت قائلةً: "أحببناه كأب، وخصوصاً لفئة عاصرت أغانيه وباتت ترددها في معظم الأوقات" .
من جانبها، أكدت طفلة، وهي طالبة في معهد صباح فخري، لـ "الميادين الثقافية"، مواظبتها على تعلم العزف على آلة العود، لتقوم بتأدية أغاني الراحل، متمنية أن تكمل دربها لتكون قدوة وحافظة للتراث العربي الأصيل.
ذكريات كثيرة لا تُنسى مع عشاق "أبو قوس"، فكيف لأهالي حلب أن ينسوا صوته؟ تغيب اليوم ظاهرة فنية طربية فريدة لن يكررها التاريخ، ويبكيه أهل الشهباء، لكن ستبقى أغنياته وقدوده بصوت حنجرته الذهبية وصوته الرجولي تنثر عبق التاريخ الحلبي في ذاكرة "السّميعة"، بعد أن أمضى فخر حلب حياته في نبش التراث الممتد عبر آلاف السنين باحثاً بين الموشحات الأندلسية ومعيداً الحياة للكثير من القصائد.
رحل بهيج الروح وساقي العطاش، بعد أن سقى الكثير من خمرة حبه، وأخبرنا عن اللؤلؤ المنضود، ليسأل عن المليحة في الخمار الأسود، لتنزل على خدي الزمن دمعة حلب ومهجتها، بعد أن قدم عندليب حلب للمكتبة الموسيقية العربية أهم مكونات الطرب الأصيل بأسلوبه التراثي العريق.