جبران ونعيمة الصديقان.. ماذا لو تبادلا الأدوار؟

وضع كتاباً عن أسرار جبران خليل جبران وحياته الخاصة. في اليوم الدولي للصداقة، هل خان ميخائيل نعيمة جبران بعد موته؟

  • جبران ونعيمة الصديقان.. ماذا لو تبادلا الأدوار؟
    جبران ونعيمة الصديقان.. ماذا لو تبادلا الأدوار؟

في "يوم الصداقة العالمي" الذي يصادف في 30 تموز/يوليو من كل عام، نستعيد الصداقة في معناها وأبعادها بين مُبدعَين. ونحن إذا ما تحدَّثنا عن الصداقة عادة، يستهوينا أن نستخدم مُفردتين عربيّتين بصيغة الجَمْع هما "العرى" و"الأواصر"، ونلصق بهما ما يفيد معنى التوطيد أو التمتين.

إلا أن الرابط بين صديقين قد يسمو أحياناً عن المسارات الأفقيّة، يسمو إلى مراتب عُليا، وهو ما كان بين جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة. إنه رابط روحي قلَّما نجد له نظيراً بين كاتبين أو شاعرين. وقد جُبِلَت هذه العلاقة الروحية بجوّ الغربة، بلغات وثقافات، برؤى غير مألوفة، وبنتاجٍ أدبي غزيرٍ.

يحقّ لنا اليوم، ونحن على بُعد تسعين عاماً على رحيل جبران أن نتوقَّف عند تلك اللحظة، لحظة الفِراق، قبل أن نسترجع لحظة اللقاء. وهو بالفعل ما قام به ميشا (صيغة تصغير وتحبُّب روسية لميخائيل نعيمة كان أصدقاؤه ينادونه بها) في تحفته الأدبية "جبران خليل جبران"، التي فرغ من كتابتها في 15 حزيران/ يونيو 1934، بعدما فقد صديقه في نيويورك وعاد إلى لبنان. 

في الوداع

  • جبران خليل جبران
    جبران خليل جبران
  • ميخائيل نعيمه
    ميخائيل نعيمه

يعود نعيمة بنفسه، ويُعيدنا معه، إلى ليلة 10 نيسان/ أبريل 1931، حين يهرع إلى مُستشفى سان فنسنت حيث يرقد جبران، وذلك بعد تلقّيه اتصالاً هاتفياً يُنبئه بدنوّ الأجل.

على الرغم من قُرب المسافة، إلا أن الزمن كأنه توقَّف ليضخّ نعيمة أفكاره ومشاعره وهو يستذكِر عبارات أخيرة سمعها من جبران: "أنا اليوم رجل صحيح يا ميشا. أنا غريب في هذا العالم يا ميشا. أنا أحب هذا العالم يا ميشا".

يبحث ميخائيل نعيمة في مضامين الأفكار عن الصحّة والعلَّة، الموت والحياة، الوطن والغُربة. ويتساءل "ألا مَن يريني ما بينها من الفروق؟". يقف نعيمة أمام سرير مُحْتَضِر تنسلُّ منه الحياة. "بلى. هذا هو رفيق أحلامك. وصديق أفكارك. وشقيق روحك. هذا جبران. وهو الآن يحتضر. فاعلم أنك في حضرة الموت". ثم يسأل صديقه الغائب عن الوعي: "ما الذي تزوَّدته يا أخي لرحتلك هذه؟".

في تلك الليلة الربيعية يُسلِّم جبران الروح. ولا يصمد نعيمة بعده في أميركا سوى لعامٍ واحد، يعود إلى بسكنتا، ويعكف على تدوين ما رسخ في ذاكِرته من رحلة صداقة دامت سنوات، ولا يأخذ تدوينه شكلاً تقريرياً، بل تكتسي الكلمات بكساء المشاعر والانفعالات، ويقودنا مع عباراته في مُنعطفات فلسفية أحياناً. إلا أن نعيمة، وقبل أن ينهي مؤلَّفه عن صديقه، يقف هُنيهة ليعتذر. 

عمّا يعتذر؟ عن واحدةٍ من أجمل المُفارقات بالفعل. فالقارئ يعرف عن الكاتب عادة ما يقوله عن نفسه في ما يكتب أو يُكتَب عنه، أو عبر نتاجه الأدبي. إلا أن الصديق إنْ تحدَّث عن "أسرار" صديقه فهو في الواقع يكشف جانباً آخر مجهولاً من جوانب الحياة، ما كان لنا أن نعرفه سوى عبر هذا البوح.

فها هو نعيمة بعد عودته إلى لبنان يقول: "وجدت صديقي يكاد يكون أسطورة من الأساطير حتى في بلاده. فهو ليس جبران الذي رافقته 15 سنة وخبرت أحلامه وآماله، وقاسمني أشواقه وأفكاره وشاركته في أفكاري وأشواقي. ولَكَم سمعت أدباء ومُتأدّبين يطالبوني بكتابة ما أعرفه عنه".

وهو يعرف أن الكتاب نفسه "سيُرضي البعض ويُغيظ البعض ويُدْهِش الكثيرين ممَن لم يعرفوا جبران إلا في ما قرأوه من أدبه واطّلعوا عليه من فنّه". الاعتذار عن البَوْح إذن. وقد أدرك نعيمة، كما أدرك القرّاء خلال العقود التسعة الماضية أن "الخيانة" كانت لتكمُن في الكتمان لا في البوح الذي أرانا عبر كلمات نعيمة جبران الصديق، جبران الإنسان. 

في اللقاء

  • غلاف كتاب نعيمة
    غلاف كتاب نعيمة

حمل البريد إلى نعيمة، الذي كان طالباً في جامعة واشنطن، عدداً من مجلة "الفنون" النيويوركية التي يُدير تحريرها نسيب عريضة، فكانت بارِقة أمل له تتماشى وورحه المُتمرّدة على جمود اللغة، وحملت الصُدفة إليه نسخة من "الأجنحة المُتكسِّرة"، فاستفّزته قراءتها لتسطير مقالته النقدية الأولى وكانت بعنوان "فجر الأمل بعد ليل اليأس"، التي قرأها جبران فهتف: "مَن هو ميخائيل نعيمة؟ وأين كان مُختبئاً حتى اليوم؟".

وكان لقاؤهما الأول بعد أربع سنوات في نيويورك حيث مثّلت "صومعة" جبران بالنسبة إلى نعيمة "جزيرة وجد الأمن في مينائها بُرهة من الزمن"، فبات دائم التردّد عليها.

وتختزن هذه اللقاءات معظم محطّات حياة جبران في السنوات الــ 15 الأخيرة من عُمره القصير، بحلوها ومُرّها، بصراعات مع الحياة، بنقل الصوت من العربية إلى الإنكليزية شعراً ونثراً، واختراق ريشته وألوانه قلوب مُتذوّقي الفنون.

وقد احتوى هذا "اللقاء الطويل" على "أسرار" جبران، أو ما لا يعرفه عنه إلا عدد قليل من الناس، ومن تلك الأسرار حياته الخاصة، التي سردها نعيمة في كتابه كما كانت أو كما عُرِف بها.

هنا لا يمكننا أن نغفل ردَّة فعل الكُتّاب على صراحة نعيمة. وأبرز مَن تصدَّى له فور صدور الكتاب أمين الريحاني (1876-1940)، الذي هاجمه بشدَّة مُعتبراً أن الأمور التي باح بها نعيمة عن جبران لو أراد الأخير ذِكرها لذَكرها في حياته.

وقد حمل عدد 6 كانون الثاني/يناير 1935 من جريدة "البلاد" البيروتية مقالة بعنوان "من أمين الريحاني إلى ميخائيل نعيمة"، ضمّنه الريحاني انتقاداً صريحاً قاسياً، منه: "رأيت في جذع شجرتك أثراً للسوس، أخشى عليها منه... لقد بان لي وأنا أطالع الكتاب أنك ما أشفقت على أدبك من أنانيّتك، ومما أمسى عندك، على ما يظهر، شبه مهنة! فأنت الداعي لمبدأ الحلول والتوحيد الكلّي، ولا أنانية تستقيم معها أو تدوم... فكيف أوفِّق بين هذا النُبل فيك وبين ما كتبتَ في صديقك وحبيبك جبران؟... عندما أذكر ذلك يا ميخائيل، لا أذكر غير حبّ صاف كصفاء الغجر، ونظرات الأطفال والأنبياء، وجهاد أدبي حلمنا في سبيله أنواراً من هياكل قديمة... لا دفاعاً عن الحب والصداقة، فباسمها أقول: لقد أخطأت... سامحك الله".

في الأدوار

  • نعيمه وجبران في الرابطة القلمية نيويورك
    نعيمه وجبران في الرابطة القلمية - نيويورك

بطبيعة الحال ردّ نعيمة على الريحاني وكانت قطيعة، ثم عاد نعيمة إلى الواقعة بعد زمن طويل في الجزء الأخير من ثلاثيّته "سبعون"، إلا أن ردَّة الفعل تلك كانت متوقَّعة منذ البداية، وإنْ كان نعيمة، ربما، لم يتوقّع هجوماً قاسياً كهذا.

فما قاده إلى الكتابة عن صديقه على هذا النحو هو كما قال: "صراحة لا أتخلَّى عنها. فلولاها لما كان الكتاب أهلاً للنشر. ولولاها لانطمس أجمل ما في حياة جبران. وهو صراعه المُستتب مع نفسه لينقّيها من كل شائِبة ويجعلها جميلة كالجمال الذي لمحه بخياله وبثّه بسخاءٍ في رسومه وسطوره". 

ولنا هنا أن نتوقَّف عند تلك الصداقة التي استمرّت من عام 1916 إلى لحظة رحيل جبران. فقد لعب فيها ميخائيل نعيمة دور الخليل والسمير والناقِد، ثم دور الراوي عن صديقه المؤطّر لحياته في كتاب، ثم دور المُدافِع عمّا دوَّنه.

وقد شاءت الأقدار أن يرحل جبران مُبْكِراً (1883 - 1931) وهو لم يصل إلى عقده الخامس، فيما عمَّر نعيمة (1889 - 1988) بعده خمسة عقود. فماذا لو تبادلا الأدوار، وكانت للقدر خطة أخرى؟

يُنبئنا رباط الصداقة الروحي بينهما أن جبران لم يكن ليُقصِّر في سبيل إظهار صديقه كما هو، أو كما خبره، كان ليكتب عنه إثر رحيله أو ليرسمه غير مُنزّه عن النقص كما أراد البعض إظهار صورة الكاتب، بل مُدْرِكاً لنقصه ساعياً إلى تحقيق ذاته ضمن الظروف التي وُضِع فيها وفي الوقت عينه إلى الكمال. وهنا تكمن عَظَمَة الكاتب الإنسان.