ثماني سنوات على رحيل أنسي الحاج.. الجمال خلاصنا!

تحلّ اليوم الذكرى الثامنة لرحيل صاحب "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع".. من هو أنسي الحاج الذي رأى أن خلاصنا في الجمال؟

اليوم، تمرّ 8 سنوات على رحيل أنسي الحاج (1937 - 2014)، أحد أبرز أركان مجلّة "شعر" وقصيدة بيروت المتجاوزة للتابوهات، صاحب "الرأس المقطوع" وأوّل "لن" في وجه المفاهيم الكلاسيكيّة للشعر العربي. "لن"، العنوان العبقريّ لأول مجموعةٍ شعريّةٍ عربيّة تجرّأت وكسرت الرابط المقدّس بين الشعر العربيّ وأوزانِ الخليل شكلاً، وفي المضمون كانت مقدّمةً صريحة لرفض كلِّ أشكال السلطة على الكلمة أو المعنى أو التركيب أو الفكرة. 

من هنا طوّب أنسي الحاج نفسه، وطوّبهُ شعره وحراكهُ الثقافيّ، إمامَاً من أئمة التمرّد، منطلقاً من حقيقةِ أنَّ "التمرد الفردي الأدبي والأخلاقي، على عكس الثورة، لا يستكين ولا يستقيل حين يصل الى السلطة. على افتراض أنه يصل. ولكنه لا يصل. لأن السلطة التي يصل إليها التمرد هي سلطة التمرد، ولا علاقة لها بتلك السلطات، فهي كوكب للحرية، وللحرية المتجاوزة على الدوامِ نفسَها حتى الاستهتار بالذات".

وضع الحاج نفسه خارج التصنيفات والأطر منذ البداية، وتمنّى كذلك على المشتغلين بالنّقد والأدب، أن يبعدوا مخلوقته/قصيدته المتنوّعةِ حتّى التناقض، بحسب تعبيره، عن أيّ حدود أو قيود "أياً تكن الأوزان التي قد يستخلصها علماء الغد من قصائد النثر".

وهو الذي اعترف مراراً بولعه بالغنائيّة، بل وتفضيله قصائد موزونة مقفّاة، على كثير مما يكتبه ورفاقه من هذا النوع الأدبي الجديد، واعترف كذلك بعدم قدرته على كتابة القصيدة الغنائية الكلاسيكيّة وعدم رغبته في تعلّم تقنياتها، وهذا ليس تعبيراً عن كسل ولا جهل، بل عن ثقته بمواقفه التي وإن تناوب على تليينها وتهذيبها إزميلا العمرُ والتّجربة، بقيت راسخةً وواضحة حتّى النهاية/البداية كرمز للقصيدة المتجاوزة ولبنان الشاعر. 

كتب الحاج في كلِّ شأن. كانت له آراؤه السياسيّة التي لم تتّقِ إثارة الجدل، فدعا مرّة إلى حكم فاشستيّ في لبنان "يربّي الطفيليّات"، وناقش أن "لا حقيقة في لبنان، لأنّه لا حريّة في لبنان. هناك حريّة أن يشتم الواحد الآخر، ولكن ليس هناك حريّة أن يشتم الواحد نفسه وحزبه وزعيمه".

الوضوح والصراحة التي تلامسُ الفجاجة أحياناً، سماتٌ ميّزت أنسي الحاج في كلِّ مفاصلِ تجربته، ولا نتحدّث هنا عن أنسي الشاعر وحسب، بل عن أنسي الإنسان في مواقفهِ الأدبيّةِ والإجتماعيّة والسياسيّة، ولعلَّ مقالاتهِ الصحفيّة التي خطّها على امتداد حياته في عديدِ الصحف والمجلّات وآخرها في صحيفة "الأخبار" اللبنانية، تعبّرُ خيرَ تعبيرٍ عن هذه السمات، مضافاً إليها فتحٌ من الحكمة التي تقارب الفلسفة.

كان الحاج يبدو أوضح كلّما تقدّم بهِ السن، حتّى تحوّلت مقالاتهُ الأخيرة إلى ما يشبهُ اللافتات التأمليّة العميقة المتشظّية ظاهريّاً، المترابطة بخيط من الرؤيا الواضحة والإدراك البالغ لأزمة الوجود الباعثة على السخرية والبكاء في آن.

كتب أنسي الحاج في كلِّ شأن. كانت له آراؤه السياسيّة التي لم تتّقِ إثارة الجدل، فدعا مرّة لحكم فاشستيّ في لبنان "يربّي الطفيليّات"، وناقش أن "لا حقيقة في لبنان لأنّه لا حريّة في لبنان. هناك حريّة أن يشتم الواحد الآخر ولكن ليس هناك حريّة أن يشتم الواحد نفسه وحزبه وزعيمه".

انتقد صاحب "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع" النظام اللبنانيّ أو "الفوضى اللبنانيّة" بقسوة، وصرّح أنّه لا يحبّ أحداً من زعماء البلد، مدافعاً عن لبنانيته وعروبته ومسيحيّته في آن، لا تعصّباً لأيّ من ملامح الهوية والجماعة، بل انتماء فرديّاً ينطلق منه إلى رحابة الإنسانية، متمنّياً لكلِّ إنسان "أن يكون بلا تصنيف، هذا هو معنى الإنسانية، نحن لسنا طوائف بل نحن أفراد لكلٍّ منّا عالمهُ الأكبر من نجوم الفضاء".

ولعل هذا الانتماء المتين المنفتح على الآخر، نابع من نشوئه في بيت ثقافيٍّ عريق، محاط بالتنوّعِ اللبنانيِّ الفريد، وهو ابن قضاء جزين في في الجنوب اللبناني الذي قضى طفولته في حيّ "الخندق الغميق" ببيروت. الحيُّ الذي كان مزيجاً من كل الطوائف، من الأرمن، الأكراد، السريان، المسلمين شيعة وسنة، ومن المسيحيين، وتعلّمَ في مدارس راقية بفضلِ أبٍ كادح "لم يرهُ يوماً بلا عمل" كما يصفه، هو الصحفي والمترجم لويس الحاج.

كما تشرّب الشعر الرومانسي في طفولته المبكرة، من أمٍّ مثقّفة مرهفة الحس هي ماري عقل التي كانت تكتب الشعر بالفرنسية، ولكنها توفيت شابة بعد صراعٍ قصيرٍ مع المرض، وتركت أنسي الطفل المدلل ابن السنوات الست يقاسي شعور اليتم، حتّى يعبّرَ عن تأثّرهِ العميق بهذه الحادثة المفصليّة في حواره الأخير مع لوركا سبيتي عبر إذاعة "صوت الشعب" قائلاً: "لا زلت أراها مسجّاة وقد أمسكتني أختي ليلى كي أقبّلها قبلة الوداع. كانت أصعب وأقسى اللحظات في حياتي".

قاسى أنسي الحاج شعور اليتم في سن صغيرة، وقال عن فقدان أمه: "موتها لا يمكن أن أنساه إطلاقاً، وقد تربّى معي رغم الدلال الذي عشته. فإذا حدث زلزال في اليابان، أشعر بأنّني مذنب. وطوال الحرب الأهلية اللبنانية، شعرت بأنّني مذنب تجاه الجميع، وهذا الشيء يحمل نوعاً من الجنون".

ثمَّ يستطرد: "موتها لا يمكن أن أنساه إطلاقاً، وقد تربّى معي رغم الدلال الذي عشته. فإذا حدث زلزال في اليابان، أشعر بأنّني مذنب. وطوال الحرب الأهلية اللبنانية شعرت أنّني مذنب تجاه الجميع، وهذا الشيء يحمل نوعاً من الجنون، كما فيه تضخماً للـ «إيغو» (الأنا)، لكنّه ضد صاحب الـ «إيغو» وليس تدليلاً للذات. بل على العكس، فيه قتل مستمر للذات. وعندما ينتابني شعور معاكس أشعر بذنب مضاعف، فكيف أكون سعيداً في الوقت الذي لا ينبغي أن اكون كذلك؟ وهذا الشعور يرافقني طوال الوقت، وهو أساس كل ما أفعله، وكل ما أكتبه، وكل علاقاتي".

في الذكرى السنوية الثامنة لرحيل أنسي الحاج قد نكون عاجزين عن الإحاطة بجوانب شخصيّته المترامية، في مساحة محدودة من الكلمات والأفكار،لكنها محاولة لقطاف لقطات من حياة أنسي الإنسان، أنسي العبقريّ الذي اختار أن يكون متمرّداً دائماً، وأنسي الشاعر الذي اختار أن يكون عذباً دائماً، وأنسي الصحفيّ الذي اختارَ أن يكون صريحاً دائماً. وهو في كلِّ ذاك يبقى أنسي دائماً، أنسي الذي لا يتكرر، ولا ينسى.

وهنا مختارات من قصائده: 

تحت حطب الغضب

ما عُدتُ أحتمل الأرض
فالأكبر من الأرض لا يحتملها.
ما عُدت أحتمل الأجيال
فالأعرف من الأجيال يضيق بها.
ما عُدت أحتمل الجالسين
فالجالسون دُفنوا.
ريشة صغيرة تهبط من عصفور
في اللّطيف الربيع
تَقْطع رأسي.
مُتعَب ومليء مُتعب وجميل مُتعب تحت حطب
الغضب.
لأنّي بلغتُ المُختار
لأنّ امرأة ربّتني على تُراب شفّاف
لأنّي عثرت على الحدود
فتحتُ الحدود.
لأنّي وجدتُها وألغيتُ الحدود.
لم يعد لي صبر على مَن ورائي
ولا على الأحبّاء السابقين.
عندما حصلتُ على الأكثر من أحلامي حصلتُ على
الأكثر من الصحراء
وبعدما صعدتُ العرش والشجر الخالية منه الدنيا
حواني شجرُ البَرْد
ولم أتحطّم لكنّي تعبت.
ولن يبكيني أحد
حقّاً
ولن يرتعشوا لغيابي
حقّاً كما كُنت حاضراً
ولن يستوحشوا مثل بُرج
ولن يموتوا عليَّ موتاً يُضاهي حياتي.
...
أخذتُ ما يُؤخذ وما لا يُؤخذ وتركتُ ما يُترك
وما لا يُترك
وإنّي خرَجْتُ
وامرأة باقية بعيدة
تُكلّمني تُلامسني
وكم أرغبها وكم أيضاً وراء الموت!
وإلى المُهتمّين:
أنا أعظم من عاش
لأنّي أعظمكم في الأُنس والمنفى
بل لأنّي أعظم كائن عاش
كالنسر في البَصَر كالحبر في العمى
عظيماً في الصيد وفي الغَفْلة
وشاهدتُ نجمتي فأخبرتُكم خُلاصتها
بسرعة النمر وبياض الحمام
حتّى تعبتُ وغضبت
لأنّي تجاوزت الفنون والعلوم
واختصرتُ ظاهر العقل وباطنه
وملكتُ العَصَب وبدّدتُه
وكسرت الصاروخ والروح
ثمّ اقترفت بكلامي ذنب التواضع
لأنّي فكّرت أنّه العالم يستحقّ التواضع.
ووقع كلامي في شلّال
وهو نادم غير نادم
لكنّه يُعلن لكم
كلامي يُعلن أنا الكلام
مُنذُ قليل ومُنذُ كثير
أنا الكلام وآخر الكلام
وأوّل ضرب على صدر الحياة
وسوف تفتح لكم الحياة
سوف تفتح الخزائن
سوف تفتح الحياة
ولن أكون بينكم
لأنّ ريشة صغيرة من عصفور
في اللّطيف الربيع
ستُكلّل رأسي
وشجرَ البَرْد سيحويني
وامرأة باقية بعيدة ستبكيني
وبُكاؤها كحياتي جميل.

***

صاح الأولاد "يا! يا!"

قالت الصغيرة:
- أنا أضع القنابل
تحت أبواب الرأسماليّين
لأنّي شيوعيّة
وأنتَ؟
...
غمَرها بحنان خيبته
وعينيه العميقتين.
تطلّع إلى كنزتها
وكُتبها تحت إبطها
وذكر لها عن العمر
الذي بين لحظة ولحظة
بين رجل وامرأة
أو بين رجل وفتاة صغيرة.
...
قالت الصغيرة:
- أنا أُوزّع المناشير
ضدَّ أعداء الشعب
وأنت؟
...
وقف شَعْر خُبثه على قلبه
وقال لها
كيف لم يعد صغيراً
وكيف يعمل في أشغال
ناشفة لكنّها مُهمّة.
تطلّعتْ إليه
سكتت
طويلاً طويلاً
ومرّ ملاك.
وقالت:
- كنت أظنّك مع الشعب
صوتك دافئ
عيناك عميقتان،
لكنّك رأسماليّ
ولن أراك.
...
في ما بعد
عرف أنّ الصغيرة قتلّتها الشرطة.
وفيما كان الرجل العميق العينين
يفكَ حُزنه بالخمرة الرأسماليّة
كانت طهارة الفتاة القتيلة
تعصر قلبه
وكانت براءته العاجزة وهو حيّ
تعصر قلبه
وكانت ذكرياته المُضحكة
تعصر قلبه
حتّى لم تعد في قلبه نُقطة
من دمه الرأسماليّ
نُقطة
من دمها الشيوعيّ
نُقطة
من دم إنسان.
...
ملأ قلبَه الحقد
وقسَم العالم قسمين:
الأولاد الذين ضدّ العالم
والعالم الذي ضدّ الأولاد.
...
وعمل خادماً ليسرّ الأولاد
حمل إليهم العالم
ليلةَ عيد
وضعه تحت أقدامهم
حدّثهم عنه
صاحوا: "يا! يا!"
وخافوا.
عندئذ أشعل الرجل العميق العينين
العالمَ الذي ضدّ الأولاد
بعود كبريت
فهبّ الحريق إلى السماء
حتّى سمعته الصغيرة التي قتلَتها الشرطة
ومن هُناك
شاهدتْ حُبّه
وكُلّ أولئك الأولاد
يخدمهم لأجل سرورهم
وقالت:
"كان لا بدّ أن يُعيّدَ الأولاد. أحْسَنت!"
ونظر الرجل العميق العينين
ليرى إذا نسي شيئاً خارج الحريقة
فلم يرَ
ولما أبصر الأولاد فرحين
وصاروا أحراراً من الخريطة
أغمض عينيه العميقتين
وسدّ أنفه
وارتمى في النار.

***

حُزني عظيم نعم 

مَن أنت التي أُحبّها؟
أنت التي عند قدميها أرفع رأسي.
كانت ليَ أيّام ولم يكن ليَ عمر.
إغتنيتُ لمّا صلبتُ حُرّيّتي على شغفي. آمنت بتلك
المرأة، وإنّي أُبْصر. وما وقفتُ كجدار في الأرض بل
غدوت الأرض يوم سارت إليّ حبيبتي لتحْضرَني
وأحضرها غياباً وراء غياب.
...
أمّا حُزني فعظيم نعم. وتستحقّين أنْ يُضرمَ حبيبُك
النار في جسده وينتحر احتجاجاً لأنّك لا تعرفين كم
أنت أنت وحدك.
من أجليَ الحُبّ، من أجلك الكواكب والمراكب.
أيّتها المرأة التي تصْمت بانفجار وتصيح كالأريج،
المحجوبة بصدقها المكشوفة بصدقها، أيّتها التي
فمها المُطْبَق أكمَة وفمها المفتوح سراب، أيّتها التي
يسجد العالم لها كالصقر وكالبنفسجة، قديماً
خلقني الله، لذلك لم أُوجَد.
ولمّا أنت، خلقتُ الله في سريرك. ووُلدتُ من
جَسَدي على جسدك.