بين المؤرّخ والروائي.. أيهما أقدر على إفهامنا التاريخ؟
بين الكتب والروايات التاريخية، يخوض كل من المؤرخ والروائي مهمته.. من منهما أقدر على إفهامنا التاريخ؟ وهل تختلف مهمة كل منهما؟ وكيف؟
ثمّة غموض كبير يكتنف الكتابة التاريخيّة العربيّة المعاصرة. إذ لم يستطع العرب كتابة تاريخهم المعاصر أمام ندرة وغياب الوثائق الرسميّة. لعل السُلطة فطنت إلى أهميّة التدوين وما لعبه من دور على مدار تاريخ الإنسانية في تعرية مآزقها وتصدّعاتها. ذلك أنّ المُؤرّخ يجد صعوبة بالغة في كتابة هذا التاريخ، ورصد معالمه وتأويله وجعله يغدو حاضراً لا ينضب.
ولم تكن الفوضى التي تعيشها الكتابة المعاصرة واستنادها على الرواية الشفهية، بدل المصادر المكتوبة، إلاّ نموذجاً واضحاً على هشاشها وعدم قدرتها على نقل الحدث بكل تفاصيله ونتوءاته. نظراً إلى عدم صدقها وصحّتها أحياناً، حيث أن الرواية الشفهية تكون مدفوعة دوماً بالأبعاد الذاتية الشخصية والهواجس الوجدانية البطولية.
ففي الرواية الشفهية تتدخّل مخيّلة الإنسان لتُغيّر من مسار وحقيقة الواقعة عبر تجميلها وإضفاء بعدٍ تخييلي عليها، ما يجعلها أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع. وهو أمرٌ غير مقبول بالنسبة للمُؤرّخ. الأمر الذي يجعله غير معنيّ بالشهادة الشفوية مهما بلغت أهميّة بعض الشخصيات على مُستوى مُعايشتها لبعض الأحداث التاريخيّة المعاصرة.
وعلى الرغم من أنّ بعض الشخصيات تُفضّل تدوين ما عاشته وشاهدته وسمعت به، لكنّ مُشكلة هذه الكتابات أنها تظل مجرّد "شهادات" أو "يوميّات" أو "مذكّرات". لكنّ المُؤرّخ مُطالبٌ في كتاباته بالبحث عن الحقيقة ومن ارتفاع منسوب الواقع والمنطق فيها، بدل عنصر الخيال الذي يُميّز الكتابة الروائية ويجعل أنماطها السرديّة تختلف من نصّ إلى آخر.
فهي وان استندت على التاريخ، تُبقيه مجرّد قالب فكري تدور في فلكه الأحداث وتختمر في جوفه الرؤى والأحلام. على هذا الأساس، ترى المُؤرّخ هنا وهناك، يبحث ويُنقّب في الأرشيفات العامّة والخاصّة آملاً العثور على وثيقة مكتوبة تجعله يكتب تاريخاً جديداً.
والحقيقة أنّ عمل السُلطة على تغييب الوثائق الرسميّة من يد المُؤرّخ وإمكانية توفيرها داخل مؤسساتٍ عامّة، قد يدفع الباحث/المؤرّخ إلى "الجنون" والتوقّف لسنوات عن العمل لعدم وجود وثائق جديدة تُسعفه على الكتابة والتأريخ، بعيداً هذه المرّة من الوثائق والمصادر المألوفة لكتابة التاريخ العربيّ الإسلامي مثل: القرآن والسنّة النبوية والمسكوكات والكتابات المنقوشة.
لا يُنقّب الروائي عن الأحداث الرسميّة ووقائعها السياسيّة، بل يحفر في مناطق يباب لا مُفكّر فيها من الاجتماع العربيّ. فهو يقبض عن الهامش ويجعله مركزاً مُتوّجاً. إنّه يسبر أغوار الماضي، انطلاقاً من أجساد المُهمّشين والمُعذبين والمنكوبين والمَسحوقين.
هكذا تُصبح عملية البحث في الأرشيف بالنسبة للمؤرّخ عن وثائق أخرى، ضرورة ملحّة للاستناد على مَصادر أدبيّة (الرواية، القصّة) وفنّية (السينما، التشكيل، الفوتوغرافيا) لأسبابٍ معرفية تتعلّق بقُدرة هذه الأجناس والقوالب الفنّية ووسائطهما البصريّة، على اختراق البُعد التقريري المُباشر في الكتابة الذي يطبع النفس التاريخيّ.
ذلك أن علاقة المُؤرّخ بالحدث التاريخيّ يطبعها الكثير من الحذر، فهو يسعى جاهداً إلى نقل الحدث السياسيّ والظاهرة الاجتماعية بكلّ دقّة وعناية، مقارنة بالروائي الذي، وإنْ كان يُفكّر في إعادة كتابة تاريخ بلد ما عبر الرواية، فإنّ كتاباته تظلّ مشدودة دوماً، أمام تحوّل الشخصيات وجماليّات المكان وغلبة المجاز والاستعارات، من دون أنْ يسمح له عالم الخيال بالعودة تدريجياً صوب الواقع الذي يُعدّ أوّل نقطةٍ ينطلق منها المؤرّخ.
على هذا الأساس، تطالعنا الكثير من الروايات العربيّة التي تستعيد الأحداث التاريخيّة، لا تهُمُ إلى إعادة كتابته فقط، بل للاستناد عليه فنياً وتطويع حقائقه إلى أنْ تغدو عبارة عن متخيّل مُكوّن من سلسة مشاهد وصور تبتعد عن الواقع بقدر ما تقترب منه.
من ثمّ، فإنّ الروائي، لا يُنقّب عن الأحداث الرسميّة ووقائعها السياسيّة، بل يحفر في مناطق يباب لا مُفكّر فيها من الاجتماع العربيّ. فهو يقبض عن الهامش ويجعله مركزاً مُتوّجاً. إنّه يسبر أغوار الماضي، انطلاقاً من أجساد المُهمّشين والمُعذبين والمنكوبين والمَسحوقين.
عن أفق العلاقة بين المؤرّخ والروائي في العالم العربيّ، تُسافر "الميادين الثقافية" بمعيّة المُؤرّخ اللبناني خالد زيادة والروائية اللبنانيّة ناتالي الخوري غريب، إلى تشريح تمثّلات مفهوم الحدث/الواقعة عند كل من المُؤرّخ والروائي.
***
خالد زيادة: الرواية عمل أدبي بالدرجة الأولى
في نهاية روايته "الجنرال في متاهته" التي تتناول الأيام الأخيرة لسيمون بوليڤار (1783 - 1830) السياسي الأبرز في تاريخ أميركا اللاتينية، يضع غابريال غارسيا ماركيز، الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1982، صفحة أخيرة يسجل فيها بعض الأخطاء التاريخية التي وقع فيها خلال كتابته للرواية. هذا يعني أنه كان حريصاً على أن يصحح معلومات خاطئة يمكن أن تضلل القارئ.
هذا الحرص ينم عن حس تاريخي، ولكنه لا يلغي أن الرواية هي عمل أدبي بالدرجة الأولى يستند إلى سيرة أبرز شخصية في أميركا الجنوبية التي يعرفها الناس ويتناقلونها. لكن الفارق بين عمل الروائي وعمل المؤرخ يكمن في جانب أساسي وهو الجانب الإنساني والمشاعر والقلق الذي يمر به بطل الرواية. بينما المؤرخ يتحدث عن الظروف والوقائع والنتائج السياسية استنادًا إلى وثائق هي في متناول مؤرخين آخرين.
حين يتناول الروائي شخصية تاريخية مغرقة في القدم مثلما فعلت الأديبة الفرنسية مارغريت يورسنار (1903 - 1987) في روايتها "مذكرات أدريان"، فإنها أطلقت العنان لمخيلتها. إن الخلفية التاريخية تصبح ذريعة للغوص في حالة إنسانية. إنها رواية عن السلطة والآلهة والحب، وليست عن روما وحروبها وانتصاراتها وصراعاتها. وفي أغلب الأحيان، فإن الروائي حين يلجأ إلى التاريخ، فإنه يستخدمه كإطار مع الاختلاف بين روائي وآخر في درجة استخدامه الوقائع التاريخية أو يبتعد عنها ليطلق العنان لمخيلته.
حين يتناول الروائي شخصية تاريخية مغرقة في القدم فإنه يطلق العنان لمخيلتها. إن الخلفية التاريخية تصبح ذريعة للغوص في حالة إنسانية.
يرتبط الروائي إذاً بالخيال واختلاق وقائع شخصيات، وينسج علاقات عاطفية بين أبطاله وبطلاته وصراعات تخدم "الحبكة" التي ينسجها أكثر مما تخدم التاريخ.
الرواية تتحدث عن الحاضر، حاضر الروائي ومشاغله الفكرية والأدبية، ومع ذلك فإنها بمرور الزمن تصبح جزءاً من التاريخ. تقدم لنا رواية "البؤساء" لڤيكتور هوغو صورة عن المجتمع الفرنسي في حقبة ما بعد الثورة. كما نستطيع أن نتعرف إلى المجتمع المصري ومشاكله وتطوره، في أعمال نجيب محفوظ، أكثر مما نجده عند أي عالم اجتماع حتى الآن.
لكن قارىء الرواية لا يتناول الرواية لكي يتعرف إلى المجتمع أو التاريخ، إنه يقبل على قراءتها لأغراض أخرى. أما ما هي هذه الأسباب فربما نجدها في جواب على سؤال: لماذا نقرأ الأدب؟
ناتالي الخوري غريب: وظيفة الرواية التاريخية لا تكمن في أن تغدو وثيقة تاريخية
هنا علينا أن نتساءل أوّلاً، ما الذي يمكن أن يضيفه كاتب الرواية التاريخية إلى المؤرّخ؟ ومن هو متلّقي الرواية التاريخية؟ وعمّ يبحث فيها؟ عن الحقيقة التاريخية؟ أم عن تطابق هذه الحقيقة كما تتواجد في ذهنه؟
وإذا كان المؤرّخ يحدّد لنا إطار الواقعة وزمنها، وأعداد الفاعلين فيها ومصائرهم في خطّ زمني تعاقبي، وفقاً لمنظوره الخاص، فكاتب الرواية التاريخيّة يحيي هؤلاء، ويعيد استحضار الزمان ويعيد بناء المكان وتأثيثه بمزاجه وخياله وذاتيّته.
فهو يدخلنا إلى روح الشخصيات ومعاناتهم ووجههم الوجداني الذي غاب عن المؤرخ. يومياتهم، حبّهم، كرههم، انفعالهم، بشريتهم، مواجهتهم مع الآخر، إقصاء الهالة الأيقونية عن أبطال التاريخ، إظهار ضعفهم، نواياهم، علاقتهم بالآخرين ومشاعرهم. هكذا تدخل الرواية في التفاصيل التي لا تعني المؤرخ، لكنها تثير حشرية المتلقين بهذه الحقبة وتلك.
إذا كان المؤرّخ يحدّد لنا إطار الواقعة وزمنها، وأعداد الفاعلين فيها ومصائرهم في خطّ زمني تعاقبي، وفقاً لمنظوره الخاص، فكاتب الرواية التاريخيّة يحيي هؤلاء، ويعيد استحضار الزمان ويعيد بناء المكان وتأثيثه بمزاجه وخياله وذاتيّته.
إنّ الوظيفة المعرفية للرواية التاريخية، لا تكمن في أن تغدو وثيقة تاريخية، بل أن تعيد إحياء مرحلة زمنية ما من التاريخ، تماماً كالأفلام التاريخية، تعيد إحياء وقائع من التاريخ بأحداثها وشخصياتها وأنماط تفكيرها ومسرى تطورها وأزيائها وتقاليدها ومأكلها ومشربها، مثل ما شهدناه في روايات جرجي زيدان في بدايات القرن العشرين.
أمّا حول علاقة المؤرخ بالروائي، فهنا مجال البحث كثير، لأنّنا لا نقف دائماً أمام مؤرخ موضوعي. إذ ثمّة جانب ذاتي موجود فيه، وبخاصة حين نتكلّم عن تاريخ معاصر، مثالاً على ذلك، كتاب التاريخ في مدارس لبنان، ما يتعلّق بمرحلة تسعينيات القرن الماضي، غير متوفّر، لأنّ الافرقاء أو خصوم الأمس هم أنفسهم حكّام اليوم على خصوماتهم، وكل فريق يرى إلى هذه الأحداث من منظوره الخاص الذي يعتبره موضوعياً.
وكانت النتيجة عدم الاتفاق على كتابة تاريخ موحّد، في حين أنّ الرواية التاريخية تستطيع على الأقلّ أن تضع على لسان شخصياتها كلّ وجهات النظر، والأهم ما الذي عانى منه الناس، وللقارئ أن يجد فيها ما يلائمه. كما فعل أمين معلوف في روايته "التائهون" عن تلك المرحلة وتداعياتها. هكذا يمكن أن يصير التاريخ أيضاً وجهة نظر، فما بالك بالرواية التاريخيّة؟