الموسيقى الإيرانية: جمال ومعرفة.. وشيء من الغيب!
يقول هيغل إنها من أكثر الفنون إثارة للعواطف، فأي مكانة للموسيقى لدى الإيرانيين؟ ولماذا وصفها السيد خامنئي بحبكة من المعرفة والفكر والفطرة؟
وأنت تهرب من جحيم الحياة الصاخبة بشرورها المتنامية يوماً بعد يوم، قد ترمي بنفسك في أيّ مهرجان آخر تعلو أصواته فوق ضجيج حياتك البائسة، فلا تعود تسمعها ولا تشعر بها. وحده المهرجان يستولي على وعيك الآني. قد يكون المهرجان أيّ شيء يحمل دلالة الملاذ الآمن. قد يكون مهرجاناً موسيقياً. فهل كان نيتشه على حق حين عدّ الحياة جحيماً لولا الموسيقى؟
لا شكّ في أن لغة الموسيقى عالمية، وما تحدثه نوتات بيتهوفن من تأثير في يرجل هندي أو طفل مغربي أو امرأة من العراق، لا يختلف في صورته الكليّة، رغم اختلافه نوعياً وحسياً بحسب الانطباعات الفردية لكل من هؤلاء. ففي المعنى الأعمّ، ثمّة ارتياح معنوي نفسي يصاحب الموسيقى، لا لغة تعبّر عنه. لعلّ هذا هو اللغز. شيء ما أشبه بطعم الكرز الذي يمنع الرجل المتصوّف في فيلم عباس كيارستمي من الانتحار، لما كان في هذا الطعم البسيط من معاني البهجة التي تستحق الحياة، من أجل اختبارها فقط. لعلّ الموسيقى هي حبّة الكرز هذه!
مختلفة هي الألحان التي تسمعها هنا وهناك في أزقّة إيران، وفي مطاعمها ومقاهيها، أو أنك تجدها غريبة في الانطباع الأول إن كانت زيارتك الأولى لهذه البقعة. نكهة متمايزة للنوتات التي يبدو أن عزفها يختلف كثيراً عن الألحان الشرقية المتعارفة، اختلافاً تقتضيه الذائقة الإيرانية والأذن الموسيقية لهذا البلد، الذي تجرَّع الأصالة على امتداد تاريخه الحضاري، فانعكست في فنونه وأدبه وكل ما ينضوي تحت عنوان "الأستطيقا" أو "علم الجمال".
لا خلاف حول أن كلمة "موسيقى" تعريب لــ"موز" اليونانية، وهي اسم إله الفن عند الإغريق، غير أن الموسيقى في أصلها وفي ما تحمله من معنى، اختلفت بين الشعوب عبر التاريخ باختلاف الثقافات والحياة الاجتماعية من تقاليد وأسلوب عيش وعادات.
رغم ذلك، فإنَّ الموسيقى لم تنبثق في البدايات بشكلها الحالي، ولم يكن الإنسان قديماً يعرف الكثير عن هذا الفن، سوى أنه كان يستحسن الألحان التي يسمعها خلال الطقوس المتنوعة المرتبطة بمجتمعه.
الموسيقى هي الفن الوحيد الذي يراد لذاته وليس لما يمثّله.
أياً كانت الحال، فالموسيقى لطالما كانت محط اهتمام المفكّرين والفلاسفة الذين أولوا تأثيراتها الجمالية ورمزيّتها وتعبيريتها اهتماماً بالغاً، فكانت عند شوبنهاور أبهى الفنون، والفن الوحيد الذي لا يحتاج إلى عنصر التصوّر والتمثيل، كما تفعل الكلمات أو المسرح، فهي بالتالي الفن الوحيد الذي يراد لذاته وليس لما يمثّله.
رأى شوبنهاور أن الموسيقى هي السبيل الوحيد للتفلّت من سطوة القانون الذي يحكم وجودنا؛ الإرادة. إنها بالتالي فن مستقل بذاته عن باقي الفنون. هذا البعد الميتافيزيقي الزاخر بالمعاني الحسية، ألهم الكثيرين للبحث في دهاليز الموسيقى الساحرة.
باتت الموسيقى اليوم جزءاً ملازماً لحياة الإنسان، رغم أن مسمّياتها اتّسعت وباتت عريضة الحيّز بما يكفي، لتوجد اختلافاً في وجهات النظر حول تعريف الموسيقى، فهل هو اللحن؟ أم أنه الأغنية بشكلها الحديث؟ أم هو الشعر الملحّن؟
اعتبر الفلاسفة أن الموسيقى هي أرقى ما يكمن سماعه، بالنظر إلى ما فيها من خيالية منفتحة على صور لامتناهية غير محصورة بقالب الألفاظ. وقد عبّر هيغل بمثاليته عن أن الموسيقى هي أكثر الفنون إثارة للعواطف. هيغل الذي طرح فكرة ثلاثية الفلسفة والدين والفن من أجل بلوغ الروح المطلق والوعي بالذات، رأى أن الموسيقى عنصر يلامس النفس مباشرة من دون وسيط، فهي عنصر بنيوي في تكوين فلسفته الجمالية.
في الواقع، لا يمكن القول إن الموسيقى جزء من الشعر أو الأغنية، وإنما الأصحّ القول إنها فن منفصل عن الشعر، وجاء مكمّلاً له، حتى ولدت من جمعهما الأغنية. اختلف شكل هذه الأغنية بين الماضي والحاضر، وبين الشرق والغرب، وبين العرب والفرس، فكان لها الشكلان التقليدي والمعاصر في كل مجتمع وأمّة.
الاختلاف الجوهري واضح بين الموسيقى العربية والفارسية. لا يتعلّق الأمر بلغة الكلمات، بل الحديث عن أصل الموسيقى وروحها، عن الآلات الموسيقية وطريقة توظيفها في المعزوفة، ثم نكهة المقطوعة ووقعها على الأذن، وارتباطها الوثيق بحضارة هذا البلد وذائقته التي لا تستحسن نمطاً مثلما تستسيغ اللحن الأصيل الذي ألفت سماعه، فهل كانت الموسيقى نتيجة لهذه الذائقة الأستطيقية؟ أم أن الذائقة اعتادت هذه الموسيقى؟
هي جدلية التأثّر والتأثير التي جعلت الارتباط وثيقاً والتمييز صعباً في ما إذا كانت الأصالة للأذن أم للموسيقى، غير أن هذه الإشكالية لو تمّت مقاربتها وحلّها عبر إقرار عملية التأثّر والتأثير، لبدا واضحاً أن لكل شعب تقليده في الفن والرسم والموسيقى والعمارة، وكل ما يشكل جزءاً من حضارات الأمم وتاريخها.
يقول أفلاطون: كنا نعرفُ كلّ شيءٍ في عالم المعقول، وجئنا إلى عالم المحسوس ونحن لا نفعل شيئاً إلا تذكّر ما كنا نعرفه. لعلّنا كنا نعرف كلّ هذه الألحان سابقاً.
تعود إلى الشارع الإيراني، إلى المقهى الإيراني، إلى صالات الحفلات الموسيقية التي تقدّم مقطوعات من الموسيقى التقليدية الأصيلة، كما تقدّم لشريحة الشباب أغاني البوب التي تشبه إلى حد كبير البوب العالمي والعربي، رغم الاختلاف في النمط والأسلوب والآلات، الأمر الذي يدلّ على حاجة الإنسان إلى الموسيقى؛ هذه الحاجة التي يعبّر عنها بطرق وألحان مختلفة.
يقول الموسيقار الشیرازي داريوش صفوت (1928- 2013) إن الموسيقى الإيرانية هي ثمرة تاريخ عريق من تعايش الأقوام المختلفة في بلاد "آريا" أو فارس القديمة، من كلدانيين وآشوريين وعبرانيين وبابليين وآخرين.
وقرابة 500 عام قبل الميلاد، حكمت الأقوام الإيرانية الأولى "الماد"، واتخذوا من همدان عاصمة لهم، وتشكّلت الحكومة، وبدأ الاهتمام بسائر الفنون، ومنها الموسيقى. من ذلك العصر، أخذت ملامح الموسيقى بالتشكّل والتطوّر.
صفوت، وهو مؤسّس مركز حفظ الموسيقى ونشرها في إيران في العام 1968، تخصّص بالعزف على آلة تسمّى "سه تار" أو "ذو الأوتار الثلاثة"، وآلة "السنتور"، وهي آلة تشبه القانون الشرقي مع اختلافات طفيفة. وقد درس الموسيقى فلسفة وتحليلاً، وقدّم آراء في الموسيقى والإسلام، وكان إنجازه الأكبر في مجال الموسيقى الإيرانية.
على عكس ما يشاع عن تحريم الإسلام للموسيقى، فإن الوعي الفقهي واضح في مقاربته، حيث لا نصّ في القرآن الكريم يحرِّم الموسيقى.
مؤلّفه الأضخم بعنوان "ثماني مقولات في فلسفة الموسيقى" يتكون من خمسة مجلّدات، يتناول فيها الموسيقى فرعاً من علم الجمال وفلسفة الجمال، محلّلاً التوجّه الموسيقي التقليدي في الشعوب، ومعرّجاً على أبرز وجوه الموسيقى الإيرانية عبر التاريخ، وعلى الآلات التي اختصّت بها الموسيقى الفارسية التقليدية، فتوارثتها الأجيال حتى تماهت مع الأذن الموسيقية الإيرانية وأمست هويّتها الأصلية.
انتشر الكتاب في إيران بشكل لافت، وأقبل عليه الشباب، حتى صدرت منه أقراص مدمجة تحوي الكتاب على شكل صوتي، حتى يصل إلى أكبر شريحة من الناس.
في الواقع، هو أحد النماذج التي تدلّ على الاهتمام الواسع والحقيقي لهذه الدولة، حكومة ونظاماً، بأحد أقدم الفنون، وعياً وإدراكاً منها بأهميّة اللحن والموسيقى في رفع المستوى المعنوي للكائن البشري.
وإحدى إشارات هذا الاهتمام والاحتفاء بالموسيقى، ارتباطها النسبي بالعرفان الفارسي وبالفلسفة، إذ يؤكّد الأساتذة الجامعيون والعارفون، ومنهم السيد علي خامنئي، على أهميّة تهذيب الأذن وضرورة سماع الموسيقى من أجل إضفاء المعنى على الروح البشرية وتنمية القيم الجمالية فيها، ما ينعكس على الحياة النفسية للفرد، وبالتالي حضوره الاجتماعي..
وعلى عكس ما قد يتصوّره البعض عن تحريم الإسلام للموسيقى، فإننا نلاحظ أن الوعي الفقهي في هذا الصدد واضح في مقاربته، حيث لا نصّ في القرآن الكريم يحرِّم الموسيقى، وإنما الحديث عن مجالس اللهو والفجور. وبين هذا وذاك، اختلاف كبير.
دعا خامنئي أكثر من مرة إلى إخراج الموسيقى الإيرانية من دائرة ما يستحسنه الجمهور، إلى دائرة الأهداف الإنسانية السامية والغايات الكلية المتعالية.
الموسيقى التقليدية الإيرانية تقدّم للسامع انطباعات لا تشبه الانطباع الحاصل من سماع أغنية، وإنما ترفع المزاج الجمالي إلى نواح ومقامات عالية، لا تخلو من خليط ساحر من الوجد والحزن الجميل والحنين إلى شيء ما مبهم أو مرمّز.
ربما هذا ما عبّر عنه المفكّر العارف حسين إلهي قمشه اي، حين قال إن في كل مقطوعة موسيقية قطعة من الجنة، وإننا نشعر بهذا الحنين الغريب الآسر، وتحديداً لأننا، قبل هبوطنا إلى هذا العالم، كنا قد سمعنا هذه الألحان. لذا، نحن نعرفها جيداً.
هذه النظرة لا تخلو من المعنوية المثالية أو الروحانية الملموسة في نمط تفكير هؤلاء الأفراد. ألم يقلها أفلاطون؟ إننا كنا نعرف كل شيء في عالم المعقول، وجئنا إلى عالم المحسوس ونحن لا نفعل شيئاً إلا تذكّر ما كنا نعرفه! لعلّنا كنا نعرف كل هذه الألحان سابقاً.. في مكان ما! ربما لهذا نجيد العزف ونمتلك أذناً ورثت عشق النغم.
في الواقع، لا يخلو بيت في شهر رمضان تحديداً في إيران من صوت الموسيقار محمد رضا شجريان مكبراً وداعياً بالدعاء الشهير "ربنا ولا تزغ قلوبنا ..."، وذلك عبر القنوات الرسمية للبلاد. كما لا تخلو كبريات صالات العرض والمسارح الإيرانية من حفلات قامات الموسيقى التقليدية الأصيلة التي يستغرق أداؤها ساعات، فنتعرّف هناك إلى ألحان عظماء، من أمثال شجريان، وعلي رضا إفتخاري، وشهرام ناظري، وكيهان كلهر، وحسین علي زاده، ومحمد رضا لطفي وآخرين من كبار رموز العزف على الوتر.
عبرّ المفكّر العارف حسين إلهي قمشه اي عن الموسيقى قائلاً: في كل مقطوعة موسيقية قطعة من الجنة، وإننا نشعر بهذا الحنين الغريب الآسر، لأننا، قبل هبوطنا إلى هذا العالم، كنا قد سمعنا هذه الألحان. لذا، نحن نعرفها جيداً.
ومن الأمور اللافتة في إحدى المناسبات، وبعد إتمام معزوفة للموسيقار علي رضا إفتخاري في محضر السيّد خامنئي، توجّه الأخير إلى الموسيقار بالقول إنه يهنئه، وإن أداءه كان بديعاً، ثم كانت له كلمة حول الموسيقى وأهميّتها، لكونها جزءاً من ميل الإنسان الغريزي وفطرته ومعنويته، معتبراً أن فن الموسيقى هو حبكة من المعرفة والفكر والفطرة.
ولكن يمكن القول إن رؤية خامنئي للموسيقى هي رؤية نقدية، إذ يعبّر في أكثر من تصريح بأن مسار تطوّر الموسيقى الإيرانية والعربية عموماً لم يوظّف من أجل الأهداف الإنسانية المتعالية.
هذا تحديداً ما دعا العديد الأكبر من الفقهاء إلى تحريم الموسيقى أو الأغاني في منطقتنا، بعدما تحوّلت الموسيقى إلى آلات وأدوات للهو لا أكثر، وحذت بذلك حذو مجالس الخلفاء والسلاطين، إذ كانت الحلقات الغنائية لا تخلو من الرقص والفجور والسكر.
ودعا خامنئي أكثر من مرة إلى إنقاذ الموسيقى الإيرانية وإخراجها من دائرة أداء ما يستحسنه الجمهور إلى دائرة الأهداف الإنسانية السامية والغايات الكلية المتعالية، مثنياً على المعزوفات العالمية التي ساهمت في إحداث تحوّلات تاريخية، مثل موسيقى بيتهوفن التي أدت دوراً في نجاة روسيا خلال الحرب العالمية الأولى.
لا يخلو بيت إيراني في شهر رمضان من صوت الموسيقار محمد رضا شجريان مكبراً وداعياً: "ربنا ولا تزغ قلوبنا".
على أي حال، ربما هذا ما يحاوله روّاد الموسيقى الأصيلة من خلال أعمالهم العظيمة؛ ففي هذا النوع من الموسيقى، يلفتك ذلك التماهي للفنان العازف مع لحنه، حتى يفنى ويحلّ بمعزوفته، كما يعبّر المتصوّفة، فيأخذك إلى حاله لا شعورياً وتعلو معه لتلامس مقامات معنوية ربما لم تشعر بها من قبل. لعلّ هذا ما سمّاه صفوت في إحدى مقالاته بــ"الفن والحال"، ولعلّه ما عبّر عنه السيد خامنئي بأن الموسيقى هي انعكاس لصوت الأفلاك.
قد تكون الآلة على بساطتها قادرة على إحداث تحوّل كبير في داخلك، مثلما فعلت حبّة الكرز تماماً بالرجل الصوفي. يبقى الأمر سرّاً تتآمر فيه أنامل العازف وصوته مع أوتار الآلة وأذن المتلقّي، فتتمظهر علاقة جمالية تبادلية فيها الكثير من الفينومنولوجيا وانبثاق الإدراك الجمالي الذي يفضي إلى معرفة من نوع آخر للذات المستمعة، فتعالوا معاً، نهرب من الجحيم!