الفردوسي.. "هوميروس إيران" وأبو الشعر الفارسي
سمّي تاريخ ميلاده بـــ"يوم اللغة الفارسية". أنجز على مدار 30 عاماً من حياته كتابه "الشاهنامة" الذي يعد علامة فارقة في الأدب العالمي. إليكم حكاية الشاعر الملحمي الإيراني أبو القاسم الفردوسي.
ليس غريباً أن يُسمَّى تاريخ ميلاد الشاعر الملحمي الإيراني أبو القاسم الفردوسي بــ "يوم اللغة الفارسية". ذلك أن ما أنجزه على مدار 30 عاماً من حياته في كتابته للشاهنامة (كتاب الملوك)، كان علامة فارقة في الأدب العالمي عموماً، وخطوة مهمة في الحفاظ على الثقافة والأدب الفارسيين.
ولعل أهمّ ما في الفردوسي اشتغاله الحثيث على إحياء اللغة الفارسية ضمن ملحمته التي ضمّت ما يُقارب 60 ألف بيت من الشعر على وزن البحر المتقارب والقافية المزدوجة، مُصوِّراً فيها التاريخ الإيراني منذ البداية وخلال 4 سلالات من ملوك الفرس، هم البشدادية والكيانيون والأشقانيون والساسانيون.
هذا التصوير جعل "الشاهنامة" أثراً خالداً في الثقافة الإيرانية، وشاهداً عريقاً على جماليات اللغة الفارسية، لاسيما أن أسلوب بیان الفردوسي فيها بسیط، واضح، موجز وبعید عن التزویق اللفظي والحشو الزائد المملّ. حتى أن نُقَّاد الأدب قالوا إن إيجازه فيها وصل إلى حد الإعجاز، إذ ظهرت القصص في الملحمة الفارسية، والتي كانت منثورة في الأصل، في أدقّ صوره وأجمل بیان، كما حافظت على سلامتها التاریخیة ولم یزد علیها الفردوسي أو ینقص منها، وهذا ما یعبِّر عن أمانته ونزاهته، فضلاً عن عبقریّته في الحفاظ على روح النصّ وجمال الشعر.
يعتقد دارسو التاريخ الأدبي الإيراني أن الذي حافظ على شاهنامة الفردوسي من الإنقراض والضیاع، كباقي الشاهنامات، هو قوَّة بیانها وجزالة عبارتها، ولعلّ هذا ما وازاها بإلياذة "هوميروس" الشاعر الإغريقي الشهير. حتى أن النُّقاد أطلقوا على الفردوسي إسم "هوميروس إيران"، من دون أن يؤكّدوا أثر الإلياذة على الشاهنامة، ولا إنْ كان الشاعر الإيراني قد قرأ ما خطّته يدا هوميروس وترك ذلك أثراً في نفسه أثناء كتابة ملحمته، لكنهم اكتفوا بالمقاربة بين عظمة العملين الإغريقي والإيراني، والمكانة العالية التي يحتلّها كل من شاعريهما في الإجادة والصدق وجماليات اللغة.
وُلِد أبو القاسم منصور بن حسن بن شرفشاه الملقَّب بالفردوسي، وفقاً للإشارات الواردة في الشاهنامة في أواخر العقد الثالث من القرن الرابع، وينحدر من عائلة من طبقة الدهّاقين أو الملاّكين من قرية إسمها "باج" في نواحي طبران في طوس، حيث كان صاحب أملاك وضِياع وأموال.
يعتقد دارسو التاريخ الأدبي الإيراني أن الذي حافظ على شاهنامة الفردوسي من الإنقراض والضیاع، كباقي الشاهنامات، هو قوَّة بیانها وجزالة عبارتها، ولعلّ هذا ما وازاها بإلياذة "هوميروس".
أمضى الفردوسي سنوات شبابه في تتبّع أخبار تاريخ ملوك إيران وسيرهم المتناثرة في المصادر المكتوبة، ولا سيما الكتاب البهلوي "خوتاي نامك" أو "خداي نامه" والذي ترجمه إبن المقفَّع إلى العربية في القرن الثاني الهجري تحت عنوان "تاريخ الرسل والملوك"، وكان مصدراً أساسياً للمؤرّخين المسلمين في ما بعد كالطبري والدينوري والبيروني والثعالبي.
كما قرأ الفردوسي الشاهنامات النثرية السابقة كشاهنامة أبو المؤيِّد البلخي وشاهنامة أبوعلي البلخي وشاهنامة أبو منصوري، إضافة إلى اطّلاع أبو القاسم على الروايات الشفهية للحكايات والحوادث الحماسية الإيرانية القديمة والتي كانت تدور على ألسنة الرواة والنقَّالين، ولا سيما طبقة الدهّاقين والأشراف والسدنة، وإلى جانب إلمام الفردوسي بالثقافة الفارسية وتاريخها، فقد كان متبحِّراً في الأدب العربي والثقافة الإسلامية والفلسفة والبلاغة والكلام، وأشعاره تثبت ذلك، كما أن لقبه "الحكيم" يؤكِّد هذه الحقيقة.
في عصر شباب الفردوسي توفَّى الشاعر دقيقي 348 هـ بعد أن كان الأخير قد شرع بنظم شاهنامته ولم ينشد منها سوى ألف بيت تقريباً، الأمر الذي حرَّك مشاعر الفردوسي ودفعه إلى إكمال مشروع دقيقي، وفعلاً بدأ بالنظم عام 370 هجري وامتدّ به المطاف حتى عام 402 هـ، أي أكثر من 30 عاماً كانت نتيجتها هذا السِفر العظيم الذي يحوي أكثر من 60 ألف بيت.
قدّم الفردوسي شاهنامته إلى السلطان محمود بن ناصر الدين سبكتكين الغزنوي، لكنه لم ينل مراده، بل كدَّر خاطره بعد أن أخلف وعده بمنحه الجائرة المقرَّرة بستين ألف دينار، فهجاه الفردوسي وهرب من غزنة خوفاً من بطش السلطان محمود باتجاه دياره وبقي هناك حتى وفاته سنة411 هـ، ويقال إن السلطان محمود ندم على فعله وأرسل له الدنانير، لكن حينما وصلت بوابة طوس كانت جنازة الحكيم تشيَّع من بوابة أخرى، فقدّمت المكافأة إلى إبنة الفردوسي الوحيدة لكنها رفضتها بكل إباء.
"يستمر القصّ في الشاهنامة قرابة ثلاثة آلاف وثمانمائة وإثنتين وسبعين سنة، ولهذه الملحمة عند الفرس مكانة عظيمة، فهي سِجِلّ تاريخهم وأساطيرهم، وهي أناشيد مجدهم، وديوان لغتهم، وموضوع سرّهم ولهوهم، ينشدونها في المحافل، ويعنى بها العالم والجاهل"، وذلك كما جاء في كتاب "قصّة الأدب في العالم" لمؤلّفيه زكي نجيب محمود وأحمد أمين.
يؤكّد نُقّاد الأدب أن الشاعر الألماني هنري هافیه والفرنسي فیكتور هوغو تأثّرا بالشاهنامة، وأثنى الشاعر الألماني غوته علیها، بينما قام الشاعر والكاتب الفرنسي لامارتین بشرح قصّة رستم، إحدى قصص الشاهنامة.
أما على صعيد الصياغة الفنية، فنذكِّر بما كتبه المستشرق الألماني "نويلدكه" عنها: "إن الفردوسي شاعر مطبوع يستولي على فكر القارئ ويحيي القصة التافهة بانطلاق الممثّلين، بل كثيراً ما تختفي الأفعال في جلال الأقوال. وهو يفصّل الحادث المجمل تفصيلاً حسناً، ويخلق حادثات صغيرة أحياناً ليكمّل الوصف، وهو بصير بإحياء الأبطال، وأحياناً يخلقهم على غير ما صوّرتهم الأساطير، وما أقدره على بيان ما وراء أفعال الأبطال من أسباب وأفكار. وصفُهُ النفساني رائع، ونغمة البطولة مسموعة في الكتاب كله، وعظمته وأبّهته وفرحه وترحه وجهاده مصوّرة في أسلوب عجيب، حتى ليسمع القارئ صليل السيوف وضوضاء المحافل. مشاهد الحرب تلقى القارئ في كل فصل، ولكن هناك ميادين للحب والعواطف اللطيفة أيضاً. هناك قصص غرامية رائعة. والشاعر في هذا - بل في الكتاب كله - يمتلك القارئ بسهولة الوصف".
ويؤكّد نُقّاد الأدب أن الشاعر الألماني هنري هافیه والفرنسي فیكتور هوغو تأثّرا بالشاهنامة، وأثنى الشاعر الألماني غوته علیها، بينما قام الشاعر والكاتب الفرنسي لامارتین بشرح قصّة رستم، إحدى قصص الشاهنامة.
وقال المستشرق الإنكلیزي كوویل في الشاهنامة: "ذكر أغوست إمبراطور روما أنه عندما استلم روما كانت كلها من الآجر، وعندما سلّمها كانت من المرمر. الفردوسي كذلك وجد بلده تقریباً من دون أدب فسلّم إلیه الشاهنامة التي لم یستطع الأدباء من بعده سوى تقلیدها، من دون أن یتفوّق أحد علیها. إنها ملحمة بإمكانها أن تنافس كل أثر، ولا نظیر في آسیا بأسرها مثلما هي حال ملاحم هومیرس في أوروبا".
أما"رضا قلي خان هدایت" فیقول فیها: "إنها رسالة عظیمة وبحر زاخر باللآلئ، ویندر أن نجد كتاباً منظوماً بهذا الأسلوب والإتّساق، ولیس لشعراء فارس كتاب كشاهنامة الفردوسي ومثنوي المولوي".
فیما یقول البروفسور رستم علیوف: "الشاهنامة موسوعة تتحدّث عن ثقافة الشعب الإیراني وعلمه وفنّه وتاریخه القدیم، ونحن بحاجه إلى سنوات مدیدة من البحث والدراسة حتى یمكن فَهْم وإدراك عمق الكتاب الكبیر".