الأدباء العرب وأمّهاتهم.. كوجه العذراء مريم، كالأرض بفصولها الأربعة
زحفت على كوعيها في الوحل لتستقبل حنا مينا. درويش ترك وجهه على منديلها، وجبران كان يرى أن البيوت مظلمة إلى أن تستيقظ.. كيف كانت العلاقة بين بعض الأدباء العرب وأمهاتهم؟
ليس سهلاً التقصّي في شيفرة العلاقة بين الأدباء وأمّهاتهم. كما أن التنقيب عن صورة الأمّ وانعكاسها في إبداعهم غير يسير. لكن مجرّد التأمّل في ما باحوا به عن تلك العلاقة، سواء في مذكّراتهم، أو لقاءاتهم الصحفية، أو حتى في ثنايا بعض أعمالهم الأدبية، سيكون كفيلاً برسم ملامح فائقة العذوبة، وتلمُّس مكامن الخصوصية في تلك العلاقة، وبعض آليات انعكاسها إبداعياً.
فها هو الأديب السوري حنا مينا يقول في "أشياء من ذكريات طفولتي.. ذكريات في رواية": "لست أدري كيف تشكّلت تلك الملامح، تدريجاً، مع تدرّجي في امتلاك الوَعي بما حولي، لكنني سأظلّ أذكر أنني، بادئ الأمر، أبصرت هالة، كتلك التي سأراها، عندما أكبر، حول وجه مريم العذراء، وداخل هذه الهالة شيء نوراني، دقيق، أليف، طيّب، رائع بما فيه من حنان، ومن أمان، ومن لطف، ومن جمال، ومن دفء يشعّ، في كل التقاطيع، كل الدوائر والخطوط، ويستقرّ، ويتكثّف، في العينين العسليتين، الناظرتين إليّ تلك النظرة الودود، وأنا في الحضن الذي كان سريري، ملعبي، أرجوحتي، وكل عالمي الطفولي، العالم الذي سأستمدّ منه طمأنينة داخلية عذبة أرتاح إليها، فأكفّ عن البكاء".
زحفت على كوعيها لتستقبله
ويتابع صاحب "بقايا صوَر" أن صلته بأمّه ميريانا ميخائيل زكّور متَّنه خوفها عليه. هو الصبي الذي رزقها الله به بعد ثلاث بنات، إضافة إلى أنه كان طفلاً مريضاً، لدرجة أنه لا يعلم في أية مرحلة من عمره كفَّ عن الخوف من الابتعاد عن أمّه؟ ومتى انفصمت العُرى بين جسده وبين حضن أمّه الذي بقي ملاذه ومصدر أمنه الذي خاف، إلى درجة الذعر، أن يفقده يوماً.
وهي في الوقت ذاته واظبت على قرع باب غرفته صباح كل يوم، حتى عندما بات شاباً يعمل كحلاّق، ولا يهدأ بالها حتى تسمع صوته، فتستكين إلى أنه ما زال حيّاً. وعندما اضطر إلى مغادرة البلاد نذرت بأنه إن عاد في حياتها، فستستقبله زاحفةً على كوعيها من بيتها إلى مكان وصوله، وهو ما حصل فعلاً رغم أن ذاك اليوم كان ماطراً وموحلاً. حتى أنها قبَّلت عجلات السيارة التي أقلَّته.
علاقة حنا مينا بوالدته اندغمت مع كل ما كتبه لدرجة أن محبّتهما استمرّت عبر أدبه، لكن إضافة إلى ذاك الحب كان هناك الألم الذي حبَلتْه به أمُّه وولدته به وربَّته به.
هذه المحبّة المتبادلة والألم والخوف أبقى وشائج خفيّة تربط حنا مينا بوالدته، وظواهر تلك العلاقة تبدّت بأشكال مُتباينة، حيث يقول: "الحب الأمومي، هو الحب القلبي، وهو الحب الزوجي، وهو الحب الأُسْرَوي، وكذلك هو حب الفكرة، والقضية والكفاح، والنشوة، وكل ملذّات العيش، والعطاء والبذل، والتضحية، والشعور بالذات، والمسرّة بما أعطته هذه الذات، عملاً في البحث عن مقوّمات الاستمرار الحياتي، وبحثاً عن الخبز بين الناس، والمعرفة بهؤلاء الناس، ومحاولة للتعبير عنهم، في كل ما أنجزت من أعمال أدبية، كان الإنسان محورها، وعمادها ومقصدها وفخرها ومنتهاها".
أي أن علاقة صاحب "المصابيح الزرق" بوالدته اندغمت مع كل ما كتبه لدرجة أن محبّتهما استمرّت عبر أدبه، لكن إضافة إلى ذاك الحب كان هناك الألم الذي حبَلتْه به أمُّه وولدته به وربَّته به، حتى جعلته يُصرِّح "كأن هذا الألم، الذي رافقها طوال حياتها، وتبدّى في صورة خوفٍ عليّ، قد انتقل منها إليّ، فعشت حياتي كلها وإحساس به يفعم روحي، حتى أترعها، في شعور بالاكتئاب سيلازمني صبياً وشاباً ورجلاً وكهلاً وشيخاً، حتى لأصيح، حين يطغى موجُهُ عليّ، وأغرق في لجّته، متى الموت؟ متى تأتي أيها الموت الجميل؟".
ومع ذلك لم تنقطع المرحلة الرحمية بين مينا وأمّه إلى أن وافتها المنية. حينها لم يستطع مينا البكاء خلال مراسم الدفن والتشييع، بل بقي صابراً وصامداً حتى اختلى بنفسه في بيتها. لحظتها بكى، وعبثاً حاول وقف دموعه، لأنه أيقن أن تلك المرحلة قد انتهت، وأن عليه، بعد الآن، ألا ينتظر ذراعين مفتوحتين وصدراً حنوناً، ولا هتفةً باسمه هي النغم الأحلى، والصوت الأعذب، بين كل الأنغام والأصوات، كما صرّح أكثر من مرة.
"أمّي مخزن للثقافة الشعبية"
من حنا مينا إلى أديب نوبل المصري نجيب محفوظ، الذي كانت لأمّه مكانة بالغة الأهمية في تكوينه الإنساني والأدبي. ويذكر أن والدته لعبت دوراً إيجابياً في تشكيل شخصيّته وتحديد مساره الأدبي فيقول: "على الرغم من أنها لم تكن تجيد القراءة والكتابة، لكنها علّمتني الحياة؛ إذ كانت مخزناً للثقافة الشعبية".
الأمّ في روايات نجيب محفوظ عظيمة في الأشياء الصغيرة التي تقوم بها، قوية في ضعفها، قوية في صبرها، وشكَّلت رمزاً لثبات القِيَم ولمّ الشمل.
وبسبب عشقها "الحسين" كانت تزور مقامه في "الجمالية" دائماً، وتصحب نجيب ذي الثماني سنوات معها في زيارتها للمتاحف ومشاهدة الآثار الإسلامية والقبطية من دون فرق، فضلاً عن غرامها بسماع الأغاني القديمة، لذا كانت علاقته بها أوثق من علاقته بأبيه؛ نظراً لأنه لازمها وأقام معها، وهي التي امتدّ عمرها حتى تجاوزت المئة.
من هنا نرى أن الأمّ في روايات نجيب محفوظ كانت عظيمة في تلك الأشياء الصغيرة التي تقوم بها، قوية في ضعفها، قوية في صبرها، وشكَّلت رمزاً لثبات القِيَم ولمّ الشمل، تماماً مثل أمينة التي عاشت حياة قاسية في ظلّ والد مستبدّ كالسيّد أحمد عبد الجواد في ثلاثية محفوظ "بين القصرين"، و"قصر الشوق"، و"السكرية".
"تركتُ وجهي على منديلها"
"أمّي هي أمّي. ولو استطعت أن أفكّ خصرها وضفائرها من لعنة الرموز لفعلت. نعم، تركت وجهي على منديلها، لأني خارجها أفقد ملامحي. وعندما لا أطلب من كل هذا المأساوي، الذي هو ما يدور في بلادي وعليها، غير منديل أمّي، فلأنني أسعى إلى استرداد ملامحي الأولى. لاسترداد إنسانيّتي في صوَري كما هي، لا كما ترسمها الجريمة الكبرى التي ارتكبت في بلادي من ناحية، ولا كما ترسمها البطولة من ناحية أخرى".
يقول درويش عن أمه: "كانت جميلة، وشعرها أحمر طويل، وعيناها زرقاوان، لكنها قاسية لا تعبّر عن عواطفها إلا في الجنازات، أنا لم أرَ أمّي في أيّ عرس، كانت تذهب إلى الجنازات، وفوجئت مرة أنها تنشد الأغاني الشعبية، واكتشفت أيضاً أنها تؤلّف بكائيات".
جاءت هذه الكلمات على لسان الشاعر الفلسطيني محمود درويش في كتاب "أنا الموقّع أدناه محمود درويش" الذي يتضمّن حواراً مطوّلاً أجرته معه الصحافية اللبنانية إيفانا مرشيليان، فلا إنسانية إلا من خلال صورته في عيني أمّه حورية درويش التي وصفها في حوار آخر بأنها "كانت جميلة، وشعرها أحمر طويل، وعيناها زرقاوان، لكنها قاسية لا تعبّر عن عواطفها إلا في الجنازات، أنا لم أرَ أمّي في أيّ عرس، كانت تذهب إلى الجنازات، وفوجئت مرة أنها تنشد الأغاني الشعبية، واكتشفت أيضاً أنها تؤلّف بكائيات"، وكأنه يريد القول إن صوته الشعري امتدادٌ لنسغ شعرية والدته، الذي كان دائم الحنين إلى خبزها وقهوتها ولمستها.
هكذا كثيراً ما شبّه دوريش أمه بفلسطين، وشبّه فلسطين بها، ما جعله يقول: "إن في أمّي، ذاكرة الأرض الفلسطينية. والأرض التي، هي أمّي، هي الأرض ذات الفصول الأربعة. هي الخارطة الحيّة لكل الشجر والعشب والزهر والدم. هي الباقية، وكأنما بلا اكتراث بالعابرين من الغزاة حتى لو صار بعضهم آباء أو ادّعوا الأبوّة. ولكنها بأمومتها التي لا يشكّ بها مؤرّخ أو طبيب أو مهندس زراعي، هي أمّي".
كل البيوت مظلمة إلى أن تستيقظ
كان لكاملة رحمة، والدة الأديب والفيلسوف اللبناني جبران خليل جبران، التأثير البالغ عليه. فهي من عرّفته على الفن عندما أهدت إليه كتاباً عن "ليوناردو دافنشي" وشجّعته على الرسم والكتابة، برغم تحفّظات خليل زوجها الذي كانت لديه مشاريع أخرى لإبنه.
أي أنه لولاها لما عرفنا جبران شاعراً رهيفاً ورسّاماً مُجيداً وفيلسوفاً عنده حكمة جعلته يقول بأن "كل البيوت مظلمة، إلى أن تستيقظ الأمّ"، أو يكتب "إن أعذب ما تحدّثه الشفاه البشرية هو لفظة (الأمّ) وأجمل مناداة هي: يا أمّي. كلمة صغيرة كبيرة مملوءة بالأمل والحبّ والانعطاف وكل ما في القلب البشري من الرِّقَّة والحلاوة والعذوبة. الأمّ هي كل شيء في هذه الحياة، هي التعزية في الحزن، والرَّجاء في اليأس، والقوّة في الضعف، هي ينبوع الحنوّ والرأفة والشفقة والغفران، فالذي يفقد أمّه يفقد صدراً يسند إليه رأسه، ويداً تباركه، وعيناً تحرسه".
ليس لي حياة كاملة إلا مع أمّي
علاقة الأديب المصري إحسان عبد القدّوس بوالدته فاطمة اليوسف كانت استثنائية، كما يحكي كتاب "إحسان عبد القدوس معارك الحب والسياسة 1919-1990" للكاتبة الصحافية زينب عبد الرزّاق.
ومن ملامح تلك العلاقة ما كتبه في أول يوم عمِلَ معها في مجلة "روز اليوسف" التي أسّستها في ثلاثينيات القرن الماضي: "في هذا اليوم الذي كنتُ أشعر فيه بالاطمئنان على يومي وغدي، كنتُ أنتظرها لتدخل إلى مكتبي - كعادتها - بعد أن تتمّ جولتها في الدار. كنت أنتظرها وقلبي يدقّ، كأني على موعد مع حبيبتي، وهي بالفعل حبيبتي. وقد استسلمت لنشاط أمّي. إن أمّي لا يمكن أن تكون كبقيّة الأمّهات. وبدأتُ أراها كبيرة - كبيرة جداً - إنها ليست مجرّد أمّ، لا. وبدأت أذيب نفسي لألحق بها في نشاطها، لأرتفع إليها. لم أستطع، كلما ارتفعت خطوة، رأيتها أكثر ارتفاعاً مما كنت أظنّ. أمّي صنعتني بيديها كما صنعت مجدها بيديها وجعلت من نفسها "سارة برنار الشرق" كما أطلق عليها نقّاد ذاك الزمن. لا تحمل شهادة مدرسية أو تأهيلاً علمياً ورغم هذا أخرجت جيلاً كاملاً من الكتّاب السياسيين والصحافيين. هي التي أرشدت أقلامهم".
أثّرت شخصيّة اليوسف في عشرات الروايات والقصص التي كتبها ولدها إحسان، وتحوّلت إلى أيقونات بارزة في السينما المصرية، حتى أنه أهداها روايته الشهيرة "في بيتنا رجل"، قائلاً: "إلى السيّدة صاحبة المدرسة التي علّمتنا الثورة، إلى أمّي، وأمّ كل الثائرين من أجل الحق والحرية، إلى السيّدة فاطمة اليوسف".
أمّ إحسان استطاعت الجمع بين العمل الشاق وواجبها كزوجة وأمّ، ورغم عشقها له، إلا أنها لم تكن متهاونة في العمل إلى حدّ أنها طردته مرّة. وعن تلك الحادثة كتب: "هي أمّ حنون مرهفة العاطفة إلى حد أنها تبكي أحياناً وهي تقبّلني. تكاد تشعرني أنها إبنتي، أكثر منها أمّي، فأضمّها بين ذراعي وأسند رأسها على صدري، وأغمر جبينها الطاهر بقبلاتي كأنها تحتمي بي. قسوتها مغلّفة بالحبّ".
ولا شكّ أن شخصيّتها أثّرت في عشرات الروايات والقصص التي كتبها إبنها، وتحوّلت إلى أيقونات بارزة في السينما المصرية، حتى أنه أهداها روايته الشهيرة "في بيتنا رجل"، قائلاً: "إلى السيّدة صاحبة المدرسة التي علّمتنا الثورة، إلى أمّي، وأمّ كل الثائرين من أجل الحق والحرية، إلى السيّدة فاطمة اليوسف".
"المحبّة لا تُظِهر عمقها إلا ساعة الفراق" بحسب جبران خليل جبران، واللحظات الأخيرة التي جمعت إحساس عبد القدوس بوالدته خير دليل على ذلك، فمنذ أن تلقّى اتصالاً مشؤوماً يُخبره بأن والدته تعبة، فإنه قاد سيارته وهو يُحاول طرد كلّ الأفكار السوداوية التي تراوده، مُقنعاً نفسه بأن "لا شيء يستطيع أن يسكت هذا القلب، حتى الموت". روى عبد القدوس: "لقد أقنعت نفسي، لا بدّ أنها أكلت شيئاً دسماً، فعاودتها نوبة المرارة. يا سلام يا ماما! لماذا لا تحترسين؟ لماذا لا تسمعين كلام الطبيب؟ لماذا لا تخضعين لأوامره وتعليماته؟ إنك عنيدة دائماً. وتقسين على نفسك حتى وأنت مريضة. لم يتكلّم الطبيب. ولكن سمعت صوتاً يقول "البقيّة في حياتك". أحسستُ كأن شفتيّ قد انفرجتا وانطلقت منهما صرخة: البقية في حياتك؟ هذا التعبير لا يقال لي. إني لا أرضى ببقيّة حياة. وليس لي حياة كاملة إلا مع أمّي".
وبعد أن تصالح عبد القدوس مع فكرة غياب أمه، عاد إلى الواقع، أخذ نظّارة والدته، وأبقاها كثيراً في جيبه، حسبما كتب في وداع والدته.
"منساش الابتسامة يا ماما"
أما شاعر المحكية المصري صلاح جاهين فحكى في أكثر من مناسبة عن أمّه التي كانت تحكي له القصص من الأدب الإنكليزي، وتزرع فيه النزعة الوطنية صغيراً، إلى جانب علاقة فريدة بها، تشكّلت ملامحها من خلال مجموعة من الرسائل المتبادلة بينهما بخطّ اليد، ومنها رسالة تتضمّن تهنئته لها في عيد الأمّ يقول فيها: "حبيبتي ماما. أقبّلك ألف قبلة، بل مليون قبلة، وأدعو الله أن تكوني بصحّة جيّدة، كل سنة وأنت طيّبة عشان عيدك".
تلك الرسائل لا تبتعد كثيراً عن كلمات الأغنية الشهيرة التي كتبها جاهين للفنانة سعاد حسني لتغنّيها للأمّ: "صباح الخير يا مولاتي.. أبوس الإيد وقلبي سعيد، يا أول حب في حياتي.. يا أمّي"، أو في جملته الرائعة التي تلخّص كل شيء عن طيبة الأمّ "منساش الابتسامة.. ومش هنسى يا ماما.. الشخطة اللي تعلم.. ومتهنش الكرامة".
وصف الماغوط والدته بالصرامة والقوّة والصلابة، لكنه اعترف بأنه أخذ منها الحسّ الساخر والصدق بالمشاعر. كما منحته القدرة على المضيّ بعيداً لتحقيق الحلم، فكل شيء لديها كان قابلاً للتنفيذ ما دام وُجِدَت العزيمة والإرادة والرغبة الحقيقية.
من جهته، كشف الأديب يوسف إدريس أن والدته كانت تعامله بشدّة وصلت في بعض الأوقات إلى القسوة لأنها كانت تريده دائماً متفوّقاً.
أما الأديب السوري محمد الماغوط فوصف والدته بالصرامة والقوّة والصلابة، لكنه اعترف بأنه أخذ منها الحسّ الساخر والصدق بالمشاعر. كذلك منحته القدرة على المضيّ بعيداً لتحقيق الحلم، فكل شيء لديها كان قابلاً للتنفيذ ما دام وُجِدَت العزيمة والإرادة والرغبة الحقيقية. وبوجود هذه المعطيات لن تستطيع العقبات تعطيل حلمها أو التأثير فيه.