إيزابيل الليندي.. "شهرزاد" أميركا اللاتينية
"أنت أسوأ صحافية على وجه الأرض".. كيف حوّل بابلو نيرودا إيزابيل الليندي إلى واحدة من أهم أدباء أميركا اللاتينية؟
لم تعلم الروائية التشيلية إيزابيل الليندي (2 آب/أغسطس 1942) أنَّ لقاءها الصحافي مع ابن بلدها الشاعر بابلو نيرودا سيشدُّها إلى عالم الأدب، ويدفعها إلى التنحي قدر الإمكان عن كونها "صحافية سيئة"، كما تشير في أكثر من حوار.
حينها، ذهبت إليه قبل وقوع الانقلاب العسكري في العام 1973 في بيته في إيسلا نيجرا، من أجل إجراء حوار معه. وبعد تناولهما الطعام وتجاذب أطراف الحديث، رفض صاحب "مائة سوناتة حب" طلبها قائلاً: "لا يمكن أن تجري معي حواراً. أنت أسوأ صحافية على وجه الأرض. تكذبين طوال الوقت. لا يمكنك أن تقولي الحقيقة. أنت تضعين نفسك دائماً وسط كل شيء. لا يمكنك أن تكوني موضوعية. أنا واثق بأنه إذا لم يكن لديّ ما أقوله فستختلقين قصة ما. لماذا لا تتجهين إلى كتابة الأدب، إذ تصبح تلك العيوب كلّها مميزات وفضائل؟".
ربما كانت هذه النصيحة، وهي في سنّ الواحدة والثلاثين، بمثابة دافع خفي لكتابة أولى رواياتها "بيت الأرواح" بعد 9 سنوات من ذلك التاريخ.
المفاجأة أن الليندي نجحت من خلال روايتها الأولى في إدراج اسمها بقوة ضمن تيار "الواقعية السحرية" الذي انتشر في النصف الثاني من القرن العشرين في أميركا اللاتينية، بعدما بدأه قبلها ماريو فارغاس يوسا، ثم أبدع فيه غابرييل غارسيا ماركيز، الذي تصفه الليندي بأنه "أستاذ الأساتذة"، وبأن روايته "مائة عام من العزلة" جعلتها ترغب في أن تكون كاتبة، لأن شخصياته يشبهون أفراد عائلتها، وصوته بدا سهلاً بالنسبة إليها.
حينها، قالت الليندي في نفسها: "هذا الرجل استطاع أن يفعل ذلك. لذا، أستطيع أنا أيضاً".
صحيح أنّ بذرة روايتها الأولى كانت رسالة إلى جدها المحتضر، لكنها فعَّلت سحر ذاكرتها حتى تدفقت الكلمات بما يزيد على 500 صفحة، أرسلتها على دفعتين إلى ناشرتها الإسبانية، لعدم امتلاكها المال الكافي، كما فعل قبلها صاحب "الحب في زمن الكوليرا" للسبب ذاته وللناشرة ذاتها.
هكذا، استطاعت أن تكتشف صوتها الخاص كروائية في الأربعين من عمرها، لتبدأ مهمتها الأصعب من خلال كتابة روايتها الثانية "الحب والظلال"، ولا سيما أن نجاح "بيت الأرواح" أحدث توقعات كبيرة لدى القراء والناشرين، لكنها هذه المرة تخلَّت عن "الواقعية السحرية"، ولجأت إلى قصة حقيقية عن جريمة سياسية ارتكبت في تشيلي، ونسجت حولها الأحداث.
سحر تلك الرواية استمر من خلال جذب ويليام غوردون، زوجها الثاني، إلى حياتها، فبعد قراءته لها، وقع في حبها. تقول الليندي: "جلبت هذه الرواية إلى حياتي أيضاً الوعي بمدى قوة الكلمة المكتوبة: كيف يمكننا الاستفادة من ذلك العالم الذي نتحدث عنه، ونكتشف أموراً كان من المستحيل أن نعرفها، إذا لم يكن لدينا ذلك الارتباط بمعرفة جماعية تأتي من خلال الكتابة؟".
"الكذب بالسرد من أجل الحقيقة" هو ما اتخذته الليندي نبراساً لها في كل ما تكتب، معارضةً بذلك وصف نيرودا لها بأنها لا تستطيع أن تقول الحقيقة، ومقتفية في الوقت عينه أثر ماركيز الذي تقول عن رواياته: "حكى لنا عمَّن نكون.. في صفحاته، رأينا أنفسنا كما في المرآة".
هكذا، ثبَّتت الليندي مكانتها الروائية بين الكبار، وصارت علامة فارقة في الأدب اللاتيني، معطيةً شيئاً من النظام لفوضى الحياة، عبر خيارات يُلهِمها إياها خيالها الروائي، ثم الكتابة عنها من وجهة نظرها، فتقول: "عندما تَقْبَل ككاتب بأن السرد المتخيل مجرد كذب، عندها تصبح حراً. يمكنك أن تفعل أي شيء، ثم تبدأ بالمشي في دوائر. كلما كبرت الدائرة، صارت الحقيقة أكبر، ثم يمكنك الحصول عليها. كلما اتسع الأفق، مشيت أكثر. كلما تباطأت أكثر عند كل شيء، كانت لديك فرصة أفضل لإيجاد أجزاء صغيرة من الحقيقة".
وفق هذا التصور، باتت الليندي تنسج حرير رواياتها مشابكةً بين خيوط العنف والجريمة والسياسة والحب والحياة، ومحتفيةً بالجانب الأكثر غموضاً للنفس البشرية، وهو ما فعلته في "إيفالونا" ومجموعتها القصصية الممتدة عنها "حكايات إيفالونا"، وأيضاً في "الخطة النهائية" التي جعلتها في خدمة حياة المهمَّشين في أميركا، إلى جانب كونها تمثيلاً جميلاً لطريق الإنسان نحو الإيمان والتصالح مع ماضيه.
الكتابة عند إيزابيل هي استكشاف، وفي الوقت ذاته ثورة ضد أمراض المجتمع والحياة، وخصوصاً الذكورية الفجّة التي تحدّ من حرية المرأة وتقيّدها بآلاف السلاسل. لذا، نرى الكاتبة التشيلية تُقارع الرِّجال من دون أن تكرههم، وتحتفي بالأنوثة مع تجميلها بالمعرفة، وتستثمر التزامها بـ"النسوية" التي شحذت أفكارها صحافيةً في بداية الطريق، كمكوّن رئيسي في أدبها، ومن أجل التمرد ضدَّ كل أشكال السُّلطة؛ ضدَّ والدها الذي هجر العائلة عندما كانت في الثالثة من عمرها، وضد جَدِّها وزوج أمها، وضدَّ الكنيسة والشرطة والحكومة، وضدَّ كل أنواع الرؤساء، وضدَّ كل شيء ذكوري كان يَحُدُّ من حريتها وحرية النساء.
ولعلَّ روايتها "أفروديت"، بما فيها من احتفاء بالجسد والطعام، ودراسة للتقاطعات الشهوانية في الحضارات الإنسانية، وإبحار في النصوص الإيروتيكية العالمية، هي إحدى الجبهات التي قادتها الليندي ضد مجتمعها الذكوري، مُبرِزةً تأثرها الشديد بقصص "ألف ليلة وليلة" التي قرأتها سرّاً في سن الرابعة عشرة ضمن مكتبة زوج أمّها. وعلى أثرها، وصفها نقّاد الأدب بـ"شهرزاد أميركا اللاتينية"، الأمر الذي يُشعرها بأكبر غبطة، كما تقول، فهي تروي الحب في مواجهة سيوف التسلُّط والجهل والموت، وهو ما فعلته في معظم أعمالها، ومنهم "ابنة الحظ" و"صور عتيقة"، وأيضاً في ثلاثيتها الروائية للأطفال "مدينة البهائم" و"مملكة التنين الذهبي" و"غابة الأقزام".
لكنّ أعظم رواياتها التصاقاً بها، كما عبرت في أكثر من حوار، هي رواية "باولا"، إذ كانت بمثابة حِدَادِها على ابنتها التي توفيت في سن الثامنة والعشرين. بدأت بذرتها برسالة إلى باولا، لعلَّها تقرأها عندما تستفيق من غيبوبتها إثر مرض "الفيرفيرين"، لكن دائرتها اتسعت لتشمل سيرة الليندي الذاتية، واضطرارها إلى ترك تشيلي إثر انقلاب في العام 1973 أودى بحياة الآلاف، ومنهم رئيس البلاد وابن عم أبيها سلفادور الليندي.
بعد "باولا"، استمرّت الروائية التشيلية بكتابة المذكّرات في كتابين هما "حصيلة الأيام" و"بلدي المخترع"، معتبرةً أن "كل قصة تمثِّل تمريناً للذاكرة"، سواء ذاكرتها الخاصة أو ذاكرة الآخرين، وكأنها في جلّ سردياتها تقف ضد النسيان، رغم اقتناعها بأن "الذاكرة غير موضوعية، ولا يمكن الاعتماد عليها"، لكنها جهدت لأن تغيِّر ذكرياتها السوداء والمؤلمة كي تستطيع العيش معها، وأحياناً سعت لتغييرها لأنها لا تستطيع الاتساق مع أفعالها الماضية.
تأكيداً على حفظ ذاكرتها وذكرياتها، فإن الليندي لا تزال تواظب على كتابة رسالة يومية إلى أمها، تخبرها فيها عن كلذ ما يحدث في حياتها. ورغم أنها أنهت اليوم التاسعة والسبعين من عمرها، فإنّها لا تخشى الموت، بل تخاف من عجز الشيخوخة إن أصابها، وهو ما تحدّثت عنه في روايتها "العاشق الياباني". وحتى الآن، ما زال في جعبتها الكثير من الحكايات التي تريد أن ترويها، محتفظةً منذ روايتها "بيت الأرواح" بتاريخ الثامن من كانون الثاني/يناير يوماً تبدأ فيه بكتابة جميع رواياتها. تدخل إلى غرفتها وتعتزل فيها مضيئةً شمعة، إذ تشعر بأنّ هناك حيزاً مظلماً في ذهنها وغرفتها. تعمل تلك الشمعة على إضاءة ذاك الحيز شيئاً فشيئاً، لتتوضح معالم القصة وشخوصها، فهي، كما تعتبر، ليست سوى وسيط أو آلة موسيقية لأصوات تتحدّث من خلالها.