إِيتيل عدنان: صانعة الجمال والحقيقة
اكتسبت ثروة ثقافية هائلة لتحدرها من أم مسيحية وأب مسلم، وكتبت شعراً عن حصار مخيم تل الزعتر.. من هي إيتيل عدنان؟
"يَبْدُو لِي أَنَّني أَكْتُبُ مَا أَرَاه، وَأَرْسُمُ مَا أَنَا عَلَيْه".
إيتيل عدنان
لأكثر من نصف قرن، زاولت إيتيل عدنان صنعة مزدوجة، كتابة الرواية والشعر والمقالات التي تناولت الحرب والتاريخ، ورسم اللوحات والمنسوجات والمنحوتات الخزفية التي تعكس حبها للطبيعة والكون. قالت ذات مرة: "يَبْدُو لِي أَنَّني أَكْتُبُ مَا أَرَاه، وَأَرْسُمُ مَا أَنَا عَلَيْه (...) لَيْسَ لِكِتَابَاتِي وَلَوْحَاتِي صِلَةٌ مُبَاشَرَةٍ بِذِهْنِي. لَكِنَّنِي مُتَأَكِّدَةٌ مَنْ تَأْثِيرِهِمَا عَلَى بَعْضِهِمَا الْبَعْضَ مِنْ حَيْثُ أَنَّ كُلَّ مَا نَقُومُ بِهِ يَتَعَلَّقُ بِمَا نَحْنُ عَلَيْهِ، وَالَّذِي يَتَضَمَّنُ كُلُّ مَا فَعَلْنَاهُ أَوْ نَقُومُ بِهِ".
إيتيل عدنان (1925 – 2021)، كاتبة، شاعرة ورسامة أميركية من أصل لبناني. نشأت في بيروت وأمضت عقوداً في خليج سان فرانسيسكو، واشتهرت في وقت متأخر من حياتها كفنانة. افتتح معرض لأعمالها الشهر الماضي في متحف گُوگُنهايم في مانهاتن، يعرض ما وصفته الناقدة الفنية في صحيفة "نيويورك تايمز" روبرتا سميث ب"تَجْرِيدَات إيتيل الْمُشِعَّةَ بِعِنَادٍ". صغيرة هي لوحاتها ولكنها مفعمة بالذكريات، بتمثيلات حية للشمس والبحر والجبل المطل على سان فرانسيسكو.
في مقابلة له مع صحيفة "وول ستريت جورنال" عام 2015، قال المدير الفني لمعارض "سرپنتين" في لندن هانز أولريش أوبريست عن إيتيل عدنان: "من النادر جدا أن يكون لديك شخص يقدم مثل هذه المساهمات المهمة في الشعر والفن (...) إنها واحدة من أكثر فناني القرن الــ 21 تأثيراً. أعمالها مضادة للاستخفاف. إنها أوكسجين نقي في عالم مليء بالحروب".
كانت إيتيل عدنان تبلغ من العمر 96 عاماً عندما توفيت في منزلها في باريس بسبب مرض في القلب، كما صرحت رفيقتها المقربة جداً سيمون فتال.
كتبت إيتيل عدنان باللغتين الفرنسية والإنجليزية، ونشرت أكثر من 20 كتاباً، بما في ذلك مجموعات شعرية، التي أشارت فيها إلى رامبو وتشي غيفارا والأميركيين الأصليين والسكان اليبوسيين للقدس القديمة وعازف الجاز تشارلز مينكوس.. تتضمن قصيدتها الطويلة "يوم القيامة العربي" (1980)، علامات ورموزاً غير مألوفة في مزيج من الفن والأدب، وتتألف من 59 مقطعاً، مقطع لكل يوم يحاصر فيه مخيم تل الزعتر للاجئين الفلسطينيين أثناء الحرب الأهلية اللبنانية.
اشتهرت إيتيل عدنان بكونها كاتبة "الست ماري روز" عام 1977، وهي واحدة من أروع الروايات عن الحرب الأهلية اللبنانية.
ربما اشتهرت إيتيل عدنان بكونها كاتبة "الست ماري روز Sitt Marie Rose" عام 1977، التي تعتبر واحدة من أروع الروايات عن الحرب اللبنانية. عاشت في بيروت في بداية الصراع وكتبت الرواية في غضون شهر واحد محموم، مستوحاة من تقارير الصحف عن تعذيب وإعدام ماري روز بولس، التي عملت مع لاجئين فلسطينيين وقتلتها مليشيات مسيحية يمينية. عالجت الرواية قصة اختطافها وموتها، وتناولت الصراع من منظور المدنيين بشكل عام والنساء بشكل خاص.
كتبت عدنان عن "بيروت المهانة"، متحدثة عن خسائر الحرب في مسقط رأسها، قائلة: "لقد عانت من الهزيمة. هي من خسرت. إنها ككلبة تضم ذيلها بين ساقيها. كانت طائشة لدرجة الجنون. جمعت العادات والتقاليد، العيوب والانتقام وشعور العالم كله بالذنب والفجور في بطنها. الآن تخلصت من كل شيء، وهذا القيء يملأ كل فضاءاتها".
تنقلت إيتيل عدنان بكل حرية بين الكتابة والرسم، وأنجزت كتيبات شبيهة بالأكورديون تعرف باسم "ليپوريلو" تمزج فيها بين شعرها ورسوماتها. قالت ذات مرة: "الشعر هو هدف الحياة، والرسم شعر يعبر عنه بصرياً". قدرت السرعة والعفوية في كلا الشكلين الفنيين، وعادة ما أنهت لوحاتها في جلسة واحدة، باستخدام سكين الرسم لوضع قليل من الصباغة على قماش صغير مستلق على مكتبها.
كما هو الأمر في رسم كلود موني لأكوام التبن أو كاتدرائية روان، عادت مراراً وتكراراً إلى مواضيع معينة، غيرت المنظور أو لوحة الألوان. أظهرت العديد من لوحاتها الشمس أو كوكباً غامضاً، يسطعان فوق شرائط من الألوان توحي بالمحيط والأفق. ركزت الكثير من أعمالها على جبل تاملپايس، الذي يمكن رؤيته من منزلها في سوساليتو. حتى بعد مغادرتها كاليفورنيا، واصلت رسم الجبل، مفتونة بشكله الهرمي وألوانه الخضراء العميقة.
في مقال لها عن أعمال إيتيل عدنان، كتبت سيمون فتال قائلة: "لقد أصبح الجبل هويتها. يمكنها أن ترسمه في لبنان، في الليل وفي الفجر. كان الجبل بالنسبة لها هو الغموض الذي يكشف عن أي وقت مضى، هو التجلي المستمر. أتساءل عما إذا كانت في ذلك الوقت قد أحبت شخصاً بقدر ما أحبت جبل تاملپايس".
تنقلت عدنان بين الكتابة والرسم، وأنجزت كتيبات شبيهة بالأكورديون تعرف باسم "ليپوريلو" تمزج فيها بين شعرها ورسوماتها.
كانت إيتيل عدنان تبلغ من العمر 87 عاماً عندما لاقت أعمالها استحساناً من الجمهور العريض لأول مرة في معرض "دوكيمونتا 13" للفن المعاصر. شاهدت المنسقة، كارولين كريستوڤ- باكارجييف، لوحاتها في معرض في بيروت ودعتها لعرض بعض أعمالها في نسخة 2012 من دوكيمونتا، والتي تقام كل 5 سنوات في كاسل في ألمانيا.
بعد ذلك بعامين، ظهر فن إيتيل عدنان في بينالي ويتني، وفي عرض في المتحف الجديد في نيويورك. كان الاعتراف ممتعاً، على الرغم من أن إيتيل عدنان قالت "إنه لم يكن ضرورياً.. فلطالما كان لدي القليل من الأشخاص الذين أحبوا ما أنجزته، وكان ذلك كافياً".
ولدت إيتيل عدنان في بيروت من أب سوري مسلم، كان قائداً للقوات العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وأم رومية أرثوذكسية. نشأت ابنتهما الوحيدة وهي تتحدث اليونانية والتركية في المنزل، والعربية في الشارع والفرنسية في المدارس الكاثوليكية.
''كانت والدتي"،تقول إيتيل عدنان، "يونانية من سميرنا (الآن إزمير). نشأت وأنا أتحدث اليونانية، تحدثت العربية في الشارع وتعلمت الفرنسية التي كانت إلزامية في المدرسة التي تديرها الراهبات. كان والدي سورياً مسلماً، وكان يتحدث التركية مع والدتي. لقد فقدت هوية بسيطة وواضحة ولكنني اكتسبت ثروة ثقافية هائلة من خلال وجود ديانتين وثلاث لغات في المنزل".
زاولت عدنان أعمالاً صغيرة وحصلت على منح دراسية لدفع تكاليف المدرسة الليلية وأذهلت والدتها عندما أعلنت أنها تريد أن تصبح مهندسة معمارية.
"أتريدين وظيفة رجل.. عار عليك!"، ردت عليها أمها. و"في سن 16، تم إخراجي من المدرسة بحجة أنني لست بحاجة إلى مزيد من التعليم لكوني فتاة".
اتجهت إيتيل عدنان في النهاية إلى الفلسفة، حيث درست في السوربون، ثم في جامعة كاليفورنيا في بيركلي وجامعة هارفارد. أصبحت أستاذة للفلسفة في عام 1958 في كلية الدومينيكان (هي جامعة الآن) في سان رافائيل في كاليفورنيا، وبدأت الرسم في العام التالي. اقترحت عليها إحدى زميلاتها في قسم الفنون أنها إذا كانت ستقدم درساً حول فلسفة الفن، فعليها أن تبدأ في صنعها بنفسها.
"أعطتني أقلام تلوين وأوراق، وبدأت في إنجاز بعض الأعمال، ثم قالت إنني لست بحاجة إلى أي تدريب، وأنني رسامة. لذا واصلت العمل،" صرحت إيتيل عدنان لمجلة "باريس ريڤيو".
تقول إيتيل عدنان: ''كانت والدتي يونانية من إزمير. نشأت وأنا أتحدث اليونانية. تحدثت العربية في الشارع وتعلمت الفرنسية التي كانت إلزامية في المدرسة التي تديرها الراهبات. كان والدي سورياً مسلماً، وكان يتحدث التركية مع والدتي. لقد فقدت هوية بسيطة وواضحة ولكنني اكتسبت ثروة ثقافية هائلة من خلال وجود ديانتين وثلاث لغات في المنزل".
عادت عدنان إلى بيروت عام 1972 حيث عملت كمحررة ثقافية وكاتبة مقالات افتتاحية في صحيفة ناطقة بالفرنسية. كما التقت بسيمون فتال، وهي فنانة وناشرة سورية المولد. وانتقلتا إلى سوساليتو في وقت لاحق من ذلك العقد واستقرتا في باريس في العام 2012 - ومع ذلك، نظراً لتحركاتها المتكررة، قالت عدنان إنها لم تشعر أبداً بالراحة تجاه كلمة "استقرار" وكانت تشعر براحة أكبر في عملها مما كانت عليه في مدينة معينة. كتبت قائلة: "الكتب التي أكتبها هي منازل أبنيها لنفسي".
من بين أعمالها الأخيرة، " ليل"، وهي مجموعة شعرية شذرية (2016)، وصفها الناقد في صحيفة "نيويورك تايمز" بنيامين هولاندر، قائلاً: "إنها تسلسل متشابك من التأملات حول الألم والجمال"، وديوانها " وقت" (2019) الذي ترجمته سارة ريگز من الفرنسية إلى الإنجليزية وحاز على "جائزة غريفين للشعر" لعام 2020 في كندا.
في إحدى مقابلاتها الأخيرة، قدمت إيتيل عدنان نصيحة للمبدعين الناشئين، قائلة لصحيفة "التايمز": "كونك فناناً يعني أنك ستكون دائماً غير آمن قليلاً وغير متأكد إلى حد ما، لأنك لا تعرف إلى أين أنت ذاهب في كثير من الأحيان. فكل عمل إبداعي، هو عمل جديد"، مضيفة "قد تكون هناك ملاحظات، وهناك لحظات يمنحك فيها الناس الطمأنينة، لكنك لن تحصل على ذلك دائماً. وهذا ينطبق على الحياة بشكل عام. يثير الناس ضجة كبيرة للغاية حول صعوبات كونهم فنانين، كما لو أن إنسانية فنان ما تختلف عن إنسانية شخص آخر، وكأننا مخلوقات من نوع مختلف. ليس الأمر كذلك. إننا لسنا كذلك. استمروا، واصلوا العمل".
* ترجمة عبد النور زياني بتصرف عن مقال لهاريسون سميث في صحيفة "واشنطن بوست".