"أين ذهب الأمس؟".. عن جمال الغيطاني وسؤال الألف عام
استمد معظم أعماله من وقائع تاريخية، وظل حتى مماته يبحث عن إجابة لسؤال الطفولة: "أين ذهب الأمس؟". تعالوا نتعرف إلى جمال الغيطاني في ذكرى رحيله.
كان عمره 10 سنوات حين جلس بجوار والده يحدق في أفق القاهرة الواسع. التفت فجأة إلى والده متسائلاً: "امبارح راح فين؟". ورغم أنّ الأب اعتاد أن يردّ على كل ما يستفسر عنه الابن، فإنه عجز عن إجابته عن سؤاله، ومن ثم وقف متطلعاً إليه في صمت، بينما ظلّ الطفل يبحث عن إجابة، متذكراً نظرة عيني والده المثقلتين بشقاء وكدّ عظيمين.
هذا الطفل هو جمال أحمد الغيطاني الذي كان حديث العهد في القاهرة. ربما كان سؤاله حينها بحثاً عن أيامه التي قضاها في "جهينة"، أحد مراكز محافظة سوهاج في جنوب مصر، قبل أن يأتي مع أسرته إلى العاصمة المصرية، ليقيموا على سطح أحد البيوت في عطفة باجنيد في درب الطبلاوي المتفرع من "قصر الشوق".
ولد الغيطاني في 9 أيار/مايو 1945. ورغم انتقاله إلى القاهرة في سن صغيرة، ظل الصعيد يهيمن عليه، وبقي يشكل الخلفية المستمرة لوعيه، فهو يقول في مقال نشره في "مجلة الهلال" في حزيران/يونيو 2005: "ثمة يقين خفيّ بأن المكان الذي يشهد وفادتنا يهيمن علينا ويؤثر فينا بشكل ما"، علماً أن والديه كان لهما دور كبير في ذلك، إذ حافظا على لهجتهما الجنوبية، وانشغلا دائماً بأخبار البلدة، "من جاء ومن رحل، ومن مات ومن ولد".
ظل الصعيد يهيمن على جمال الغيطاني وبقي يشكّل الخلفية المستمرة لوعيه.
عاش والد الغيطاني يتيماً وفقيراً، لكنه كان بوابته إلى عالم القراءة التي كان شغوفاً بها ومتعجلاً عليها، حتى إنه عرفها قبل دخوله إلى المدرسة، فقد كان والده "يفك" الخط ويقرأ بصعوبة، لكنه حرص على شراء جريدة "المصري" صباح كل جمعة. كان يمسكها بيديه، ثم يبدأ القراءة المتأنية، مشيراً إلى الحروف بإصبعه، حتى حفظ طفله جمال شكل الحرف قبل أن يتعرف إليه في المدرسة.
وكان لوالدته الصعيدية البسيطة دور في تنمية ذائقته الفنية، من خلال سماعه أغنيات كان تدندنها، وكانت تفيض بالحنين والشجن إلى قريتهم "جهينة"، وإصغائها إلى حكاياته بعد عودته من المدرسة الابتدائية، عن "ممرات سرية في المبنى، وتحت الأرض، وتماثيل تتكلم وبيت مهجور فيه غولة". لذلك، اعتبر إصغاءها إلى أكاذيبه البيضاء أول منشّط لخياله وأول مشجع له.
اشترى "البؤساء" يوم العيد
لا يذكر الغيطاني يوماً محدداً بدأ القراءة فيه، لكنه يحكي عن أول مرة اقتنى فيها كتاباً بالقول إنه كان أول أيام العيد. بعد أن أدى الصلاة في "مسجد الحسين"، مرّ ببائع صحف يعرض مجلات وكتباً جديدة، فلمح رواية "البؤساء" لفيكتور هوغو بترجمة بيروتية صادرة في سلسلة بعنوان "روايات اليوم". تحسس في جيبه 5 قروش - كانت عيديته - واشتراها ومضى إلى البيت فرحاً، كأنه كان يحتاج إلى يوم عيد حتى يقرنه بشرائه أول كتاب.
بدأ قراءاته الأولى من مكتبة المدرسة "مدرسة عبد الرحمن كتخدا" الابتدائية، ثم "مدرسة الحسين" الإعدادية، لكن تبقى معرفته ببائع الكتب المستعملة "الشيخ تهامي"، والذي كان يتخذ مقره فوق الرصيف المجاور لباب "جامع الأزهر"، بمثابة نقلة كبرى في مسار قراءاته.
من خلال هذا الرجل، قرأ شارلوك هولمز ومغامرات روكامبول ومغامرات جونسون وطرزان. كما قرأ عدداً هائلاً من الروايات عن الثورة الفرنسية، وكذلك روايات جرجي زيدان، التي فتحت له آفاقاً على التاريخ، فبدأ بحثه عن كتب مثل "تاريخ مكة" للأزرقي، و"تاريخ ابن كثير"، و"حياة محمد" لمحمد حسين هيكل وغيرهم.
بقي الغيطاني يحاول الإجابة عن سؤال وحيد: "أين ذهب الأمس؟".
في بداية عامه الـ13، عرف جمال الغيطاني الطريق إلى "دار الكتب والوثائق"، ثم بمساعدة أحد أقاربه الذي كان يعمل في مخازن الدار، استخرج بطاقة استعارة بضمان والده. أصبحت قراءاته في تلك المرحلة أكثر انتظاماً. كما أصبح قادراً على الاطلاع على مصادر التاريخ المصري والأعمال الأدبية التي لا يمكنه الحصول عليها. وعن تلك المرحلة، يقول متذكراً: "أصبحت قراءاتي أكثر انتظاماً، بل يمكن القول إنها بدأت تخضع لبرنامج كان في البداية يخضع للتداعي".
ويضيف: "يمكن القول إنني حتى منتصف الستينيات اطلعت على أهم مصادر التاريخ المصري، بدءاً من أخبار مصر والمغرب لابن عبد الحكم، وحتى عجائب الآثار في التراجم والأخبار للجبرتي، مروراً بالمقريزي وابن تغرى بردي وابن حجر العسقلاني والسخاوي وابن واصل وغيرهم". كان الغيطاني طوال ذلك الوقت يحاول الإجابة عن سؤال وحيد: "أين ذهب الأمس؟".
"نهاية السكير" وبداية النشر
ظل الغيطاني يكتب القصص القصيرة حتى العام 1961، عندما أحس بحاجة إلى جمعها في كتب، ومن ثم أعد أول مجموعة قصصية، اختار لها اسم "المساكين"، تأثراً وتيمناً برواية "المساكين" لدوستويفسكي، ثم قدمها لإدارة التأليف في "المؤسسة المصرية للتأليف والنشر". هناك، ملأ استمارة صغيرة ذكر فيها اسمه كاملاً وعنوانه وتاريخ ميلاده.
بعد أسابيع، جاءه إلى البيت رد مكتوب يدعوه إلى الحضور لمقابلة السيدة الفاحصة شفيقة جبر. وهناك أشادت جبر بكتابته وموهبته، لكنها قالت إن ثمة أخطاء لغوية بسيطة. وبعد تصحيحها، يذهب الكتاب إلى المطبعة. واقترحت عليه الحضور إلى بيتها، لأن أكبر أبنائها يكتب القصة أيضاً، ويمكنه أن يتعرف إليه أثناء تصحيح الأخطاء، وكتبت له العنوان: "منزل الأستاذ عبد الرحمن الخميسي".
هذه السيدة كانت زوجة الكاتب والشاعر عبد الرحمن الخميسي. لم تكن دعوتها له إلا حيلة، بعدما استشعرت موهبة في المجموعة المقدمة. وقد رأت أن رفضها المجموعة ربما كان سيدفع صاحبها إلى التوقف عن الكتابة، ولا سيما بعدما قرأت تاريخ مولده. لذلك، فكرت في تلك الحيلة.
في بيت السيدة شفيقة، جمعت الغيطاني بابنها أحمد علاقة صداقة امتدت لسنوات، عملا خلالها على التعلم وتصحيح الأخطاء اللغوية، حتى خرجت مجموعته الأولى في العام 1969 بعنوان "أوراق شاب عاش منذ ألف عام"، ولم يكن لها أي علاقة بمجموعته الأولى "المساكين".
كتب الغيطاني بعدها عدداً من المجموعات القصصية، مثل "أرض" و"الحصار من ثلاث جهات" وغيرهما، لكن ظل والداه صاحبَي الفضل في منجزه القصصي، فلما حكى له والده عن حادثة تدور حول رجل سكّير ضبط في منطقة الجمالية، شعر برغبة في كتابتها، فكانت "نهاية السكير" أول قصة يكتبها، وبالطبع لم تنشر. كذلك، أعطته والدته عندما كان يبلغ من العمر 15 عاماً نصف جنيه من مصروف البيت الشحيح، ليشتري كتاباً قرأ عنه في الصحف اسمه "فن القصة القصيرة" لرشاد رشدي.
لماذا تمنى الغيطاني إنشاء جماعة سرية من "اللصوص"؟
في طفولته، لم يقرأ الغيطاني لمشاهير عصره، أمثال يوسف السباعي ومحمد عبد الحليم عبد الله وغيرهما، حتى إنه لم يقرأ ليوسف إدريس إلا مجموعات محدودة، مثل "أرخص ليالي" و"النداهة" ورواية "البيضاء". وقد ساعده ذلك على أن ينجو من تأثيرهم الطاغي الذي أدرك معظم أدباء جيله.
كذلك، ورغم صداقته لنجيب محفوظ، وكتابتهما لعالم روائي واحد، قوامه القاهرة، فإنّ أحداً لم يذكر تأثره بأعماله، بل كان له عالم روائي مستمد من التاريخ القديم، وأسلوب كوّنه من الأشكال السردية التاريخية، وإن كان يقول إن لجوءه إلى الأساليب القديمة "لم يكن نتيجة إحساس قوي بالزمن ومعايشة طويلة لمصادر التاريخ وقلق فني، إنما كان أيضاً وسيلة للمراوغة".
في طفولته، كان يفضّل قراءة الروايات المترجمة. ولعلها كانت السبب في تشكيل وعيه الاشتراكي، فهو يحكي في مقاله "هكذا كتبت أول قصة قصيرة" المنشور بمجلة "الهلال"، أن انبهاره بـ"أرسين لوبين"، هذا اللصّ الشريف الذي كان يسرق من الأغنياء ويعطي الفقراء، حتى إنه رسم ملامح شخصيته في خياله، ومشى في الشوارع باحثاً عنه، جعله يحلم بـــ "إنشاء جماعة سرية تسرق من الأغنياء وترسل المساعدات إلى الفقراء، تماماً مثل أرسين لوبين".
حلم الغيطاني بإنشاء جماعة سرية تسرق من الأغنياء وترسل المساعدات إلى الفقراء، تماماً كما فعل أرسين لوبين.
توجهه السياسي كان سبباً في اعتقاله في تشرين الأول/أكتوبر 1966. ورغم سيادة الفكر الاشتراكي في العهد الناصري، فإنه يرى أن خلافه مع عبد الناصر كان على التفاصيل، وليس على المبادئ، إذ يقول في حوار له نشر في مجلة "الحياة الثقافية" في العام 1990، "كان عبد الناصر يطبق نوعاً من الاشتراكية، ونحن كاشتراكيين علميين كنا نرى أن من المفيد أن نمضي في خطوات أوسع إلى الاشتراكية الحقيقية".
أطلق سراح الغيطاني في آذار/مارس 1967، بعدما خسر 6 أشهر من عمره في السجون، وروايتين لم يكن قد نشرهما بعد، وأيضاً جزءاً من كتاب الكامل لابن المبرد، استولى ضابط المباحث الذي اعتقله على الجزء الأول، منه وترك له الثاني، مع كمية كبيرة من الكتب، وهذا ما لم ينسَه، وظل يذكره بمرارة شديدة.
هزيمة حزيران/يونيو والطريق إلى "الزيني بركات"
بعد خروجه من المعتقل بشهور، وقعت هزيمة حزيران/يونيو 1967، فكانت الحد الذي قطع انطلاقة الأحلام. حينها، هرب الغيطاني إلى التاريخ، فوجد فيه الواقع متجسداً في هزيمة الجيش المملوكي في شمال حلب في العام 1517. وقد بدت عناصر التماثل متشابهة إلى حد الإدهاش، ليس فقط في حجم الهزيمة التي لحقت بالجيش المملوكي، بل في الظروف المؤدية إلى تلك الهزيمة أيضاً.
تخيل الغيطاني أنه عثر على مخطوط قديم في أحد مساجد الجمالية، عبارة عن شذرات من مذكرات آمر سجن المقشرة في العصر المملوكي، وكتب قصته بأسلوب يحاكي أساليب السرد القديمة في العصر المملوكي، حتى إنه عندما قدمها للنشر في جريدة "المساء"، أجازها الرقيب على أنها مخطوطة قديمة فعلاً.
كتب مجموعة أخرى من القصص، منها "المغول" و"هداية أهل الورى لبعض مما جرى في المقشرة" و"اتحاف الزمان بحكاية جلبى السلطان"، ليكتشف بعد ذلك أن القصص القصيرة غالباً ما تكون تمهيداً لعمل روائي كبير، ومن ثم كانت تلك القصص بمثابة خطوات مؤدية إلى روايته "الزيني بركات".
لم تكن رواية "الزيني بركات " سوى انعكاس تاريخي لفترة الستينيات.
وجد الغيطاني شخصية الزيني بركات في "بدائع الزهور في وقائع الدهور"، وهو الشخصية الانتهازية التي تلاقت مع شخصية أخرى في الواقع، والتي تمارس قدراً كبيراً من الانتهازية، لكنها انتهازية من نوع عصري توافق مع مجتمع الستينيات، ثم بدأ بتدوين ملحوظاته حول الشخصية في كشكول ضخم خصصه للعمل الروائي، وبدأ بشكل تقليدي يدور حول شخصية انتهازية من العصر المملوكي، لكنه فوجئ أثناء الكتابة بتغير الموضوع، بأن أصبح الزيني بركات غائباً حاضراً، فلم تعد رواية شخصية، إنّما "أصبحت عن عالم البصاصين، عن وسائل قهر الإنسان، وكيف يُوظَّف جهاز قمعي هائل لتغيير إنسان، لتحويله من إنسان نقي، ثوري، إلى عميل يأتمر بأمر هذا الجهاز".
لم تكن رواية الغيطاني سوى انعكاس تاريخي لفترة الستينيات، بما شهدته من قمع واعتقالات وهزائم، فهو يقول إن من قرأ التاريخ المملوكي يعرف أن "لا وجود لمنصب كبير البصاصين الذي تخيلته، ولا لهذا التنظيم الحديدي القمعي. هذا الجهاز من عصرنا".
استمد جمال الغيطاني أغلب أعماله الروائية من وقائع جرت في عصور قديمة، ولم تكن التفاتته إلى الماضي سوى بحث عن إجابة عن سؤال الطفولة. ورغم حصوله على عدد من الجوائز المصرية والعربية، وحتى وفاته في 18 تشرين الأول/أكتوبر 2015، إثر وعكة صحية أدخلته في غيبوبة لأكثر من 3 أشهر، قضاها في "مستشفى الجلاء العسكري" في القاهرة، لم يصل إلى إجابة بعينها. مات وبقي سؤاله: أين ذهب الأمس؟