ألبير كامو باللهجة المصرية.. خيانة للإبداع؟
بعد الدارجة التونسية، تبصر رواية "الغريب" لألبير كامو النور باللهجة المصرية. لماذا ننقل الروائع العالمية إلى العامية؟ وهل يعتبر ذلك خيانة للنص الأصلي؟
أعلن المترجم المصري هكتور فهمي عن ترجمة الرائعة الأدبية العالمية "الغريب" للفرنسي ألبير كامو إلى العامية المصرية، أو "اللغة المصرية" كما يسمّيها. منذ ذلك الحين قامت الدنيا، وربما لن تقعد في القريب. على أية حال، هذه ليست المرة الأولى التي يتحوّل فيها عمل أدبي إلى العامية. فالرواية نفسها التي صدرت اليوم عن "دار هن للترجمة و النشر"، صدرت العام الماضي بالدارجة التونسية، ونقلها عن الفرنسية حينها ضياء بوسالمي. الأمر أثار الضجّة نفسها المثارة اليوم. لماذا؟
البير كامو إلى العامية وبداية الأزمة
أسماء عدّة لم ترَ في الأمر جديداً يقلق، وآخرون رأوا في الأمر انتهاكاً لغوياً وأدبياً، بينما يرى صاحب الترجمة/الأزمة، أن الأزمة تكمن في ما أسماه "الازدواج اللغوي"، إذ "لا يوجد مصري يتحدّث العربية الفصحى الخالصة، أي أن هناك لغتين، أولاهما عربية فصحى خالصة يعرفها أهل شبه الجزيرة، وأخرى لغة مصرية يختلط فيها العربي الخالص بالهيروغليفي والروماني، وليست لغة ولهجة كما يصوّرهما البعض".
وقال فهمي إن "الطفل الصغير يتحدّث "المصرية" بالفطرة، بينما يتعلّم العربية، في حين لا يجد الطفل الفرنسي في المدرسة شيئاً جديداً يخصّ اللغة التي يتحدّث بها مع والديه في المنزل".
وأشار فهمي في تصريحات خاصة لـ "الميادين الثقافية" إلى أن الأزمة ليست في (اللغة المصرية) في ذاتها وإنما في قدرتنا على توظيفها بشكل لائق، متعجّباً من أن تكون اللغة العربية الفصحى هي اللغة الرسمية في مصر؛ رغم ما حقّقته (اللغة المصرية) من حضور قوي ونفوذ ثقافي لمصر من خلال المسلسلات والأفلام وشعر العامية المصرية وغير ذلك.
ولفت فهمي، المقيم في فرنسا، إلى أن اللغة المصرية ليست مجرّد لهجة، بل لغة لها ملامحها الجمالية التي تختلف عن العربية الفصحى، موضحاً أن الكثير من لغات العالم قامت بالأساس على ما نطلق عليه اليوم لهجات، مستدلاً بـ"الكوميديا الإلهية" لدانتي والتي تعدّ اليوم المرجع الأساس للغة الإيطالية في شكلها الحالي، لمجرّد أن الإيطاليين (قرّروا) ذلك، وكذلك فإن الفرنسية اليوم هي خليط بين اللاتيني والفرانكي والغالي.
فهمي: الأزمة ليست في (اللغة المصرية) في ذاتها وإنما في قدرتنا على توظيفها بشكل لائق
ودلّل مترجم "الأمير الصغير" (إلى اللغة المصرية أيضاً) على رؤيته بأن هناك خلطاً كبيراً يخصّ علاقة اللغة بفكرة التفاهم، فبينما يستطيع سكان الدول الإسكندنافية فَهْم بعضهم البعض حتى وإن كان الشخص الأول فنلندياً والآخر يتحدّث السويدية أو الدنماركية؛ فإنه قد يكون الرجلان صينيين وكلاهما يتحدّث الصينية بلهجة لا يعرفها الآخر، فالأصل في اللغة هو تحقيق التفاهم.
واختتم هكتور فهمي حديثه بأن العامية لا ينقصها سوى جيش وقرار سياسي حتى تتحوّل إلى لغة رسمية، وهو ما خالفه الناشر محمد البعلي الذي يرى أن هناك فروقاً جوهرية بين العامية والفصحى وأن عدم الفصل بينهما بشكل قاطع يرجع إلى عدم وجود سلطة نهائية (دينية أو سياسية أو ثقافية) تحدّد الأمر، وبالتالي فقد ارتضت اثنتاهما بحياتين متجاورتين لكنهما كمستقلّتين.
البعلي: الترجمة إلى العامية لا تحتاج إلى مبرّر
يشدّد البعلي على أن الترجمة إلى العامية المصرية أمر لا يحتاج إلى مبرّر، وأن المعركة بالأساس غير موجودة، وإن كانت موجودة فإنها في الموضع الخطأ، مشيراً إلى أنه يرى أن العامية تتطوّر بسرعة أكبر كثيراً من تطوّر الفصحى من حيث الاستجابة للمستجدات وللاستخدام اليومي وقال: "أنا حين أقول لك (أنا هافرودلك الإيميل) فإنك بالتأكيد ستفهمني، بينما الفصحى ليست على نفس الدرجة من التطوّر".
واستنكر البعلي أن تكون العامية معرقلة لنقل الشحنة الإبداعية التي تكون في العمل الأدبي بلغته الأصلية، مستدلاً على ذلك بأن نقاش المثقّفين أنفسهم - الذين يترجمون بالفصحى- يدور بالعامية، حتى وإن كان النقاش عن موضوعات مركّبة كنظرية فرويد أو فيزياء الكمّ أو فلسفة هايدجر.
واكتفى صاحب "دار صفصافة للنشر والترجمة" بأن يحصر أزمة الترجمة إلى العامية بما يخصّ تضييق اتّساع رقعة التوزيع والحضور، على عكس ما تحقّقه الفصحى من انتشار على مستوى الوطن العربي بالكامل، إضافة إلى العرب الموجودين في مناطق متفرّقة من العالم.
البعلي: العامية تتطوّر بسرعة أكبر كثيراً من تطوّر الفصحى من حيث الاستجابة للمستجدات والاستخدام اليومي.
وعدّد محمّد البعلي مستويات الفصحى ذاتها، مشيراً إلى أن صدور كتاب "أبي العلاء المعري" في ما يشبه الترجمة إلى العربية، ليتساءل: أين الفصحى التي كان يتحدّث بها المعري ويدوّن بها؟
فرغلي: خيانة للغة وللترجمة معاً.. وترجمة أبي العلاء سخيفة
سألنا الروائي المصري إبراهيم فرغلي: "هل الترجمة إلى العامية تقلّل من قيمة العمل الأدبي؟" فكانت إجابته قاطعة: "نعم، بلا شك".
وتوقّف فرغلي عند النصّ ذاته الذي أشار إليه البعلي وهو نصّ أبي العلاء المعري؛ واصفاً ترجمته بأنها نموذج حيّ لخيانة المترجم للنصّ الأصلي، بما فيها محاولة ترجمة أبيات شعرية فصيحة في نصّ المعري إلى أبيات عامية مصرية شديدة السذاجة، وتضمّنت في تقديره تسخيفاً للنصّ وإهانة له وحذفاً لا مبرّر له، معرّفاً الخيانة بأنها تقديم المترجم رؤيته أو تفسيره الشخصي للعمل، وليس منطق النصّ الأصلي أو مؤلّفه، مختتماً بأن "ترجمات كهذه لا توصف فقط بالخيانة بل بالإساءة للأدب واللغة".
فرغلي يرفض ما ذهب إليه البعلي، حيث يرى أن الأدب بشكل عام يقوم أساساً على اللغة، وليس على الفكرة السردية أو المضمون، واللغة جزء أساسي مما يمنح النصّ الأدبي هويّته السردية والأدبية، بمعنى أن النصّ الأدبي نفسه يمكن أن يتضمّن مستويات سردية مختلفة وبالتالي مستويات لغوية، قد تكون من بينها العامية بالمناسبة، بما يجعل اللغة جزءاً من الرؤية والهوية الأدبية.
ويعتقد صاحب رواية "قارئة القطار" أن العامية لا تمتلك الأفق اللازم لنقل مستويات لغة مختلفة، ولا الأفكار المجرّدة، أو العلوم، ولأسباب عديدة لها علاقة بأن الذهنية الشفاهية القائم عليها التواصل باللهجة كيفما اتّفق، تختلف تماماً عن التدوين القائم على بناء لغوي يهتمّ جداً بترتيب الكلمات وتعدّد المفردات تجنّباً للتكرار، والبحث عن الحمولة الدلالية لكل مفردة.
ومن هذا المنطق أيضاً، يشعر إبراهيم فرغلي أن هناك عيباً ما في المحكيات له علاقة بالمحدودية اللغوية والتعبيرية مقارنة بلغة تاريخية ومدروسة ولها قواعد ومنضبطة، بمعنى أنها تنقّلت بين بيئات عديدة وتخصّبت بالتجويد والبحث والضبط.
ولفت فرغلي إلى أن العامية في الحوارات بالنسبة له عموماً مقبولة، ولو على مضض. وبالتالي مقبولة في الترجمة أيضاً، لكن المشكلة هي المَتْن السردي نفسه.
ويوضح أن اللغة العربية لغة تاريخية؛ بمعنى أنها تمثّل إرثاً ثقافياً وذاكرتنا الثقافية والأدبية، ولا تزال تحتاج إلى جهود في التطوير وبحث وسائل تعليمها بشكل جيّد وإبعاد كافة المدرّسين معدومي الكفاءة من منظومة التعليم أو إعادة تأهيلهم، وتطوير المحتوى البصري والمرئي على الإنترنت، والبحث عن سبل التبسيط، لأنها تتضمّن كل العوامل التي تضمن لها ذلك، وليس البحث عن حلول سهلة مثل النقل للهجات العامية والمحكيات.
فرغلي: العامية لا تمتلك الأفق اللازم لنقل مستويات لغة مختلفة، ولا الأفكار المجرّدة، أو العلوم، ولأسباب عديدة لها علاقة بأن الذهنية الشفاهية القائم عليها التواصل باللهجة كيفما اتّفق، وهي تختلف تماماً عن التدوين القائم على بناء لغوي يهتمّ جداً بترتيب الكلمات وتعدّد المفردات تجنّباً للتكرار، والبحث عن الحمولة الدلالية لكل مفردة.
أما عن ترجمة هكتور فهمي لرواية "الغريب" والتي أثارت النقاش مجدّداً، فيرى فرغلي أن هناك تراثاً ثقافياً للمحكيات يرتبط بالشعر أكثر، وبالحكايات الشفهية ربما، والفلكلور، لكنه قائم على الاختزال والتكثيف لأنه يلائم محدودية المرادفات، لكن مرجعيّته الرئيسة أصلها كلها العربية الفصحى، هذا إذا افترضنا حُسن النيّة وتجنّب التفكير في أسباب إيديولوجية للالتفات للعامية كبديل للفصحى.
وختم فرغلي حديثه مع "الميادين الثقافية" قائلاً: "بشكل عام أنا أنظر للأدب أو النصّ الأدبي كمنظومة جمالية رمزية، وليس كمرآة تنقل الواقع كما هو، وهذا التصوّر يقف حائلاً بيني وبين تقبّل العامية أساساً ربما حتى في الحوارات. ولهذا أعتقد أن نجيب محفوظ كان على وعي تام بهذه المسألة، وقد وسِمَ طويلاً بالواقعية رغم أنه في الحقيقة كان يقدّم الواقع مفنّناً، ولا ينقله مباشرة كما هو. ولهذا نجح في خلق مستوى الفصحى المبسّطة التي قدّم بها الشخصيات العامة تتحدّث بلغة الفن ولكنها تعكس واقعها. والفن في تقديري يحتاج إلى هذا الجهد على الأقل، ولهذا أيضاً أعتقد أن الكلاسيكيات تعيش طويلاً لأنها تمتلك هذا الوعي".
التلمساني: أبي ترجم إلى العامية.. والفارق يكمن في وعي المترجم
أما الأدبية المصرية الكندية مي التلمساني فاهتمّت بالتفريق بين شكلين للغة: لغة شعرية أكثر تعقيداً في الترجمة وأحياناً تثقلها، وأخرى محايدة أو تقريرية، وهي التي تفضّلها بالفعل، سواء في الكتابة أو في الترجمة.
وقالت الأكاديمية الحاصلة على وسام الفنون والآداب الفرنسي برتبة فارس، إن تجربة ترجمة أعمالها إلى اللغات الأجنبية لم يكن فيها مثل تلك الأزمات، حيث لا فروق جوهرية بين الفصحى والعامية في اللغات الأجنبية، لأن الإشكالية بهذا المعنى ليست مطروحة في اللغات الأخرى من الأساس.
وأشارت التلمساني إلى أن التجربة الأولى في المسألة ترتبط بوالدها عبد القادر التلمساني الذي ترجم مسرح أوجين يونسكو (1909 - 1994) إلى العامية المصرية في خمسينيات القرن الماضي، وقدّم مسرحياته تقريباً في نفس توقيت عرضها في باريس على مسرح الجيب، لافتة إلى أن العامية هنا كانت اختياراً واعياً.
ووصلت أفكار يونسكو بشكل سلس يحترم بقدر كبير لغة الأصل الفرنسي المختصرة، مع إحداث الصدمة في الوقت نفسه، والتي نشرت المسرحيات نشرت في ما بعد في مجلة المسرح في سنة 1990.
وكذلك ترجم التلمساني "نيكراسوف" لجان بول سارتر أيضاً، وهنا اختار اللغة الفصحى مع مفردات عامية في بعض مقاطع الحوار، أي أن الاختيار في النهاية حق مكفول للمترجم وحده على أن يتحمّل تبعات الاختيار.
نور: أهمية النقاش تكمن في قيمة التساؤل ذاتها
أما الكاتبة المصرية سمر نور فترى أن "العامية لا تقلّل من قيمة العمل بشرط أن يكون الكاتب مدركاً أن للعامية مستويات مختلفة، مع الاحتفاظ بحق المترجم في حرية اختيار المستويات اللغوية المناسبة للنصّ داخل اللغة أو لهجات اللغة المنقول عنها".
لكن نور تؤكّد في الوقت ذاته على ضرورة اتّساق لغة الترجمة مع مستوى اللغة التي اختارها الكاتب في اللغة الأصلية، وإلا صار الأمر أشبه بكتب تبسيط العلوم، فبالتأكيد أن اللغة ليست مجرّد وعاء، حيث أنها من أدوات الكاتب وجزء من رؤيته لعالم النصّ وتركيبة شخوصه، وبالتالي فإذا كان هناك نصوص لم يختر كاتبها الأصلي التعامل مع لغة دارجة، فلماذا تصلني مترجمة بلغة دارجة، حتى لو بمستوى أعلى!
ولفتت الأديبة المصرية التي تشارك هذا العام في معرض القاهرة الدولي للكتاب بـ"تماثيل الجان" أن هناك مدارس في الترجمة، وهناك -في حالتنا تلك- تحيّزات شخصية تجاه لغة أو لهجة، وهذا أمر خارج بنية النصّ ذاته، وخارج هموم كاتب النصّ الأصلي، فلماذا أفرضه على النصّ، ولماذا لا أقدّم كتابتي الخاصة بالعامية التي أؤمن بأهميّتها؟ هذه أسئلة يمكن أن نبدأ من خلالها نقاشاً لا تطاحن بين فريقين كما يحدث الآن.
نور: اللغة ليست مجرّد وعاء، حيث أنها من أدوات الكاتب وجزء من رؤيته لعالم النصّ وتركيبة شخوصه، وبالتالي فإذا كان هناك نصوص لم يختر كاتبها الأصلي التعامل مع لغة دارجة، فلماذا تصلني مترجمة بلغة دارجة، حتى لو بمستوى أعلى!
واختتمت حديثها مع "الميادين الثقافية" بقولها: "النقاش حول هذا الأمر صحّي، ويمكن لتجربة ترجمة "الغريب" أن تجيب على تساؤلاتي أو تطرح أسئلة جديدة، فلم أطّلع على النصّ بعد. أما عن نفسي، فأحب أن تكون الترجمة قريبة من المستوى اللغوي الذي اخترته في نصّي، مثلاً، عندما ترجمت إيناس التركي نصّ "غرفة تخصّ صبري وحده" إلى الإنكليزية، تعاملت مع الحوارات التي تأخذ الطابع الشفاهي العامي بشكل مختلف عن باقي النصّ، لأنها مستوى لغوي مختلف".