تحدّي التلقيح في إيران.. 2021 عامُ كسر الاحتكار والعقوبات

في عام 2021، الذي تبارزت فيه دول العالم لتصنيع اللقاحات وتلقيح المواطنين، جهدت إيران، وبالرغم من العقوبات المفروضة عليها حتى في المسائل الصحية، في تصنيع 6 لقاحات، كان أبرزها "بركت". واستطاعت أن تصل إلى نسبة تلقيح عالية.

  • إيران وتحدّي العقوبات.. رحلة صناعة اللقاحات
    إيران وتحدّي العقوبات... رحلة صناعة اللقاحات ضدّ كورونا

كغيرها من الدول، عانت إيران مبكراً من انتشار فيروس كورونا قبل عامين، وسعت الدولة لتجنيد كل الإمكانات لمواجهة انتشار الفيروس، ولكن الفارق في التجربة الإيرانية أن هذا البلد محاصر بأشد أنواع العقوبات، ولا سيما الحصار على الأدوية والمستلزمات الطبية، وأهمها وسائل الوقاية من الفيروس.

كان لهذه العقوبات الأثر المباشر في الارتفاع الكبير في الإصابات والوفيات من جرّاء الفيروس بين الإيرانيين، خلال الأشهر الأولى من عام 2020، وجعلت إيران في المراتب الأولى في نسبة الانتشار إلى جانب الصين وإيطاليا، لكن كل ذلك لم يثن الإيرانيين، الذين تجنّدوا -كلّاً من موقعه-  في سبيل مكافحة انتشار الفيروس، في مقدمتهم الأطباء والممرضون وطلاب الجامعات، إن كان عبر المواجهة المباشرة، أو في عمليات التعقيم وثمّ تصنيع الكمامات الصحية والمعقمات، ثم إلى العامل الأكثر تأثيراً الذي غيّر المعادلة تماماً، تصنيع اللقاحات. 

انتشار الوباء واستعدادات المواجهة

في الـ 12 من شباط/فبراير 2020، سُجّلت حالتا إصابة بفيروس كورونا في مدينة قم الإيرانية، وكانتا حالتين موثقتين ومسجّلتين من قبل وزراة الصحة. فأثناء شيوع أنباء انتشار كورونا في الصين، بادر معهد باستور في طهران إلى الحصول على معدات فحص كورونا، ثم عمل على تصنيعها وزيادة إنتاجها، في محاولات لتشخيص الانتشار في البلاد من جهة، وعدم الخضوع للعقوبات التي كانت عقبة أمام تصنيع معدّات كهذه.

كانت المعلومات عن الفيروس ما تزال قليلة، إلا أن ذلك لم يمنع السلطات الصحية من تشكيل لجان لمكافحة انتشار الفيروس، وإصدار تعليماتها آنذاك للحد من انتشاره.

لم تكن معروفة حينها كمية المخزون الكافي لمواد التشخيص والوقاية، من أجهزة فحص وكمامات ومعقمات، كما شهدنا في ذلك الوقت أزمة عالمية في العرض وحيازة أو قرصنة المواد من قبل بعض الدول، ولهذا بدأت "اللجنة الإجرائية لتنفيذ أمر الإمام الخميني" في إيران بتصنيع الكمامات، بوتيرة تصاعدية، بدأت بـ50 ألف كمامة في اليوم (14 آذار/مارس 2020)، ووصلت بعد فترة إلى 5 ملايين كمامة (30 أيلول/سبتمبر 2020)، كانت تقوم اللجنة خلالها بتوزيع الكمامات كما المعقمات في أرجاء المحافظات مع آلاف المتطوعين المشاركين.

حال المواد الوقائية كانت شبيهة بحال اللقاح؛ ففي الوقت الذي كانت فيه البلدان تتسابق للوصول إلى لقاح ضد كورونا، بدأت عدة شركات إيرانية، أبرزها شركة "بركت"، بتطوير مشروعها لصناعة لقاح.

كان اتخاذ  قرار كهذا محفوفاً بمخاطر وتبعات كثيرة؛ فمن جهة، كانت تلبية حاجات العدد الكبير من السكان صعبة، ومن جهة ثانية فإن العقوبات تُحظّر استيراد المواد الأولية اللازمة للإعداد لمشروع كهذا؛ فالولايات المتحدة الأميركية تستولي على معظم هذه التجهيزات وتحظر تصديرها إلى إيران، كما تحظر على حلفائها السماح بذلك، وفي الوقت ذاته كانت تعمل على إنتاج لقاحها وجعله حصرياً.

استيراد اللقاحات وتهيئة الإنتاج المحلي

في موازاة استعدادات شركة "بركت" لتصنيع اللقاح الإيراني، تقدمت الحكومة بطلبات لاستقدام اللقاحات من دول صديقة. وكانت هذه الخطة الموازية ضرورية لتلبية متطلبات المرحلة من أجل حماية الشعب ولتحقيق الوصول إلى لقاح آمن محلي الصنع.

بدأت المحادثات والمفاوضات لشراء اللقاح من عدة دول في أواخر آذار/مارس 2020، أولاها الصين حيث ظهر الوباء، والتي كانت تطوّر لقاح سارس، وحاولت توقيع اتفاق بيعه لإيران وإجراء تعديلات لكي يتناسب مع فيروس كورونا، ولكن كان ذلك يتطلب إجراء تجارب على الناس لم ترتضِ بها الحكومة الإيرانية لخطورتها.

عرضت شركة "أسترازنيكا" البريطانية وقتها على إيران بيع 5 ملايين جرعة، مقابل مشاركة إيران في التجارب الإنسانية على اللقاح، وبدورها الصين أيضاً عرضت بيع 18 مليون جرعة مقابل الأمر ذاته، ولكن الحكومة الإيرانية رفضت هذه العروضات، لكونها لا تعرف مدى سلامة هذه التجارب وأمنها، وتضع الشعب الإيراني أمام مخاطر جدية.

لاحقاً، ومنذ منتصف صيف العام 2020، بدأت الشركات تطرح لقاحاتها وتوافق الدول على إعطائها اضطرارياً. في تلك المرحلة، ظهر مشروع كوفاكس "Covax" العالمي، الهادف إلى مشاركة جزء من اللقاحات من قبل الدول المُصنعة لها مع الدول الأخرى، لكي يتم التسريع في حملة التلقيح في العالم، إلا أن هذا البرنامج لم يكن على قدر التوقعات. وعندما دفعت إيران الأموال لقاء 17 مليون جرعة، لم تف كوفاكس بوعدها، لكن وبسبب العقوبات الأميركية، كانت هي الطريق الأكثر أمناً لاستيراد اللقاحات.

شركة "بركت" تعلن بدء التجارب الإنسانية للقاحها 

في الـ 29 من كانون الأول/ديسمبر 2020، أعلنت مجموعة "بركت" بدء تجاربها الإنسانية للقاحها، وذلك بعد مسيرة شاقة من الأبحاث وتهيئة المواد الأولية، في ظل عقوبات تفرضها الولايات المتحدة، حتى على صعيد المواد الصحية والطبية اللازمة.

وكان من المتطوّعين الأوائل لهذه التجارب طيّبة مخبر، ابنة رئيس "لجنة تنفيذ أمر الإمام الخميني"، محمد مخبر، والمساعد الاجتماعي للجنة علي عسكري. وكان لهذا الإعلان والبدء بالتجارب أثرهما الملحوظ. فلم ينقض أسبوعان على هذا الإعلان، حتى أعلنت الولايات المتحدة الأميركية، عبر وزارة الخزانة، عقوبات على محمد مخبر رئيس "اللجنة الإجرائية لأمر الإمام الخميني"، وعلى اللجنة ذاتها، وعلى كل المجموعات التي تندرج ضمنها، ومنها شركة "بركت" المصنّعة للقاح.

بعد إعلان بدء التجارب الإنسانية، كان للمرشد الإيراني السيد علي خامنئي، في الثامن من كانون الثاني/ديسمبر 2020، خطاب أعلن فيه منع استيراد اللقاحات التي يكون مصدر تصنيعها في الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وبريطانيا، كما شجّع على صناعة اللقاح الإيراني المحلي، وحثّ المسؤولين على تأمين اللقاحات من الخارج، باستثناء الدول المذكورة، من أجل الإسراع في عملية تلقيح الشعب.

إثر هذا التقدم في تصنيع اللقاح في إيران وكسر الحصرية لصناعات اللقاحات، اللذين أقلقا الولايات المتحدة، تجدّدت المحادثات الإيرانية من أجل استيراد اللقاح من الدول الصديقة، فسارع بعض الدول الغربية إلى عرض إرسال لقاحاته، واستشعرت "كوفاكس" مسؤوليتها في تقديم ما تعهّدت به.

بدأت اللقاحات تصل تباعاً من روسيا ثم الصين، كاسرة العقوبات والاحتكار الأميركي، وكان من المتوقع أن تصل دفعة من 3.2 ملايين جرعة في شهر آذار/مارس 2021 من خلال "كوفاكس"، لكنها أيضاً واجهت تبعات العقوبات، وبعد 3 أشهر من تقاضيها أموال جرعات اللقاحات، وصلت دفعة من 700 ألف جرعة من لقاح أسترازنيكا مُصنّعة في كوريا الجنوبية في الـ 5 من نيسان/أبريل 2021، وتأخرت الدفعة التي تلتها إلى الـ 16 من أيار/مايو 2021، وكانت عبارة عن 1.5 مليون جرعة أسترازنيكا تمّ تصنيعها في إيطاليا.

حاولت الشركات الخاصة الإيرانية أيضاً التعاقد على شراء اللقاحات، وتمكّنت بالفعل من استيراد دفعات منها نهاية العام 2020، لكن حتى هذا التحرك لم يسلم من الحصار، فقد قامت شركة إيرانية لديها وكالة حصرية للقاحات "بهارات" الهندية، بالاتفاق على شراء 2 مليون جرعة، تم دفع مبلغ لقاء أول 500 ألف جرعة، ووصل منها أول 125 ألف جرعة في الـ 10 من آذار/مارس 2021، ولكن تمّ منع الهند من تصدير بقية الجرعات بسبب العقوبات الأميركية أيضاً.

إرساء خطوط إنتاج لقاح "بركت" وبروزه مع لقاحات أخرى

لم يكن لقاح "بركت" اللقاح الوحيد الذي يُعمل على تصنيعه في إيران، فهناك 5 لقاحات أخرى هي: "باستوواك" المشترك بين معهد باستور وكوبا و معروف أيضاً بـ"سوبيرنا"، و"كووبارس" المعروف أيضاً بـ"رازي"، و"فخراواك" (فخرا)، و"اسبایکوجن" (مشترك مع أستراليا)،  و"نوراواك" (يجري إنجازه عبر منظمة تابعة لحرس الثورة الإيرانية).

لكن لقاح "بركت" كان الأسرع في النتائج؛ فبعد إتمام اختباراته الأولية بالنجاح، ونشر مقالة علمية عن النتائج والبحث، سارعت الشركة إلى وضع خطة الإنتاج، وقدّر القيّمون على برنامج الإنتاج بأن البلاد تحتاج إلى نحو 160 مليون جرعة من اللقاح، فبدأت العمل على حلول لتأمين هذه الكمية.

لكن المعدات اللازمة لإنتاج اللقاح أيضاً غير متوافرة في إيران، وتنتجها الولايات المتحدة بشكل حصري. حتى المختبرات الموجودة في إيران منذ وقت سابق كانت متوقفة عن العمل بسبب نقص المعدات الأساسية، التي تأتي من أميركا أيضاً.

  • المعدات التي استقدمتها إيران لتصنيع اللقاحات (فارس)
    المعدات التي استقدمتها إيران لتصنيع اللقاحات (فارس)
  • خلال عمليات تصنيع اللقاحات في إيران (فارس)
    خلال عمليات تصنيع اللقاحات في إيران (فارس)
  • خلال عمليات تصنيع اللقاحات في إيران (فارس)
    خلال عمليات تصنيع اللقاحات في إيران (فارس)

عملت الشركة على الالتفاف على العقوبات، من خلال مسارات علمية بحتة، فطلبت مجموعة من المواد الأولية، تمت الموافقة على ثلثها فقط، ما يظهر سعي الأميركيين لعدم فتح أي فرصة للإيرانيين للوصول لتصنيع اللقاح. لكن الإيرانيين أخذوا الكمية المسموح بها، وبدأوا بتصنيع باقي الكمية بخبرات محلية، ما عكس تحولاً تكنولوجياً في طور تأمين إيران لحاجاتها، حتى في ظل الأزمات والعقوبات، كما حاولت تأمين معدات بديلة من الصين والهند، لكنها وصلت حيناً وتعرقلت أحياناً أخرى، بسبب العقوبات والصعوبات المرتبطة بانتشار الفيروس في الهند.

كان من المتوقع أن يصل عدد الجرعات المصنّعة في إيران إلى حدود 50 مليون جرعة في تشرين الثاني/نوفمبر 2021، ولكن هذه العقوبات وبعض المعوقات حالت دون تحقيق ذلك في التاريخ المتوقع، إلا أن الإنتاج مستمر ويتسارع بوتيرة تصاعدية.

أثر لقاح "بركت" داخلياً وخارجياً

بعد وصول التجارب الإيرانية إلى تحقيق الإنجاز المطلوب وكسر الاحتكار والحصار، بدأت النتائج تظهر، فعدد الجرعات التي وصلت من الخارج قبل بدء التجارب كان نحو 6.8 ملايين جرعة، أصبحت بعد 3 أشهر من إنتاجه ورفع بعض العقوبات على الاستيراد، بسبب الخوف من مبيعات اللقاحات، نحو 51.4 مليون جرعة، أي ارتفعت وتيرة وسرعة الاستيراد 12.5 مرة، وانخفض سعر جرعة اللقاح الواحد من 15.5 يورو إلى 8 يوروات.

كما أظهرت استطلاعات الرأي ثقة 74% من الإيرانيين باللقاحات الإيرانية، وعلى وجه الخصوص "بركت". وفي التصريحات الأخيرة لوزير الصحة الإيراني، بهرام عين اللهي، أعرب عن أن لقاح بركت، وبحسب أبحاث وزارة الصحة ومقارنتها باللقاحات الأخرى الأجنبية، كانت له عوارض أقل، وربما الأقل في العالم. ويشار إلى أنه تم البدء بالدراسات السريرية في المرحلة الأولى والثانية، على الفئات العمرية ما بين 8 و12 سنة، وأن تأثيره ما فوق 84% إلى 90%، و80% وما فوق للجرعة الثانية بحسب آخر التقارير.

وفي التقارير الأخيرة لوزارة الصحة، عن تسلم اللقاحات الإيرانية والأجنبية، أنه حتى يوم الـ 21 من كانون الأول/ ديسمبر 2021 وصل عدد الجرعات التي تُسلّمت إلى 150 مليوناً و108 آلاف و308 جرعات.

أما عدد جرعات اللقاحات الإيرانية فقط فتم تسلّم نحو 32 مليوناً و300 ألف جرعة، 15 مليوناً منها من بركت، و6 ملايين و300 ألف من لقاح باستواك، و6 ملايين من اسبايكوجن، و5 ملايين من لقاح رازي.

وحتى تاريخ الـ 26 من كانون الأول/ديسمبر 2021 تمّ تلقيح 59 مليوناً و529 ألف شخص بالجرعة الأولى، و51 مليوناً و255 ألفاً و555 شخصاً بالجرعتين، و5 ملايين و922 ألفاً و213 شخصاً بالجرعات الثلاث، بمجموع 116 مليوناً و707 آلاف و715 جرعة.

وزير الصحة الإيراني كشف أنه خلال 4 أشهر تمّ إعطاء 112 مليون جرعة، وأضاف "في أحد الأيام قدمنا مليوناً و650 ألف جرعة لقاح. ونظراً إلى السرعة وعدد السكان، فإن ذلك يعتبر رقماً قياسياً عالمياً، وتواصلت معنا منظمة الصحة العالمية مذهولة بهذه النسبة من التلقيح في إيران".

لقد تحدّت إيران خلال فترة انتشار كورونا قدراتها الداخلية والعقوبات الأميركية، والوباء نفسه. وأثبتت أن إرادة الإيرانيين قادرة على كسر الاحتكار والقيود الغربية، ورغم كل التحديات أنجزت إيران شكلاً جديداً من المقاومة الطبية والعلمية، وأثبتت قيمة الاعتماد على الخبرات الوطنية وتوظيفها.

بعد أن عشنا في عام 2021 الكثير من الأحداث المهمة والمفصلية، يشرف هذا العام على الأفول، ولكنها ليست فقط نهاية عام عادية، هي بداية حقبة في حياة شعوب المنطقة والعالم.