التوحّد: اضطراب يرافق الطفل مدى الحياة أم أنّه قابل للعلاج؟
التوحد هو اضطراب عصبي نمائي يصيب الأطفال يتم تشخيصه غالباً قبل سن الثالثة. يواجه المصابون به أعراضاً قد تكون معتدلة أو أكثر تطرّفاً وتؤثّر على أدائهم في الحياة بشكل عام.
ما هو التوحد؟
تعريف التوحد
اضطراب التوحد هو اضطراب عصبي ونمائي مرتبط ببنية ووظيفة الدماغ والجهاز العصبي يؤثّر على إدراك الشخص للآخرين وطرق التواصل معهم. فهو يشمل تحديات في مهارات التواصل الاجتماعي، المهارات الحركية، القدرات الفكرية واللفظية. يُطلق البعض عليه مصطلح طيف التوحّد، لأنّه يتضمن مجموعة واسعة من الأعراض والاضطرابات.
اقرأ أيضاً: لغة الجسد: هل تشكّل طريق العبور إلى أفكار الآخرين؟
يبدأ هذا الاضطراب في مرحلة الطفولة المبكرة، غالباً خلال السنّة الأولى ويمكن أن يستمر طوال الحياة. تختلف قدرات واحتياجات المصابين به، ففي حين أنّ بعضهم يمكنه العيش بشكل مستقل، قد يعاني البعض الآخر من إعاقات شديدة تجعله بحاجة إلى رعاية مدى الحياة.
أسباب التوحد
أسباب التوحد الدقيقة غير معرفة حتّى الآن، إلاّ أنّ الأدلة العلمية تشير إلى وجود عوامل تزيد من خطر إصابة الطفل. تشمل هذه العوامل التالي:
العوامل الوراثية
تُظهر الأبحاث أنّ حوالى 20% من الحالات يُعزى مباشرة إلى أسباب وراثية، حيث بيّنت بعضها أنّ الأطفال الذين لديهم أخ مصاب بهذا الاضطراب هم أكثر عرضة للإصابة. كذلك إذا كان أحد الوالدين يحمل واحداً أو أكثر من التغييرات الجينية الخاصة بهذا الاضطراب، فقد ينتقل إلى الطفل حتّى في حال عدم إصابة أيّ منهما.
في بعض الأوقات، تنشأ هذه التغيرات الجينية تلقائياً في الجنين أو الحيوانات المنوية و/أو البويضة التي تتّحد لتكوين الجنين. مع ذلك، لا بدّ من إجراء المزيد من الأبحاث بهدف فهم أفضل لكيفية مساهمة الطفرات أو الاختلافات الجينية المحدّدة في تطور الاضطراب.
العوامل البيئية
أظهرت الدراسات أنّ الولادة المبكرة التي تحدث قبل 26 أسبوعاً من الموعد ترتبط بظهور التوحد. كذلك تمّ ربط بعض العمر المتقدم للأب، الأدوية التي يتمّ تناولها أثناء الحمل، حالات الحمل المتعددة (التوأم أو الثلاثي) أو انخفاض الوزن عند الولادة بزيادة خطر الإصابة.
أعراض التوحّد عند الأطفال
قد يعاني بعض الأطفال من أعراض التوحد الواضحة في سن مبكر، أمّا البعض الآخر فقد يتطور نموّهم لفترة من الوقت ثم تظهر عليهم الأعراض. عادةً ما يتّم تشخيص الأطفال المصابين قبل الثالثة من عمرهم، أمّا التشخيص المتأخّر فيعود إلى أنّ هذه الأعراض كانت خفيفة وغير واضحة قبل هذا السّن.
تشمل العلامات:
عدم تمكّن الطفل من نطق كلمة واحدة في شهره السادس عشر أو عبارة من كلمتين في السنتين من عمره.
عدم رد الطفل عندما يتم سؤاله عن اسمه.
فقدان اللغة واستخدام نمطي أو متكرّر للكلمات والتعابير.
فقدان القدرة على الاستجابة الاجتماعية أو التعبير بابتسامة لمدة 6 أشهر.
استجابة مفرطة أو غير عادية للمدخلات الحسية مثل اللمس والشم والذوق والضوضاء.
ضعف القدرة على تكوين صداقات مع الأقران.
ضعف الاتّصال بالعين.
تكرار السلوكيات في وقت مبكر من العمر مثل هز الجسم وإصدار الأصوات. قد يتسبب بعض الأطفال في إصابة أنفسهم بالأذى من خلال بعض السلوكيات المتكررة مثل عض اليد.
ترتيب أو تكديس الأشياء مراراً وتكراراً.
غياب القدرة على اللعب الخيالي وتفضيل اللعب المنظّم والانفرادي. كذلك التركيز على أجزاء معينة من اللعبة بدلاً من اللعبة بأكملها.
اهتمامات متكررة ومحدّدة للغاية أو مكثفة أحياناً في مواضيع قد لا تهمّ الآخرين. بالإضافة إلى صعوبة الانضمام إلى تجربة مشتركة كالمشاركة في حدث يهتم له كل من حولهم.
الالتزام الشديد باتّباع روتين محدّد وصعوبة في التّأقلم مع التغييرات سواء البسيطة أو الكبيرة، كتغيير نوع الأطعمة.
غالباً ما يعاني الأشخاص المصابون بالتوحد من حالات مشتركة، بما في ذلك الصرع والاكتئاب والقلق واضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط.
ما هي طرق علاج التوحد؟
يمكن أن تؤدي التدخلات العلاجية والعائلية والتعليمية المبكرة للتوحد إلى تحسين قدرة المصابين على التفاعل الاجتماعي، صحتهم ورفاههم ونوعية حياتهم. فضلاً عن أنّها توفّر فرصة كبيرة لاستغلال قدراتهم. تحدث هذه التدخلات في وقت مبكر من 2 أو 3 سنوات من العمر، نظراً إلى أنّ دماغ الطفل الصغير يعتبر "بلاستيكي" أو قابل للتغيير أكثر من الأعمار الأكبر.
تختلف التدخلات باختلاف احتياجات الرعاية الصحية للأشخاص المصابين بالتوحد. ولكنّها غالباً ما تشمل التدخلات السلوكية أو النفسية أو التدريب على المهارات.
علاج التوحد باللعب
بالنسبة للعديد من الأطفال المصابين بهذا الاضطراب، يشكّل اللعب الطريقة التي يعبّرون بها عن أنفسهم ويمكن أن يحسّن مهاراتهم العاطفية والاجتماعية كالتواصل مع الآخرين. كما يساعدهم على التفكير بطرق مختلفة والتعلم والتواصل مع أشخاص آخرين.
بعض العلاجات باللعب تتضمن "وقت اللعب على الأرض" وهو علاج شائع يقتضي بأن يلعب الآباء أو المعالج على الأرض مع الطفل وفقاً لشروطه. يجب أن يلعبوا معه بنفس طريقته، ثمّ يضيفون شيئاً إلى اللعبة.
في السياق نفسه، يمكن أن تكون مجموعات اللعب المتكاملة بين الأطفال المصابين باضطراب طيف التوحد أو بدونه مفيدة، حيث يتمكن المصابون من اتّباع قيادة أقرانهم وتعلّم كيفية اللعب. تضمّ هذه المجموعات 3 إلى 5 أطفال، مع عدد قليل من المصابين في كل مجموعة. ومن ثمّ يحدّد القادة الكبار نغمة اللعب، لكنّ الأطفال سيسيطرون على القواعد في النهاية. في هذا النوع من العلاج، قد يتظاهر الطفل المصاب باللعب أكثر بمرور الوقت وسيكون لديه العديد من الفرص لتحسين مهاراته الاجتماعية أثناء قضاء الوقت مع أطفال آخرين.
تحليل السلوك التطبيقي
أحد أنواع العلاجات المُثبت فعاليتها في تحسين مهارات المُصابين وتقليل حاجتهم إلى بعض الخدمات الخاصّة، حيثُ يعمل على تطوير سلوكيات مُحددة.
ينقسم هذا العلاج إلى عدّة أنواع، ومنها:
التدريب التجريبي المفضّل الذي يعمل على تقسيم سلوك معيّن، يرغب المصاب بالتوحد بتعلّمه، إلى خطوات بسيطة.
التدخل السلوكي المكثف المبكر المخصّص للأطفال الذين تقل أعمارهم عن 5 سنوات.
التدخل السلوكي اللغوي الذي يحسّن المهارات اللفظية والتدريب على الاستجابة المحورية الذي يركّز على جوانب مهمة من مراحل تطور الطفل المُصاب.
العلاجات العائلية
بالإضافة إلى دور المعالج في تقديم الدعم والمساعدة، من المهم جدّاً أن تتعلّم العائلة طرق التعامل مع الطفل المصاب بالتوحّد. في البداية يجب احتضانه من خلال التدرب على قبول الاختلافات والتركيز على الخصائص الفريدة الموجودة فيه، بدلاً من التركيز الدائم على محاولة إصلاح الأشياء المختلفة.
كذلك على العائلة الانتباه إلى الأشياء التي قد تكون مصدراً للتوتر بما في ذلك المنبهات الحسية والتغيير الدائم. يمكن للآباء على سبيل المثال الحفاظ على انتظام الأشياء كل يوم وإعطاء الكثير من الوقت و التنبيهات في حال حصول أي تغيير.
اقرأ أيضاً: عندما قادني التوحّد إلى الحقيقة
علاج التوحد بالأدوية
لا تتوفّر أدوية متخصصة لعلاج اضطراب طيف التوحد، إنّما يمكن لبعضها أن تساعد في السيطرة على الأعراض. فعلى سبيل المثال، إذا كان طفلك يظهر سلوكيات حادة يمكن استخدام الأدوية المضادة للذهان. لا بدّ من إطلاع الطبيب على أيّ دواء أو مكمّل غذائي يتناوله الطفل، فقد تتفاعل الأدوية مع المكمّلات الغذائية وتُسبب آثاراً جانبية خطيرة.
أنواع التوحد
قام الأطباء سابقاً بتشخيص التوحد وفقاً لأربعة أنواع فرعية مختلفة. أمّا في الوقت الحالي يصنّف المتخصصون في الرعاية الصحية هذا الاضطراب كفئة واحدة واسعة تضمّ ثلاثة مستويات مختلفة. تتراوح هذه المستويات من الأقل إلى الأكثر حدّة، والتي قد لا يجدها البعض من أخصائيي الصحة العقلية مفيدة في العلاج.
يختلف مستوى الأداء الفكري للمصابين بشكل كبير، حيث يمتد من ضعيف إلى مستوى أعلى.
المستوى الأول
هو المستوى الأكثر اعتدالاً والأخف شدّة في الأعراض. يواجه الأطفال المصابون به صعوبة في التواصل المناسب مع الآخرين، يمكنهم التحدث بجمل كاملة إنّما لن يكونوا قادرين على الانخراط في محادثة ثنائية الاتّجاه.على سبيل المثال، قد لا يقولون الشيء الصحيح في الوقت المناسب ويحاولون تكوين صداقات، لكنّها لن تكون ناجحة.
كذلك قد يقومون بسلوك يتعارض مع الأداء العام ولا يشعرون باهتمام كبير بالتفاعلات الاجتماعية في بعض الأحيان. يواجهون أيضاً مشاكل في التنظيم والتخطيط، مما يحول دون استقلاليتهم كنظرائهم. بالإضافة إلى أنّهم قد يواجهون صعوبة في الانتقال من نشاط إلى آخر أو تجربة أشياء جديدة.
المستوى الثاني
سيواجه الأشخاص المصابون بالمستوى الثاني من اضطراب طيف التوحد مشاكل أكثر وضوحاً في التواصل اللفظي والاجتماعي مقارنة مع المستوى الأول. تقتصر التفاعلات الاجتماعية لديهم على المصالح الخاصة الضيقة، لديهم باهتمامات ضيقة جدّاً ويمارسون سلوكيات متكرّرة تفقدهم القدرة على التعامل المرن مع المواقف. وكما المستوى الأول، سيجدون صعوبة في تغيير التركيز أو الانتقال من نشاط إلى آخر.
المستوى الثالث
المستوى الثالث هو أشدّ الأنواع، حيث أنّ سلوكيات الأطفال في هذه الفئة ستكون مثل أولئك الذين لديهم المستويين السابقين ولكن بدرجة أكثر تطرفاً. يواجهون صعوبة كبيرة على التحدث بوضوح، نادراً ما يبدأون في التفاعل مع الآخرين ويستجيبون فقط للنهج الاجتماعي المباشر، مما يجعل من الصعب عليهم الخوض في مجالات الحياة المختلفة. كذلك سيواجهون صعوبة بالغة في التعامل مع التغيير وسيقومون بسلوكيات متكررة ومقيّدة جداً في جميع هذه المجالات.
على الرغم من أنّ مستويات التوحد مفيدة لتشخيص شدته واحتياجات الدعم، فإنّها لا تعطي صورة كاملة عن نقاط القوة والقيود لكل مستوى. وبالتالي سيخضع كل شخص لتشخيص وعلاج مختلف عن الشخص الآخر، ولكن الأهم هو البدء في العلاج المبكر لما يعود بالفائدة على حياة المصاب.