"الغرباء فقط سيُقتلون"
لم تفعل الحروب المُتتالية على المنطقة والتي لم تنتهِ إلى الساعة، سوى أنها دفعت نحو تعميق الشعور العربي المسلم بالظلم المُقيم أمام القوّة الغربية السافِرة. كان شعوراً طاغياً عند فئة لا بأس بها من المسلمين. شعور لم يركن إلى الحاضر، بل ظل يجد مرجعيته في الماضي البعيد، حيث القوّة الإسلامية الماحِقة التي تذرّرت مع انهيار الخلافة العثمانية.
غالباً ما تمنح نظرية المؤامرة أولئك الذين يتعطّشون لفهم ما يجري من حولهم ما يكفي من الطمأنينة التي تحرّر أكتافهم من المسؤولية متعدّدة الوجوه حيال الأحداث الجسيمة التي يعيشون تداعياتها. وهؤلاء إذ يغذّون تلك النظرية فيعمدون إلى ترسيخ وظيفتيها السياسية والاجتماعية، يستحيل معها أيّ حدث عبارة عن منتوج خارجي على هيئة جسم غريب يكفي أن يواجه بالقوّة إجمالاً ليتم التخلّص منه.
الكلام الآنف ليس وظيفته الحطّ من نظرية المؤامرة ولا الإعلاء من شأنها فهذا بحث آخر، إلا أن مُقاربة ظواهر حسّاسة، وتكاد تكون مصيرية، مثل ظاهرة المقاتلين المراهقين في داعش، يُفترض أن تتم مناقشتها وتحليلها باستخدام أدوات مفاهيمية تتجاوز الركون إلى نظرية المؤامرة كمرجعية وحيدة.
في ما يلي، قراءة مطوّلة تحاول الإحاطة بالأسباب السياسية والاجتماعية والنفسيّة، التي ربما قد تكون دفعت وتدفع الكثير من الشباب إلى أتون المعارك في سوريا والعراق. وهذا يستدعي الحديث بنود يفترض أنها تلعب دور المساعد على "فهم" ظاهرة نشوء داعش ثم قدرته على استقطاب المقاتلين، وذلك لغاية السعي إلى استجلاء الصورة في أبعادها المكانيّة والتاريخيّة والاجتماعيّة.
- ولكن يا أبي، هل سنربح الحرب؟
- طبعاً يا بُنيّ، لا بل ستنتهي قبل أن تستيقظ.
- لماذا؟
- لأنها إن لم تنتهِ بسرعة، فسوف يغضب الناخبون من السيّد بوش، وربما امتنعوا عن الاقتراع لصالحه في آخر الأمر.
- ولكن هل سيكون هناك قتلى يا أبي؟
- لن يُقتل أحد ممن تعرفهم يا بُنيّ. الغرباء فقط سيُقتلون.
- وهل سأرى كل هذا على التلفزيون؟
- فقط إذا وافق السيّد بوش.
- وبعد ذلك، سيعود كل شيء إلى مجراه الطبيعي؟ ولن يرتكب أحد أية فظاعات؟
- هسّ يا بُنيّ، هيا نم[1].
تكاد هذه المحادثة المُتخيّلة بين أب وابنه، أن تلخّص تاريخاً مديداً من إزدواجية المعايير الأخلاقية عند الغرب. وإذ ليس من الموضوعية في شيء اعتماد أسلوب الإطلاق على شعوب بأكملها، فإن التاريخ السياسي الأوروبي والأميركي القريب والبعيد، لا يزال يؤشّر صراحة إلى وجود هذه الازدواجية. ولذلك فإن سؤالاً أخلاقياً لا ينفكّ يكرّر نفسه. إذا كان حقّ الانسان في أوروبا وأميركا في الحياة مُقدّس، وغير قابل للمَسَاس به إلا في حدود ما تمّ التعاقد عليه بين الشعب والسلطة، فما هي القاعدة الأخلاقية التي تخوّل هذه السلطة سلب مَن هم خارج نطاق سلطانها حقّهم في الحياة؟ ثم ما هي المبرّرات الأخلاقية لفعل القتل؟ وكيف لشعوب تقدّس الحقّ في الحياة، أن تُسهم في وصول سلطة وتمنحها الشرعية السياسية والقانونية التي تخوّلها ممارسة القتل؟
يكشف الواقع الحالي والتاريخ القريب لما يُسمّى "الحرب على الإرهاب"، إن فعل القتل إنما تمّ ولا يزال يتمّ باستسهال مُطلِق. هكذا يمكن العثور بشكلٍ شبه يومي على أخبار عن مقتل مدنيين "عن طريق الخطأ"، في كلٍ من الدول التي أعلنت الولايات المتحدة منذ أحداث 11 أيلول 2001، حربها ضد الإرهاب فيها أو حربها عليها. ففي العراق، أُبيدت الشهر الماضي عائلة زيدان العراقية المكوّنة من 36 مدنياً بأكلمها في قصفٍ مخزن لتنظيم داعش في منطقة اليابسات السكنية في الموصل، من بينهم 17 امرأة و11 طفلاً.
هذه المجزرة جاءت قبل إعلان وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) قبل نحو شهر الموافقة على توجيه الضربات الجويّة ضدّ أهداف داعش في العراق وسوريا، حتى لو أدّت إلى سقوط الضحايا من المدنيين ومن دون الرجوع إلى القيادة العسكرية، إذا ما تبين أن هدف الغارة الجوية يستحق ذلك.
وهذا يعني أن ما حصل مع عائلة زيدان في الموصل، سيحصل مع غيرها، لكنّه مدّعم بغطاء قانوني يبرّر فعل القتل تحت مُسمّى "أضرار جانبية". لماذا؟
ليس من الإجحاف القول إن لهذا النوع من القتل اليومي بالشكل الآنف الذكر سيرورته. ذلك أن هذا الشكل من القتل لم يكن إبن وقته. فالتاريخ القريب والبعيد يكشف أن لفعل القتل الذي مُورِسَ بحقّ العرب والمسلمين، من الانتداب وصولاً إلى الحرب على الإرهاب، له جذوره الفكريّة والفلسفيّة. ليست الغاية من هذا الكلام محاولة إيجاد تقابل بين جلاّد وضحية. ذلك أن لكل مجتمع من المجتمعات منهما نصيب، وما عدا ذلك فهو ضرب من المثالية فارغ. لكن الثابت إلى الآن أن فعل القتل المُمارس ضدّ العرب وغيرهم، إنما خضع لتبريرات تجد أسسها في الثقافة.
تتحمّل الثقافة وِزرَ أكبر قدر من الفظاعات المُرتكبة في تاريخ البشرية. إنطلاقاً من هذه المُسلّمة انطوت الثقافة الأوروبية على كمّ من الأحكام المُسبَقة، التي أجازت عبر تاريخ طويل قتل "الغريب المتخلّف". الحداثة الغربية رسّخت عبر مسيرتها إزدواجية المعايير الأخلاقية تجاه فعل القتل. فقد ثبّتت الحكم الديني والثقافي والاخلاقي على أديان وشعوب في افتعال مقارنة مضطربة وظالمة، ومن بينها المقارنة بين المسيحية والإسلام، ثم القول بقدرة الأولى المتحقّقة في التقدّم والتطوّر، ولعب الثاني دور إقعاد أتباعه والعالم عن سلك دروب التّحديث.
تشهد كتابات بعض المستشرقين[2] طوال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، على توكيد تلك النظرة المُسبَقة التي حملت ثقافة الحداثة الغربية على الاعتداد بما يكفي بقيمها، لرمي الآخر المُسلِم بصفة التخلّف، الذي تأسّس على الربط بين تديّنه بالإسلام وبين "تخلّفه وتوحّشه"، ثم انسحب لاحقاً ليطال جغرافيا تشمل مسيحيين أيضاً (أفريقيا وأوروبا الشرقية)، حيث أُرسيت مقولة عالمي الشمال والجنوب بشكل إطلاقي وصلف.
يمكن القول إن السياسة الأميركية ومنذ أكثر من عقد، هي الإبن الشرعي للتاريخ الأوروبي الذي سبقها إلى الشرق الأوسط وأفريقيا بعقود. فازدواجية المعايير الأخلاقية هي نفسها التي ظلّ مسرحها عالم "الأغراب"، حيث القتل مُباح غالباً بحجة دفع الخصم إلى "التحضّر والمدنيّة".
ليس من الصعب على أي دارس لتاريخ المنطقة العربية أن يعثر على سُحُب الدّم المُتتالية. بإمكان هذا الدارس أن يُلصِق صورتين للمكان نفسه وفي زمنين مختلفين، ثم يتأملهما من دون أن يجد أدنى فرق بين ممارسات الانتداب وبين السياسة الأميركية منذ العام 2003، سوى أن الصورة الأولى لم تتمكّن من إظهار أحمر الدّم على هيئته الحقيقيّة.
وفي هذا السِياق بإمكاننا أن نستشهد بتقريرٍ صدر العام الماضي عن جمعية أطباء من أجل المسؤولية الاجتماعية "بي إس آر"، والتي توصّلت فيه إلى أن عدد القتلى نتيجة عشر سنوات من "الحرب على الإرهاب"، أي منذ هَجَمَات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، قد "وصلت على الأقل إلى 1.3 مليون، وقد تصل إلى مليونين".
هذه الحرب التي بدأت باجتياح أفغانستان ثم العراق بعناوين فضفاضة تمتاز بها العقليّة الأميركية ومنها "الحرب العادلة"، رفدت حينها برسالة موقّعة من مجموعة كبيرة من المثقفين الأميركيين، الذين سعوا إلى إيجاد ما يكفي من مسوّغات فكرية وأخلاقية لتلك الحرب، بالرغم من اعترافهم الضمني بمشاعر الحقد الذي يكنّه المسلمون للولايات المتحدة رداً على سياستها.
في معرض نقاشه لهذه الرسالة يرى المفكّر الفرنسي جان بودريار أن أي قارىء لها "يُدرك المكانة الرمزية العالية التي ينبغي أن يحتلّها الوازِع الاخلاقي في صنع السياسات، لكنّه هو أيضاً، وهم يتميّز به الأميركيون"، ويتابع أن هذا الوهم هو الذي يجعل الأميركيين "يقيمون في اليوتوبيا[3] المتحقّقة" التي تنبني على "بلوغ قدر موصوف من القوّة المُطلقة العسكرية والاقتصادية والسياسية"، ليوضح تلك الازدواجية في المعايير الأخلاقية فيقول "تصبح الفضائل الشمولية مبادىء لا ينطبق اعتبارها إلا في الحاضرة الامبراطورية ... على غِرار التجارب اليونانية والرومانية والبريطانية ... فما ينطبق على المواطنين من أهلها لا ينطبق على الخارج البربري، وكل ما ليس هي، هو بربري تعريفاً. وعلى الخارج البربري أن يكتفي بسبيلين للتدخّل: عسكري ماحِق، و"إنساني" خيري"[4].
لم تفعل تلك الحروب المُتتالية على المنطقة والتي لم تنتهِ إلى الساعة، سوى أنها دفعت نحو تعميق الشعور العربي المسلم بالظلم المُقيم أمام القوّة الغربية السافِرة. كان شعوراً طاغياً عند فئة لا بأس بها من المسلمين. شعور لم يركن إلى الحاضر، بل ظل يجد مرجعيته في الماضي البعيد، حيث القوّة الإسلامية الماحِقة التي تذرّرت مع انهيار الخلافة العثمانية.
هوامش الجزء الأول
[1] بودريار جان – دريدا جاك – فوليامي اد – ايكو أمبرتو، ذهنية الإرهاب، ص 101، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2003.
[2] يقول المستشرق الفرنسي د. كيمون: إن "الإسلام يعمل على الدماغ البشري مثل السم فيخدّر أجزاء المخّ بسرعة مُذهلة، ما يؤدّي إلى زجّ الآليّة الطبيعيّة في حال من الفوضى، تجعل المُسلِم يتحوّل إلى نوع معُين من وحوش البريّة. المسلمون بشكل ٍعام لا يمكن دراستهم إلا بوصفهم فئة من الوحوش الشرسة. مثل الحيوانات البريّة والزواحف والقوارض في شكل إنسان"، ويقول في موضعٍ آخر رابطاً بين التخلّف وبين الدين الإسلامي: " المسلم ليس لديه القدرة على التفكير لنفسه، لصياغة شخصيته، لعقد الرأي، أو الذوق الفردي، إلى تفضيل رائحة واحدة على أخرى. (...).لاتوجد عند المُسلِم روح الإبداع ولا حتى المحافظة بالمعنى المسيحي. كما أنه لا يصدر عنه أدنى إشارة من أي شعور بالمودّة أو بالحبّ بالمعنى الأفلاطوني. كل ما يفهمه ويقوم به هو ما يُمليه عليه القرآن للقيام به. فهو ملتزم بالقرآن وهذا القرآن هو الذي يوجّهه. ونتيجة لذلك، قد يتم تمثيل جميع المسلمين بوصفهم آلة كهربائية كبيرة نسبياً تتصرّف بأمرٍ من قِبَل مركز كهربائي أكبر هو الإسلام".
The Genocidal Islamophobia of a Late Nineteenth-Century French Anti-Semite: D. Kimon and The Pathology of Islam (p:9-11)
[3] تعرف اليوتوبيا بأنها عكس الأيديولوجيا. فالأولى تشمل أفكاراً تسعى إلى تجاوز الواقع وتغييره بشكلٍ جذري، لكنها تفتقر إلى المقوّمات التي توصل إلى هذا التغيير، ولذلك توصَف بأنها مثالية، على العكس من الأيديولوجيا التي تعمل على تزييف الواقع بغية تكريسه.
[4] بودريار جان، ذهنية الإرهاب، ص 139، مصدر سابق.