"الإسلام هو الحلّ"

المراجعة السريعة التي أجرتها التيّارات الإسلامية "الجهادية" للعلاقة مع الولايات المتحدة، بعد انتهاء دور هذه التيّارات في هزيمة الروس في أفغانستان، خَلُصت إلى إجراء توليف متأخّر وساذج، من خلال الاعتقاد بإمكانية الاستفادة من واشنطن "الصليبية" لمحاربة "الإلحاد" الشيوعي من دون تقديم أي مقابل. لكن هذا الأمر لم يطل حين وضِعَت هذه التيّارات وعلى رأسها تنظيم القاعدة أمام الواقع القاسي، الذي تمثّل بدخول الأميركيين الواسع إلى "الأرض المقدّسة" في الخليج، بعد حرب الكويت.

في الجزء الأول من هذه القراءة، ناقشنا الخلفية الثقافية التي أسست لفعل القتل الذي مورس بحق العرب والمسلمين، لأكثر من قرنين. الأمر الذي جعل من الحروب المتتالية على المنطقة، تدفع نحو تعميق الشعور الإسلامي بالظلم المقيم أمام القوة الغربية. غير أن هذا الشعور ظل يجد مرجعيته في الماضي البعيد، متخذاً بعداً تراجيدياً مع انهيار الخلافة الإسلامية التي شكلت لقرون عنوان القوة الإسلامية الماحقة. 
في الجزء الثاني من هذه القراءة، سنقوم بتسليط الضوء على التداعيات الثقافية والإجتماعية والسياسية التي خلفها انهيار الخلافة العثمانية، ثم صعود الكيانات الوطنية تحت عباءة جديدة جامعة هي القومية العربية. قبل أن تأتي هزيمة العرب أمام إسرائيل، في العام 1967 ثم اتفاقية كامب ديفيد في العام 1978، لتشكل امتحاناً قاسياً للقومية العربية، الذي كان فاتحة لنقاش داخل الأوساط الفكرية الإسلامية حول "الجدوى"منها. 

 

من الخِلافة إلى القومية العربية ... "الإسلام هو الحلّ"

رأى الإمام عبده أن الإسلام لا يمنع من التقدّم بل يحثّ عليه، وإنه لا يوجد تعارض بين التّحديث وبين المحافظة على الخصوصيّة الدينية

استطاعت كتابات أغلب المستشرقين أن تؤسّس للسيرورة التاريخية للاستعمار. وإذا كانت الغاية غير المُعلن عنها حينها هي الهيمنة الاقتصادية، فإن الغرب خاطب شعوبه باللّغة التي يفهمها، لتكون مسوّغاً منطقياً لوجود جنوده في أراضٍ غريبة. أي تلك اللغة التي احتكمت إلى قِيَم الحَدَاثة الأوروبية، حيث "الرقّي" مقابل "التوحّش"، و"التقدّم" و"العلم" مقابل "التخلّف" و"الغيبيات". لغة جعلت الاستعمار واجباً "إنسانياً"، لتحضير هؤلاء "الأغراب" غير المؤهّلين لحكم أنفسهم وربطهم بالحَدَاثة، ولو استلزم هذا الربط قتل ما يكفي من المعارضين.

قد لا يختلف واحدنا بأنه كان للاستعمار وجه إيجابي، حيث مثّلت تواريخ مُعيّنة ممهّدة له، صدمة دفعت ببعض العرب[1] ومنهم مسلمين كباراً إلى محاولة تلقّف منجزات الحَدَاثة الغربية، لكن انطلاقاً من مقولة إن الإسلام لا يمنع من التقدّم بل يحثّ عليه، وإنه لا يوجد تعارض بين التّحديث السياسي والاقتصادي وبين المحافظة على الخصوصيّة الدينية والثقافية (الإمام محمّد عبده [2]، رفاعة الطهطاوي وغيرهما).

 

 

 

 

ساطع الحصري، واحد من أهم المنظرين لفلسفة القومية العربية

لكن بالرغم مما حقّقه الاستعمار من صدمة إيجابية في بعض النواحي، إلا أن ثقله كان لا يزال رابضاً فوق صدور شعوب المنطقة العربية التي ينتمي جلّها إلى الإسلام. حيث مثّل الاستعمار بالنسبة إلى شرائح واسعة، الحقيقة القاطعة بانهيار آخر فصول التاريخ الإسلامي مع إرث المسلمين الطويل مع الخلافة.

كان لهذا الواقع أثر الصدمة على الكثيرين. وظل الوعي العام منقسماً بين ثلاثة أجنحة، جناح يسعى إلى استعادة الخلافة، وجناح يروم الغاية نفسها ولكن بشروط سياسية واجتماعية جديدة، أي دولة إسلامية ببنى حديثة، وهو ما عبّرت عنه حركة الإخوان المسلمين، وبين طرف ثالث قال بضرورة تكوين دول وطنية على قاعدة قوميّة جاءت في الأساس رداً على سياسة التتريك التي فرضت على المسلمين والمسيحيين الالتحاق بتركيا بوصفهم رعايا أتراكاً. 

 

 

لكن الغَلَبَة وقتها كانت للحركة القومية العربية، التي حاولت أن تقدّم نفسها بوصفها بديلاً، يحاول المواءمة بين الإسلام والعروبة، لكنه مفتوح بالدرجة الأولى على استيعاب التنوّع الديني والإثني (المسيحي خصوصاً)، وهذا كان يستلزم شكلاً جديداً من أنماط الدول التي لم يكن للعرب بها عهد من قبل. هكذا عبّدت القومية العربية الطريق أمام صعود أنظمة "علمانية" حاولت أن تستنسخ في جلّها العلمانية الفرنسية، التي تمتلك هي الأخرى خصوصيتها في أوروبا (كما هي الحال في تونس إبّان حكم بو رقِيبة وصولاً إلى بن علي). 

 

 

لم تتمكّن القومية العربية من أن تحصّل للمسلمين ما ضاع منهم. فلسطين.

وعلى الرغم من التقاطع بين الإسلام وبين القومية العربية في العديد من المُشتَركات التي يجسّدها الإسلام الثقافي وأولها اللغة، لم تتمكّن القومية العربية من أن تحصّل للمسلمين ما ضاع منهم. فهي لم تستطع، أن تثبت لهم عن مقدرتها في أن تكون بديلاً نهائياً من الخلافة، كما لم تستطع أيضاً استعادة ما خسره المسلمون في بداية عمر دولهم القُطرية، أي فلسطين. 

 

 

فالبديل عن الخلافة الإسلامية وقتها كان يعني فعلياً، تنامي الحضور السياسي والثقافي والاجتماعي للتيّارات اليسارية والاشتراكية في عالم مستقطب بين قوتين، ظلتا توسمان إسلامياً بأنهما شيوعية "مُلحدة"، وليبرالية "صليبية" لاحقاً. لقد نمت هذه التيّارات في مقابل ضمور حركات الإسلام السياسي تحت وطأة التعاطي الرسمي الأمني والعسكري (من اعتقال قياداتها وتعذيبهم وقتلهم وإقصائهم عن الحياة السياسية)، وبسبب التحاق الأنظمة العربية وأحزابها الواحدة، وإلحاق شعوبها "المسلمة" بهذا القطب أو ذاك.

ثم جاءت الضربة القاصمة في العام 1967، حيث هزيمة العرب أمام إسرائيل، (أو ما اصطلح على تسميته نكسة هروباً من الواقع آنذاك وتلاعباً بالوعي)، ليخسر العرب أجزاء أخرى من أراضيهم. 

 

خَلُص النقاش إلى أن خسائر الشعوب العربية إنما جاءت بسبب ابتعادها عن دينها، وقد طال هذا النقاش في ما طال وضعية المرأة العربية

لقد كان من شأن هذه الهزيمة أن تشكّل امتحاناً قاسياً للقومية، حيث أعادت إحياء النقاش الواسع وتحديداً داخل الأوساط الفكرية الإسلامية حول أسبابها، وذلك بالتضافر مع أزمات إقتصادية وسياسية كبرى، خَلُص فيها النقاش إلى أن الخسائر المتكرّرة للشعوب العربية "المُسلِمة" إنما جاءت بسبب ابتعادها عن دينها، ليعلو بعدها شعار "الإسلام هو الحل"، والذي اتّخذ منذ ثمانينات القرن الماضي شكل وصفة خلاصية لكل ما يتخبّط به العرب من أزمات. 

 

 

كفّر الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر

ولذلك فإن ما يُسمّى "الإسلام الأصولي الجهادي" الذي نشهد معاركه اليوم، لم يكن ابن ساعته. فقد سبقه ما يكفي من وقت لتبلور "الاجتهادات" الخاصّة داخل الجسم الواحد، الذي اجتمعت أطرافه الموسومة بالاعتدال على ثلاثة مشتركات:

أولاً: تحميل الأنظمة العربية مسؤولية "تغريب" المسلمين ودفعهم إلى أحضان الشيوعية "المُلحِدة"، وما استتبعه من تكفير زعامات عربية ومنها الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، ورميه بالكفر وبالتالي إهدار دمه.

ثانياً: ربط هزائم العرب وتفاقم أزماتهم مجتمعة بالعقاب الإلهي بسبب ارتمائهم في أحضان الشيوعية، والدعوة إلى طلب الرحمة لرفع هذا العقاب عبر العمل السريع لإعادة المجتمعات العربية إلى "إسلامها"، والذي لن يتم إلا بوجود دول رؤساؤها "مؤمنون" يفتحون المجالين الاجتماعي والسياسي للتيّارات والحركات الإسلامية لأن تعمل بحرية تامّة.

ثالثاً: التسليم بضرورة وجود قوّة تتزعّم المسلمين لتكون بديلاً موضوعياً من الخلافة المُنهارة، وهو ما أخذته المملكة العربية السعودية وإيران على عاتقيهما، كل في زمنه ووفق منطقه ورؤيته، من خلال تقديمهما الدعم المالي والفكري والسياسي لكل حركات الإسلام السياسي. 

 

 

لقد تبلورت "الاجتهادات" المذكورة أعلاه، في وقت وفّرت دول عربية وعلى رأسها مصر للحركات الإسلامية، هامشاً واسعاً من حرية التحرّك والتحشيد والأدلَجَة، قبل دخول المنطقة في عصر التحوّلات السياسية الكبرى، التي أعاقت قدرة بعض الأنظمة العربية على ضبط هذه الحركات. والمقصود هنا، معاهدة السلام التي عقدتها مصر مع إسرائيل في كامب ديفيد، والتي عنت لحركات الإسلام السياسي والمتعاطفين معها، وغير المتعاطفين داخل مصر وخارجها، دليلاً إضافياً على "غياب" الجدوى من الرابطة القوميّة.

لعل ما يذكره الكاتب المصري بلال فضل[3] في هذا الشأن، يُعيد التدليل على النتائج الكارثية لسياسة البطش التي مارستها بعض الأنظمة العربية، وبالأخص مصر الساداتية، من خلال الركون إلى تحالف واسع مع الحركات الإسلامية بغية ضرب الخصوم والتخلّص منهم، قبل إعلان الحرب الضروس على الحليف الجديد لاحقاً وتحوّل الرئيس "المؤمن" إلى آخر "كافر". والحديث عن مصر هنا، إنما يكتسب حيثيّته التاريخية والثقافية، استناداً إلى ما مثُلته مصر لعقود بالنسبة إلى العرب والمسلمين، من حاضنة للقومية العربية ورافع لرايتها.

 

ظل ينظر للولايات المتحدة بوصفها الامتداد التاريخي للاستعمار الأوروبي "الصليبي"

لقد مثّل كامب ديفيد سياسياً واجتماعياً وثقافياً، إعلاناً صريحاً عن تغيّر تاريخ المسار السياسي بين العرب وإسرائيل، حيث الانتقال من المواجهة ولغة التحرير إلى التفاوض والقبول بالأمر الواقع. بعد هذا التاريخ الذي لعبت فيه الولايات المتحدة دور الراعي للاحتلال الإسرائيلي في سياسته الاستيطانية وحاميته من المُساءلة الدولية على جرائمه، ظلّ ينظر إليها بوصفها الامتداد التاريخي للاستعمار الأوروبي "الصليبي". وإذا كانت السياسة الإسرائيلية، في بعض وجوهها، "قابلة" للهضم أوروبياً إنطلاقاً من أزمة الديمقراطية الأوروبية نفسها[4]، فإنها أميركياً كانت على درجة كبيرة من الصَلاَفَة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بعد هزيمة السوفيات في أفغانستان أجرت التيّارات الإسلامية "الجهادية" توليفاً متأخّراً وساذجاً حول إمكانية الاستفادة من واشنطن لمحاربة "الإلحاد" الشيوعي من دون تقديم أي مقابل

المراجعة السريعة التي أجرتها التيّارات الإسلامية "الجهادية" للعلاقة مع الولايات المتحدة، بعد انتهاء دور هذه التيّارات في هزيمة الروس في أفغانستان، خَلُصت إلى إجراء توليف متأخّر وساذج، من خلال الاعتقاد بإمكانية الاستفادة من واشنطن "الصليبية" لمحاربة "الإلحاد" الشيوعي من دون تقديم أي مقابل. لكن هذا الأمر لم يطل حين وضِعَت هذه التيّارات وعلى رأسها تنظيم القاعدة أمام الواقع القاسي، الذي تمثّل بدخول الأميركيين الواسع إلى "الأرض المقدّسة" في الخليج، بعد حرب الكويت.

 

 

 

يمكن القول إن هذا الواقع وقتها، أطلق العنان لتعود البُنية الفوقية عند غالبية التيّارات "الجهادية" الإسلامية إلى السَيَلان من جديد. والمقصود هنا، جملة الأفكار الثابتة التي أرستها القراءة الأحادية للقرآن والسيرة والتاريخ، فأسّست لنظرة واحدة إلى المسيحي باعتباره "صليبياً" (وما تفعله إسرائيل يغذّي هذه النظرة يومياً)، على حساب دفن البنية التحتية التي كانت تعني قبل الدخول الأميركي إلى الكويت، إمكانية عقد الصلات مع واشنطن "الصليبية" على قاعدة وحدة المصالح ضد العدوّ المشترك، أي الشيوعية. وعنى أيضاً، تكفيراً لأنظمة وسلطات وشعوب حمل بعضها مسؤولية الدخول الأميركي إلى المنطقة (العراق)، فيما حمل البعض الآخر ثمن القبول بهذا التواجد في أرض الحرمين (السعودية ودول الخليج عموماً)، بعدما كان بعضها، وأولها العربية السعودية، يُطلق على ملكها "أمير المسلمين".

 

هوامش الجزء الثاني

[1] الحملة الفرنسية على مصر (1798- 1801) وما أعقبها من توجّه تحديثي شرع به محمّد علي باشا ثم إبنه إبراهيم باشا.

 

[2] حول هذه المسائل يمكن مراجعة كتاب "الإسلام بين العلم والمدنيّة" للإمام محمّد عبده.

 

[3] يقول بلال فضل في واحد من سلسلة تحقيقات تحت عنوان (السادات وما أدراك ما السادات) إن "تحالف السادات مع "الإخوان" كان قد تمّ بمباركة من صديقه ورجل النظام القوي، عثمان أحمد عثمان، وبمساندة مالية من السعودية في عهد الملك فيصل، لكن كل ذلك التعاون توقّف بعد زيارة السادات إلى إسرائيل، والتي رفضتها مختلف تيّارات الشعارات الإسلامية، لتصل مواجهة السادات مع "الإخوان" إلى ذروتها في عام 1980، عقب مناظرة السادات مع المرشد العام للإخوان، عمر التلمساني، التي اشتهرت بمقولة التلمساني للسادات "إنني أشكوك إلى الله يا سيادة الرئيس"، لتبدأ الدولة في ضرب "الإخوان" ومحاصرتهم من جديد، من دون أن تدرك أن الأمر أصبح أكبر من الإخوان، وأن الأخطر على النظام هو الجماعات الإسلامية السريّة والمسلّحة، والتي كان النظام يظنّ أنه سيطر عليها عقب قضية الفنية العسكرية وقضية اغتيال الشيخ محمّد حسين الذهبي، لكنه لم يدرك أن الأمر أصبح أكبر من صالح سريّة وشكري مصطفى، قائدي تلك العمليتين، وأن الجماعات الإسلامية استغلّت جيداً مساحة الحركة التي تركها لها السادات في الجامعات والأحياء الشعبية والجمعيات الخيرية، واستفادت من ضربه أصحاب المشاريع المُعارضة لأفكارها، والتي كان يمكن أن تحجم من تأثير هذه الجماعات على الشارع، خصوصاً في الجامعات والعمل الخيري".

 

 

[4] يرى الفرنسي جاك رانسيير أن "الجريمة الحالية للديمقراطية الأوروبية" هي المطالبة بالسلام في الشرق الأوسط والحل السلمي بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ويُطلق هذا التوصيف على عملية السلام لأنه يعني في نهاية المطاف "دمار إسرائيل". فالديمقراطيات الأوروبية إنما "طرحت سلامها لحل المشكلة الإسرائيلية. لكن السلام الديمقراطي الأوروبي ليس سوى نتيجة إبادة اليهود"، فالبناء الديمقراطي الأوروبي أصبح برأي رانسيير ممكناً بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية لسبب وحيد هو أن "الأرض الأوروبية وبنجاح الإبادة النازيّة، قد تخلّصت من الشعب الذي شكّل وحده عقبة أمام تحقيق حلمها، وهو اليهود". رانسيير جاك، كراهية الديمقراطية، ترجمة أحمد حسّان، دار التنوير، 2012، ص 19 -20.