البغدادي.. "الأب" العادل؟

شكّل زعيم داعش أبو بكر البغدادي بالنسبة إلى الكثيرين، عودة إلى أبويّة دينية تاريخية راسخة في المخيال الاجتماعي العربي، الذي يختزن كماً هائلاً من رموز التضحية التي ارتفعت فوقها أمجاد التاريخ الإسلامي الأوّل الذي حدّد للمسلمين هويّتهم العتيدة. وعليه، فقد كانت عودة البغدادي "موضوعية" بنظر هؤلاء مع تضعضع النماذج الأبويّة الأخرى، وقد تم ذلك عبر النهل من المخيال الاجتماعي، الذي رسّخ في أذهان المسلمين نماذج أيقونية تاريخية من القضاء والحكم بالعدل والمساواة و"القوة"، التي استمدت شرعيتها من الله بوصفه العدالة المُطلَقة، والمتمثّلة في فترة الحكم الرشيد مع الخلفاء الأربعة.

البنى الداخلية للأبويّة بقيت متجذّرة ووجدت تعبيراتها في نموذج أبوي آخر هو الأبويّة الدينية

ناقشنا في الجزء الأول من ملف "داعش يلتهم غرباءه"، الخلفية الثقافية التي أسست لفعل القتل الذي مورس بحق العرب والمسلمين، لأكثر من قرنين، إضافة إلى تناول التعبيرات السياسية والاجتماعية لانهيار الخلافة الإسلامية.
ثم سلطنا الضوء في الجزء الثاني منه على التداعيات الثقافية والإجتماعية والسياسية لهذا الانهيار، وصولاً إل لى صعود الكيانات الوطنية تحت عباءة القومية العربية، قبل أن تأتي هزيمة العرب أمام إسرائيل، في العام 1967 ثم اتفاقية كامب ديفيد في العام 1978، لتشكل امتحاناً قاسياً للقومية، الذي كان فاتحة لنقاش داخل الأوساط الفكرية الإسلامية حول "الجدوى"منها. 
في الجزء الثالث والأخير من هذا الملف، نقاش في الاسباب التي دفعت بجزء من الشباب العربي إلى الثورة على النظام الأبوي البطريركي الذي يحكم الحياة العربية منذ قرون. لكن، بعض هؤلاء الشباب، في سيرورتهم الثورية، استبدلوا الأبوية التقليدية والمستحدثة، بناء على تصورات تاريخية ونفسية ودينية موهومة، بأبوية ذات طابع أصيل هي الأبوية الدينية. 

 

النظام الأبوي و"الربيع العربي"

عرفت المجتمعات العربية منذ نحو قرن أو أقل بقليل، نسخة مُعدّلة عن النظام الأبوي الذي يحكم العلاقات الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية العربية منذ مئات السنين. هذه النسخة المُعدّلة المُسمّاة "أبويّة مستحدثة" والتي كانت مدار بحث المفكّر الفلسطيني هشام شرابي، هي برأيه تشكّل أعرج وغير مستقر، مليء بالتناقضات والنزاعات الداخلية (سنبيّن هذا التناقض في سياق هذه القراءة).

لقد حكمت الذهنية الأبويّة مجالات السياسة والاجتماع والثقافة، وهي ذهنية تتّسم بالنزعة السلطوية التي ترفض النقد ولا تقبل بالحوار إلا اسلوباً لفرض سيطرتها، أي الحوار على قاعدة الغَلَبَة المُسبَقة لصاحب السلطة. لقد أسست الذهنية الأبويّة وكذلك الابويّة المُستحدَثة لقاعدة رمي الحُرم الاجتماعي على مساءلة رأس السلطة، سواء كان ملكاً أو رئيساً أو أميراً أو زعيم قبيلة أو عشيرة أو عائلة، وذلك لأن هذه الذهنية لا تستطيع أن تغيّر موقفها، وغالباً ما تفرض وجهة نظرها على الآخرين بالعنف والجبر.

 

 

كشفت إحصائية مصرية (عام 2006) عن وجود نحو مليون حالة زواج عرفي في مصر (أ ف ب)

يمكن القول إن الحراكات الشعبية في ما أُطلِق عليه "الربيع العربي"، كانت خطوة متقدّمة في مسار الثورة على الأب الأصغر. أي هيمنة ربّ العائلة أو زعيم العشيرة على قاعدة رابطة الدّم، بوصفه المركز الذي تنتظم حوله العائلة بنمطيها المدني والطبيعي.

لقد أخذت هذه الثورة على الأبويّة سيرورتها في المجتمعات العربية قبل "الربيع العربي" بسنوات طويلة. ويرجّح أن تكون التبدّلات الاقتصادية قد شكّلت دافعاً أساسياً لقرار فئة واسعة من الشباب والشابات، إلى الانقلاب على سلطة الأب وتحدّيها، وإن استلزم التخلّص منها وقتاً مديداً. وهنا، يمكن أن نبرز مثالاً ملموساً يتلخّص بنسب ما يُعرف بـالزواج العرفي في البلاد العربية.

آخر ما نُشر حول هذا الموضوع يُشير إلى أرقام مرتفعة وخاصة في صفوف الشباب، حيث كشفت إحصائية مصرية (عام 2006) عن وجود نحو مليون حالة زواج عرفي في مصر يفترض أنها في تصاعد مستمر. أما في تونس فبلغت نسبتهم بين من يحسبون على التيّار السلفي في الجامعات (80%) وبين المتعاطفين معهم (20%)، ولم تعف سوريا والسودان والأردن من هذا الزواج، رغم أننا لم نعثر على إحصاءات حوله فيها.

لقد أسّس الشعور بالإحباط العميق من النظام الاجتماعي المُدار أبويّاً، والمحكوم برؤيته الخاصة للحلال والحرام والمقبول والممنوع، إلى الاندفاع إلى السبل البديلة وغير المُكلِفة، والتي وجدها هؤلاء في الدين، ولم يجدوها في الدولة التي عجزت عن أن تؤمّن لهم ما يكفي من المقوّمات الاقتصادية ليستمروا في قبول أبويّتها عليهم.

من هنا، ومع توافر كل الأسباب الاقتصادية والاجتماعية التي تدعو إلى الخروج على الدولة والنظام، صار بالإمكان الخروج على الأبّ الأكبر والإعلان عن رفض طاعته أملاً ببديل يُرضي طموحاتها وحاجاتها. لكن بالرغم من هذا التحوّل الكبير، وأوله تحطّم حاجز الخوف من الأب (السلطان)، فإن البنى الداخلية للأبويّة بقيت متجذّرة ووجدت تعبيراتها الاجتماعية والسياسية في نموذج أبوي آخر. الأبويّة الدينية. 

 

 

إستيهام الأب العادل

شكّل البغدادي بالنسبة إلى الكثيرين عودة إلى أبويّة دينية تاريخية راسخة في المخيال الاجتماعي العربي

إذا كان التحاق المراهقين بداعش يؤشّر إلى مروحة واسعة من الأسباب النفسية، التي تختلف باختلاف البيئة الأُسرية والاجتماعية، فإنه بسبب من ثقل النظام الأبوي بأذرعه الواسعة الذي تكلّمنا عنه، ظل هذا الالتحاق محكوماً بالأبوية وإن بشروط وصِيَغ مختلفة. أي استيهام أبويّة دينية مقيمة في التاريخ، لتكون بديلاً عابراً من كل أنماط الأبويّات السائدة، بما فيها الأبوية الطبيعية والقبلية والعشائرية. لكن المفارقة أن "الأبويّة الجديدة" والمتمثّلة في الخلافة، قد انبنت على المخيال الاجتماعي[1] العربي المسلم نفسه، الذي يغذّي الحياة السياسية الإسلامية منذ أكثر من ألف عام.

لقد شكّل زعيم داعش أبو بكر البغدادي بالنسبة إلى الكثيرين ممن يتركون بلدانهم للانضمام إلى صفوف التنظيم، عودة إلى أبويّة دينية تاريخية راسخة في المخيال الاجتماعي العربي، الذي يختزن كماً هائلاً من رموز التضحية التي ارتفعت فوقها أمجاد التاريخ الإسلامي الأوّل الذي حدّد للمسلمين هويّتهم العتيدة. وعليه، فقد كانت عودة البغدادي "موضوعية" بنظر هؤلاء مع تضعضع، كي لا نقول السقوط الأخلاقي والاجتماعي والاقتصادي للنماذج الأبويّة الأخرى، وقد تم ذلك عبر النهل من المخيال الاجتماعي، الذي رسّخ في أذهان المسلمين نماذج أيقونية تاريخية من القضاء والحكم بالعدل والمساواة و"القوة"، التي استمدت شرعيتها من الله بوصفه العدالة المُطلَقة، والمتمثّلة في فترة الحكم الرشيد مع الخلفاء الأربعة. 

من هنا يمكن فهم القبول بالخلافة المتأخّرة للبغدادي، لأن "رحم الأمّة كان قابلاً للاحتفاظ بجنين الخلافة"[2]، عبر استيهام عدالته وقدرته على ممارسة الحكم الرشيد في ظل الله وبتسديد منه، وقد اكتسبت هذه الصورة مكانتها في مخيال أتباعه، من خلال التمسّك بتطبيق ما يُسمّى بالحدود الشرعية على السارق والقاتل والزاني، وفق الصيغة الحرفية المُقدّسة التي وردت فيها في النص القرآني، وليس وفق الصِيغ الوضعية. 

 

 

 

 

 

 

عودة الجماعة إلى "أصالتها"

يشرح الباحث المغربي محمّد عابد الجابري في سياق تحليله للصلة الوثيقة بين الناس وجماعاتهم عند العرب قائلاً: إن "الناس لا يكونوا مشدودين إلى مصالحهم المباشرة، بل إلى مرحلة سابقة من "تاريخ" الجماعة، المرحلة التي ترتبط بها الامتيازات أو الأمجاد أو التضحيات التي تشغل مخيال الجماعة والتي بها تتحدّد هويتها"[3].

لقد جاء الركون إلى "الصيغة الفُضلى" من أشكال الحكم وفق ما يعتقد به مناصرو وعناصر التنظيم، مسبوقاً بتمثّل داعش لنموذج الجماعة الدينية الأصيلة، التي يبدو أنها تمتلك من المشروعية[4] الدينية ما يكفي لتأخذ على عاتقها، ولو مبدئياً، إعادة وصل أطراف العالم الإسلامي الذي شرذمته سايكس - بيكو.

تُشير كل أدبيات التنظيم، المُستمدّة من أدبيات إسلامية سابقة، إلى ضرورة توحيد الأمة الإسلامية بوصفه معبراً وحيداً لاستعادة الخلافة[3]. وهذا له عظيم الأثر عند عناصر التنظيم الذي يرون أنفسهم اليوم، يُعيدون رأب تصدّعات مضارب الجماعة الدينية المُسلمة العابرة للقوميات والتي غالباً ما وصِفت بالبنيان المرصوص.

 

 

"لنترافق إلى الجنّة يا أخي"

"اقترب الأمير من الصحافي وقال له همساً كاشفاً عن ابتسامة مُخيفة "إن كنت تنشد الجنّة إليك الطريق"، مُضيفاً "لنترافق إلى الجنّة يا أخي، الحوريّات بانتظارنا وستكون الملائكة خدّامنا. سيكون لك قصر وحصان مجنّح تمتطيه مصنوع من الذهب والجواهر"". بهذه الكلمات حاول أمير "خليّة جهادية" في باريس أن يستقطب صحافي فرنسي إلى صفوف التنظيم.

دعوة "الأمير" للصحافي تحيل إلى سذاجة في مقاربة موضوعة الجنس. ذلك أن "الأمير" لم يأخذ بعين الاعتبار أن ما يعد به المواطن الفرنسي، لا يمكن أن يكون له الوقع نفسه على المسلمين المراهقين الآتين من المنطقة العربية، أو أولئك الذين يقعون تحت رقابة عائلية صارمة ومُضاعفة بسبب من عيشهم في الغرب. وذلك لاختلاف الضوابط الاجتماعية والدينية بين الثقافتين، والتي تحدّد سبل الوصول إلى الجنس، وحتى ضبط آلية ممارسته.

تعجّ الأدبيات الإسلامية بوعود أخروية تعمل على تحرير الجنس من مؤسّساته، إلى جعله فضاء رحباً مفتوحاً على كل أنواع الملذّات. هذا الجانب الذي يستخدمه داعش في جذب أتباع جدد لصفوفه، وخاصة فئة الشباب والمراهقين (جهاد النِكاح والسبي ثم الحور العين، وحكم التعامل مع السبايا شبه موحّد بين كل المذاهب الإسلامية)، يجد مرجعيته في الثقافة الإسلامية التي تقول بوجود بدائل مُغرية من الملذّات الدنيونية، وإن كانت أكثر الثقافات الدينية انفتاحاً على موضوعة الجنس الدنيوي.

 

تشير الكثير من الأبحاث إلى ارتفاع مستوى الكبت الجنسي في العالم العربي، ولذلك فإن الوعد بالحصول على اللذّة الحرّة، تمنح فكرة التضحية الجسدية زخمها ورمزيّتها. هكذا تضحى الحرب وقبول قساوة العيش في بيئات القتال، معبراً ضرورياً لكل أنواع النعيم غير الموجود في الدنيا، والتي من أجل الحصول عليها في الدنيا، يفترض خوض صنوف من الصعوبات يُفضّل بذلها في سبيل ما يفوقها متعة.

 

تقول أستاذة علم النفس الاجتماعي في الجامعة اللبنانية، الدكتورة رجاء مكي في حديث للميادين نت: إن "الجنس جزء من قدرة داعش على ترغيب الشباب والمراهقين لجذبهم إليه. لكن ما يفعله داعش في هذا الشأن ليس جديداً. فهذا النوع من الترغيب موجود والمرجعية الدينية تبرّره وتقوم بنشره. فهي تشرّع له الجنس بهذا الشكل عبر ما يُسمّى جهاد النكاح والسبي، وتعده بأضعاف هذا الجنس في الآخرة. المراهق يبحث عن لحظات نشوة لا تتأمّن له في بيئته".

 

العقلية التلقينية

يُعطي علم النفس الاجتماعي لظاهرة انضمام المراهقين والشباب إلى داعش، جزءاً بسيطاً للعامل الوراثي. أي الميل إلى الانتحار وممارسة العنف، ليعطي للتكوين التربوي الجزء الأكبر. وهذا يعني مَروَحَة من الأسئلة، منها، كيف تربّى هؤلاء؟ أين؟ ما هي ظروفهم وظروفهن؟

تُعيد الإجابات على هذه الأسئلة الدراسين إلى الحاضنة الأولى. التنشئة الاجتماعية. تلك البيئة بين المجتمع والمدرسة والعائلة والتي تتّسم بهويّتها التلقينية. ذلك أن المراهقين الذين يعيشون تشتتاً في الهويّة، يبقون ضحية البنية النفسية التي تأسّست على التلقين، فأحالتهم أشخاصاً تستبطن بناهم النفسية ما يكفي من الاستعداد النفسي لتأدية فروض الطاعة.

تقول مهى يحيى الباحثة الأولى في مركز كارنيغي للشرق الأوسط: إن من ضمن خمسة أسباب لانضمام الشباب إلى داعش، "فشل أنظمة التعليم العربية في تناول العديد من المثالب في العملية التربوية. فعوضاً عن غرس الوعي المدني ومبادئ المواطِنة وقِيَم التضامن الاجتماعي والقبول بالآخر والتركيز على المهارات التحليلية الضرورية والتفكير النقدي، اعتمدت مناهجها على الأساليب التلقينية لا التفاعلية، وعلى التقبّل غير النقدي لفكرة السلطة الهرمية من دون مساءلة". وهذا كان من نتائجه تعزيز "عقلية "نحن" في مواجهة "هم"".

وعليه، فإن هذه العقلية هي إحدى تجلّيات النظام الأبوي التربوي والديني في مقاربة موضوعة الاختلاف الحضاري، والتي بيّنا سابقاً دور المخيال الاجتماعي في تغذيتها. هذه العقلية الإقصائية كانت ذات نتائج كارثيّة، لأنها منحت الأبويّة سلطة معرفية مُتخيلة واحتكارية مارست من خلالها دورها التلقيني. هكذا تم احتكار التفسيرات الخاصة بالقِيَم الاجتماعية والتربوية والدينية، لتكون ذات طابع أحادي وغير قابلة للنقاش والمساءلة. لا بل أبعد من ذلك، احتكرت الأبويّة الدينية قراءة وتفسير التاريخ الإسلامي برمّته.

ولذلك يمكن القول إن أغلب عناصر التنظيم، ليسوا في حاجة ليكونوا على دِراية بالقوانين والدوافع التي تقودهم إلى القتال أو تنفيذ عمليات انتحارية، طالما أن هناك أباً دينياً أعلى (البغدادي)، يمتلك من المعرفة ما يكفي ليكون مرشدهم في الحياة الدنيا وطاعته سبيلاً إلى الجنّة[5].

الإثارة القاتلة

يتحدّث الكثير من القصص عن شبان وشابات تركوا عائلاتهم للانضمام إلى داعش. أميرة عباس، الأثيوبية إبنة ال 15 عاماً غادرت عائلتها وهي ورفيقتيها إلى سوريا عبر تركيا. الفتاة التي يبدو أنها كانت تعيش ما يكفي من أسباب الحياة اللائقة في بريطانيا، وتستمع إلى موسيقى الراب، تخلّت عن لبس الجينز لارتداء البرقع، ثم الزواج المحتوم بواحد من عناصر التنظيم.

ليست أميرة حالة بعينها. هي واحدة من عشرات الحالات التي قدمت من الغرب وبعض الدول العربية إلى "أرض الخلافة". قد يكون البحث عن الإثارة المنفلتة من عِقالها أحد أسباب هذه "الهجرة". القتل، ليس أقل حلقات تلك الحلقة الصاخبة جذباً. وإذ إن لهذه الإثارة متطلبات، فإن الثمن يجب أن يكون على قدِر ما سيتحقّق منها من متعة مُتخيّلة.

وفي هذا السياق، تقول رجاء مكي للميادين نت: إن "لدى المراهق توجّهاً ساديّاً بتعذيب الآخرين، الذين يرى أنهم عذّبوه. المراهق في هذه الحال يكون ضدّ القانون الموجود ويذهب إلى البحث عن قوانين جديدة، خاصة إذا كانت مرجعيته الجديدة (أي داعش) تشرّع له العدوان والقتل".

يدفع المراهقون، سواء انتموا إلى الإسلام أو كانوا غربيين، ثمن هذه المتعة المتحقّقة في أشكال جديدة من العيش. منظومة متكاملة تحدّد كيفية اللباس والطعام والزواج والجنس تكتسب حضورها في الخيال بوصفها حياة واقعية خارج ما كان يرى على الشاشات. البيئة القتالية والحياتية التي يستعرضها داعش، برغم مغرياتها الأخروية، فإنها عامل جذب إضافي لمن أراد التخلّي عما يعتقده من "رتابة" الحياة التي يعيشها. 

 

البحث عن هوية ناجزة في بيئة من الهويّات الحائرة

إضافة إلى ما سبق، فإن الحاجة إلى تثبيت هوية نفسية واجتماعية ودينية، سبب إضافي للالتحاق بداعش. المراهقون والمراهقات يعيشون بحكم سنّهم تشتّتاً طبيعياً في الهويّة، وهذا يدفعهم إلى البحث عن أسرع الطرق لامتلاك هويّة ناجزة.

الهويّات المضطربة في بلاد معولمة، جعلت التحدّث عن التمتّع بهويّة متمايزة أمر صعب للغاية. أميرة، تلك الفتاة التي تحدّثنا عنها آنفاً، والتي "صارت شديدة القرب من رفيقاتها المسلمات، وبدأت تستخدم لفظ "كافرات" لوصف صديقاتها المسيحيات"، تعطينا دليلاً إضافياً على محاولة تثبيت هويّتها، فكانت الهويّة الإسلامية الضاربة في التاريخ أقرب الهويّات وأسبقها إلى التمسّك.

 

 

وفي هذا الشأن يمكن الحديث تلك السرديات التي تقول بالاصطفاء الديني، والتي تؤدّي دوراً في الاعتقاد بمتانة الهويّة الدينية الإسلامية وضرورة التشبّث بها للفوز بالنعيم. حيث يمكن العثور على نماذج لهذا التصوّر في العديد من الأخبار التي تنبئنا عن إسلام فلان أو فلانة ممن يمتلكون شهرة واسعة أو حتى من عوام الناس. 

 

يُضاف إلى هذا، أن الكثير من المسلمين في الدول الغربية يواظبون على ممارسة طقوسهم الدينية في العلن، ليكون أسلوباً من أساليب تمسّكهم بهويّتهم الدينية والسعي الدائم إلى تثبيتها أمام "الغرب المسيحي". لكن هذه الهويّة التي يعتريها الشعور بالقلق من الذوبان في المجتمعات الغربية، استطاع داعش أن يحدّث المسلمين في الغرب عنها بلغة أكثر وضوحاً، فقال إن هذه الهويّة مُهدّدة بالضياع ولا يتم تثبيتها من خلال المظاهر فحسب، بل يجب أن تكون مقرونة بفعل القتال.

 

 

 

 

ولذلك فقد أصبحت "الشهادة" داخل الغرب وفي بلاد المسلمين الجواب التطبيقي لهذا الاعتقاد. فهي تشكّل المعبر الإلزامي لأتباع التنظيم، رغم اختلاف أعمارهم، إلى توكيد هويتهم الإسلامية بقوّة الدّم حتى داخل حواضرهم المسلمة. فضلاً عن الحملات الاعلامية والندوات المتواصلة التي تحاول أن تتخذ هيئة مناظرة بين الدينين الإسلامي والمسيحي. 

الدولة البصرية والموت النيّء

سمحت التكنولوجيا بمنح بعض عناصر التنظيم سِمَة أسطورية، مثل الجهادي البريطاني المسلم "جون"

لقد وفّر ما يُسمّى "الربيع العربي" الحريّة ليعمل تنظيم داعش داخل المجال الاجتماعي[6] العربي. لكن هذه الحركة ظلّت مقرونة بثورة الوسائط التكنولوجية، ما يقود إلى الاعتقاد بأن داعش منذ انطلاقته إلى الساعة، أجاد تثبيت حضوره ببناء دولته البصريّة، على حساب المنابر.

لم يكن لداعش منابره الخاصة إلا في المناطق التي احتلّها، لكن ثمة منابر أخرى سابقة عليه ومعاصرة له، أخذت على عاتقها التبشير بلوائح الخلافة.

ولذلك فإن سياسة التحشيد والأدلَجَة التي شرع بها التنظيم، إنما قامت على الصورة التي تكتسب رمزيّتها، من قدرتها على القول للجميع بأن "التاريخ" صار طوع اليد وهو يستعيد نفسه أمامهم، وما عليهم إلا أن يكونوا جزءاً مما يرونه.

يمكن القول إن الاستفادة القصوى من تكنولوجيا المعلومات، تحيل إلى حقيقة المقاربة المضطربة والمتناقضة لعصرين، حيث التزاوج بين متضادّين. بين ثقافة بدوية تظهر في منطق اللباس والسلوك والحياة والقتال والقتل (الذبح والسمل والسحل)، وبين تقنيات تستخدم لنقل هذا المنطق والتي تنتمي إلى العصر الحديث. هذا الاضطراب يجد جذره في تلك المواءمة بين الأبوية والأبوية المُستحدثة التي كان جلّ ما فعلته، هو تلقّف المنجزات التقنية من دون أي تغيير يُذكر في الفكر.

لقد سمحت التكنولوجيا بمنح بعض عناصر التنظيم سِمَة أسطورية، مثل الجهادي البريطاني المسلم "جون". هذه الأسطرة كانت عاملاً إضافياً لجذب أكبر عدد ممكن من الشباب والمراهقين، الذين يسعون إلى الحصول على مظهر من مظاهر البطولة الخارقة، بالرغم من أنهم يضمون شرائح من المُبدعين والأذكياء.

 

 

 

"سيلفي" لمراسلة تلفزيونية سورية أمام قتلى للمسلحين، وهذا مثال عن السقطات الإعلامية المُكلفة في سياق الحرب ضد داعش

ليس من الإجحاف القول إن عملية التحشيد التي يسلكها التنظيم من خلال الإعلام المرئي، يقابله ضعف على الجهة التي تعمل على مواجهته. ولا يكفي هنا إقفال حسابات على تويتر وفيسبوك، أو حذف محطّات للتنظيم على موقع يوتيوب، بل التعامل بعناية مع الصورة التي يتم نقلها إلى العالم. وهنا، يمكن إيراد مثال بسيط عن السقطات الإعلامية المُكلفة في سياق الحرب ضد داعش. حيث التقطت مراسلة إحدى القنوات السورية صورة "سيلفي" أمام قتلى من المعارضة السورية المسلّحة، والتي يكفي القول إن هذه الصورة من دون أي عناء يُذكر، ستكون مادة دسمة للتنظيم ليقوم بمزيد من التحشيد.

 

خلاصة

في خلاصة لكل ما سبق يمكن القول إن داعش هو إبن المخيال الاجتماعي العربي. فالتنظيم خاطب المسلمين حول العناصر التي يشتركون فيها. أي تلك الأمجاد الضائعة التي حمّلت مسؤوليتها إلى الغرب، ثم الأنظمة العربية بعد سايكس بيكو وصولاً إلى "الربيع العربي". عناصر التنظيم هنا، وبرغم كل ما يمكن الحديث عنه حول اختلاف الأعمار والبيئات الاجتماعية والدوافع النفسية بينهم، فإنهم جميعاً، في الوطن العربي وفي الغرب، ليسوا في حالة انفصام مع التاريخ، بل في صلبه. حيث الجماعة مقابل المواطنية، والأبويّة مقابل التطوير السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ما يفعله عناصر التنظيم اليوم يتلخّص في مسعى إلى انتشال "التاريخ" من قعره، في حين أن هذا التاريخ إذ يزخر بصفحات أخرى، فقد منح عناصر التنظيم هيئة الغرباء. لكن، على أي حال، "التاريخ، قطعاً، لا يقول لك وداعاً. بل يقول لك، أراك لاحقاً"، على ما يقول الروائي ادواردو غاليانو. 

 

 

هوامش الجزء الأخير

[1] المِخيال الاجتماعي نشاط يحمل معنى يشدّ الفاعلين الاجتماعيين فينظّمون سلوكهم على أساسه. كل مجتمع ينشىء لنفسه مجموعة منظمّة من التصوّرات هي عبارة مخاييل، ليّعيد إنتاج نفسه. ودور المِخيال الاجتماعي هو جعل الجماعة تتعرّف إلى نفسها من خلاله، ويعبّر عن الأهداف المنشودة". الجابري محمّد عابد، العقل السياسي العربي، محدّداته وتجلياته، مركز دراسات الوحدة العربية، ص 34.
[2] بن محمّد عبد الله، المذكّرة الاستراتيجية، ص 29. 
[3] الجابري محمّد عابد، العقل السياسي العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، 1992، ص 29.
[4] هذه المشروعيّة التي يتمتّع بها داعش عند جزء من المسلمين، سبقته إليها أحزاب إسلامية أخرى للغاية نفسها. ومنها حزب التحرير الذي تأسّس في القدس عام 1953، والذي يُطلق على البلدان العربية بحدودها بعد سايكس بيكو صفة الولايات، وقد ضمت "ولاية لبنان" مثلاً الكثير من السنّة والشيعة.
[5] في الفصل المعنون "قرب انهيار النظام العالمي وتفكّك سايكس – بيكو"، من كتاب المذكّرة الاستراتيجية، ص 21، يقول أحد منظّري تنظيم القاعدة، عبد الله بن محمّد " منذ العام 1923 وهو تاريخ توقيع اتفاقية لوزان بين أتاتورك والانكليز والتي كان من أهم بنودها إلغاء الخلافة الإسلامية، بقي المسلمون منذ ذلك التاريخ بلا رأس يقودهم وبلا كيان يجمعهم ... ولم تنجح حتى يومنا أية محاولة في إرجاع وإعادة هويّة المسلمين المتمثّلة في الخلافة الإسلامية، وهذا الفشل يعود إلى طبيعة عمل (منظومة الأنظمة الراعية والعميلة)".
[5] بيّنت وثائق مسرّبة من داعش أن 5% من عناصر التنظيم هم على دراية بــ "الشريعة الإسلامية"، مقابل 70% غير مُلمّين بها.

 

http://bit.ly/1MNgdEE
[6] يقول محمّد بن عبد الله في المذكرة الاستراتيجية ص 34، إن القاعدة وأخواتها ستتمتّع "بمساحة من الحريّة الإعلامية التي خلّفتها الثورات العربية (... )التي يمكن من خلالها خلق حالة من القبول الفكري (...) أو أن نجعل مشروع الخلافة الإسلامية قضية مطروحة عند رجل الشارع العادي إذا ما أراد مناقشة الحلول للأوضاع من حوله".