"المشي" كفلسفة ترفد المقاومة
تنضج فعاليات المسيرات في المناسبات الوطنية الفلسطينية الكبرى، والمسارات الدائمة لمجموعات عريضة في المجتمع الفلسطيني بهدف التعرف بفلسطين، والتعريف بما هو مجهول فيها، وباتت توضع للمسارات والمسيرات رؤى تحفز مفاهيم العودة، وترفد المقاومة بالزخم.
"المشي" هو موضوع الندوة الرقمية الثانية من ضمن سلسلة ندوات حول التربية الراديكالية في فلسطين، تقيمها "مؤسسة الدراسات الفلسطينية"، بالتشارك و"الملتقى التربوي العربي".
تناولت الندوة مسألة "المشي" كتجربة، ومنهجية ترفد المقاومة، وأدارتها مديرة "الملتقى التربوي العربي" سيرين حليلة، معلنة تسليط الضوء على ثلاث تجارب، من قطاع غزة، ثم حيفا، فالقدس.
أحمد أبو أرتيمة من غزة، ناشط حقوقي، ومبادر لتنظيم المسيرات في غزة منذ 2011، تناول مسيرات العودة الكبرى، التي رأى أنها تأتي "في سياق المقاومة لا في السياق الكولونيالي الاستعماري، الذي يهدف إلى شطب الوجود الفلسطيني”.
مسيرة العودة حدثت في أوج حديث إدارة ترامب عن شطب حق اللاجئين، وتهجير السكان الفلسطينيين باتجاه الجنوب، وبنظر أبو أرتيمة، أن "المسيرة تمت باتجاه الشمال المعاكس، أي اتجاه العودة، وليس التهجير".
المسيرة حدثت أيضاً في ظل توق شبابي، وشعبي عام، للمشاركة في أي عمل يكرس الهوية، "بعد 70 عاماً من إخراجنا عنوة من ديارنا، والآن نريد اتباع نفس الطريق، لكن بشكلٍ معاكس. أي أن نشكّل عودة جماعية"، كما قال.
مسيرة العودة أظهرت صورة الشعب من نساء وأطفال وعجائز في الـ ٧٥ من العمر، كلهم حمية للعودة والوصول إلى بلدهم.
الزخم تأكيد على قناعة الفلسطيني بحقه
وثمّن أبو أرتيمة مشاركة الشباب لأن "قطاع غزة كان في حالة جمود لـ 15 عاماً خلت"، أي منذ انسحاب الاحتلال من غزة، كما أن هذا الجيل بنظره "لم يتح له المجال للاشتباك المباشر مع الاحتلال، كما كان جيل الانتفاضتين الأولى، والثانية، وما قبل".
خلال مسيرة العودة، عايش المشاركون حالة تفاعل وارتياح مع الطبيعة، يقول أبو أرتيمة: "معركتنا مع الاحتلال معركة هوية، وبوجودنا هنا، ولو للجلوس فقط، هو فعل من أفعال المقاومة”.
زخم المسيرة بنظر أبو أرتيمة، جاء في "ظل غطرسة (الرئيس الأميركي دونالد) ترامب، وتصاريحه بشطب حق اللاجئين، فشعر الفلسطينيون بتحدٍ وطني، إضافة للضغط المعيشي الكبير على القطاع، فكانت الزخم تأكيداً على قناعة الفلسطيني بحقه، وانتصار إرادة الحياة على عوامل اليأس”.
هنالك علاقة واضحة بين تقييد التجوال والحركة
التجربة الثانية من حيفا مع هزار حجازي، تعمل في مجال العلاج النفسي، وشريكة لحركة "فلسطينيات" من أجل حراك وطني ومدني. تحدثت عن مسيرات العودة، ومسارات التجوال كنموذج للحركة في الفكر والتجارب النفسية، والعاطفية، وتحدثت عن ذكريات الطفولة في مسقط رأسها عكا، وعن التهجير، والمتغيرات. وقالت: "عندما كبرت، تساءلت عن الحقيقة، وعرفت أن أبناء الجيل الثالث للنكبة، ليسوا أقل شعورا من الكبار بالفقدان، وألم الاقتلاع، والغربة عن بلدهم".
في البحث عن أسباب الشعور بالغربة، تقول حجازي: "وجدت أن هنالك علاقة واضحة بين تقييد التجوال والحركة.. هذه التقييدات تلت ممارسات أحداث النكبة، وكان لها الأثر الكبير في تغذية الشعور بالخوف، والحسرة، والانكسار”.
وأشارت إلى قانون منع التسلل عام ١٩٥٤ الذي فرضه الكنيست الإسرائيلي لمنع الفلسطينيين من العودة إلى بيوتهم، فالقانون، بنظرها، "دلالة ورسالة ثقافية بأن الانسان الفلسطيني متسلل، أي تنزع الشرعية عن وجوده، فبالتالي منع التجوال أثر على الناس فخافوا أن يتجولوا، ويرجعوا، ويدفعوا أثمانا أكبر".
القضية الثانية بعد النكبة، بحسب حجازي، هي "الحكم العسكري الذي تم فرضه على أهلنا المتبقين داخل الوطن ما بين عام 1948-1966، حيث قام الاحتلال بهدم مئات من البلدات والقرى، وتحويل البيوت لملكية الصندوق الاسرائيلي، ومحاولة فرض شرعيتهم على هذه الأرض".
وبعد نهاية الحكم العسكري، قالت حجازي إنه "كان علينا أن نخرج لفقد بيوتنا، وأرضنا، ونعرف تاريخ الأمكنة، هذه المرحلة بدأت في السنوات الأخيرة، وكان الدور الفاعل فيها لأبناء الجيل الثالث للنكبة، فبدأوا يتحركون بحثا عن فضاء آمن وحيوي، ليحرروا أنفسهم من الآثار الاجتماعية للنكبة، والشعور العام بالغربة، فبدأوا بالتجوال بمواجهة منع التجوال”.
تعلّم خارطة فلسطين كلعبة الـ"Puzzle"
التجربة الثالثة من القدس مع سامر الشريف: ناشط في مبادرة "تجوال سفر"، تحدث عن ذاكرته في المدارس في القدس، حيث كانت الكتب تستعرض ما لا يستطيعون معايشته.
وقال: بدأنا في مجموعة "تجوال سفر" بهدف التعلم، ومعرفة وطننا، والتعلم من مناطقه، ومنها تعلم خارطة فلسطين كلعبة ال"Puzzle"، ومع كل عملية تجوال تتركب قطعة من الخارطة حتى تكتمل الصورة”.
أضاف: "(في المسارات)، تعلمنا اللهجات الفلسطينية، التي لا يمكن تعلمها من الكتب، وعادات وتاريخ فلسطين من القدماء، والفلاحين مما يعرف بالمعرفة الشعبية، وتاريخنا السابق من منظور وقائعي، ما يساعدنا في التفكير أين نتدخل كشباب فلسطين، وهذا يتطابق مع مقولة: "تعرف إلى فلسطين مشيا على الأقدام”.
إعادة الصلة بيننا وبين الأرض
قدم الشريف أمثلة ونماذج عملانية من خلال عمليات المشي، فالتعلم تم عبر ما عايشوه، وليس عبر ما قرأوه في الكتب، وعدد نقاط توجه مبادرته، ومنها "التجوال مقابل منع التجوال"، و"السفر كتجوال وليس سياحة”، زيارات هادفة لمعرفة الناس، وليس سياحة الفنادق والمال. و"التكافل مقابل التمويل” حيث يغطي المشاركون نفقات التجوال.
ثمّة نقطة أخيرة ركّز عليها، وهي "إعادة الصلة بيننا وبين الأرض"، تحت شعار "تجوّل في الأرض تمتلكها".
يختصر الشريف الموقف ختاماً بالقول: "إنما هذه الأسفار كلها قناطر، وجسور نعبر عليها إلى ذواتنا وأنفسنا".