هكذا بدم بارد.. تم تهجير عرب الصبيح وناصر الدين
دخول الصهاينة بمستوطناتهم إلى فلسطين ضرب التعايش الذي كان قائما في مناطق عرب الصبيح وناصر الدين، حيث ارتكبت المجازر بدم بارد بحق السكان. يروي المحامي جهاد أبو ريا من ناشطي فلسطين في إطار العودة قصة العشيرتين، وتهجيرهما عبر المجازر التي ارتكبت بحق سكانهما.
قبل سنوات طويلة دعتنا صديقة إلى الانضمام لجولة في "غابة بيت كيشت"، هكذا قالت اسمها. كان ذلك بداية فصل الربيع. حدثتنا أن هذه المنطقة هي جنة الله على الأرض، وأننا سنشاهد أنواعا فريدة من الأزهار، والورود خص الله بها هذه المنطقة، وسط وديان جارية. لم يخب ظننا. لقد بدت الغابة بأزهارها، وهضابها، ووديانها أجمل بكثير مما وصفته لنا صديقتنا. جمال الطبيعة، وزقزقة العصافير، وخرير المياه لا يشي بما حدث بهذا المكان قبل نحو سبعين عاما.
على بعد خمسة عشر كيلومترا، إلى الشرق من "الغابة"، تقع مدينة طبرية. مدينة تاريخية تلامس بيوتها القديمة البحيرة الجميلة، يسكن فيها منذ مئات السنين، وقبل الهجرة الصهيونية، بأعداد متساوية تقريبا، يهودا عربا وفلسطينيين عربا، وكانت تربطهم علاقات طيبة، يتزاورون في الأفراح، والأتراح، ويتساعدون في الحياة اليومية. من بين العائلات العربية التي كانت تسكن المدينة عائلة الطبري.
عائلة الطبري هي من العائلات النافذة، والمثقفة، والغنية في طبرية. شغل أبناؤها المناصب العالية، والمرموقة في المدينة، فمنهم من شغل منصب القاضي، والمفتي، ورئيس البلدية، ومنهم الطبيب، والمحامي، والمعلم، وقد اشتهرت هذه العائلة بكرمها وعطائها، وتعدى نفوذها، وتأثيرها طبرية المدينة ليصل إلى منطقة الجليل بأكملها. كانت عائلة الطبري تمتلك الأراضي الشاسعة في المناطق القريبة من طبرية، من ضمن أملاكها آلاف الدونمات في منطقة ناصر الدين الواقعة إلى الجنوب الغربي من طبرية.
شغل سعيد محمد الطبري منصب رئيس بلدية طبرية بين الاعوام 1900 حتى 1908، وكان قائدا، وزعيما اشتهر بحنكته، وعطائه، وصدقه، وكرمه. وقد وصفه تقرير للهاغاناه من عام 1941: "من الأعيان المشهورين في كامل قضاء طبرية، والقسم الشمالي من فلسطين، وهو مشهور بثروته الطائلة، وحكمته، وضيافته العظيمة التي يقدمها لكل شخص."
تزوج سعيد محمد الطبري من أربع نساء، وكان له منهن ثمانية صبيان، وعدد من البنات. زوجته الثانية كانت من عشيرة عرب الصبيح البدوية، والتي أنجبت له ولدين، نايف الذي ورث القيادة، والزعامة من والده، وأطلق عليه لقب الشيخ نايف، أو شيخ الشباب، وشقيقه فايز الذي درس المحاماة، وعمل محاميا محترفا في طبرية، وشغل أيضا منصب عضو البلدية لعدة أعوام.
من بين أخوة الشيخ نايف غير الأشقاء كان طاهر الطبري الذي تلقى تعليمه في القاهرة، واسطنبول، وشغل منصب المفتي والقاضي. وقد وصف تقرير للمخابرات الشيخ نايف بأنه "شيخ العرب في قضاء طبرية.... ونفوذه بارز في صفوف البدو، وله اليد الطولى في نشاطات المنطقة كافة، وهو الحكم في كل الشجارات، والصراعات، والخلافات، وهو صاحب الكلمة الفصل، وأحيانا كان يهدد باستعمال القوة إن لم ينفذ حكمه. وهو ما جعل السكان العرب في طبرية يسلمون بحكمه بلا مساءلة."
تتكون عشيرة عرب الصبيح من سبع فند: الظهرات، والمقطرن، والنجيدات، والشبلي، والسنيدات، والشديدة، والشكور، وقد امتدت مضارب عشيرة عرب الصبيح من الناصرة وعين ماهل غربا حتى كفر كما شرقا، ومن قرية الشجرة شمالا، حتى دبورية جنوبا. سكن اهالي عشيرة الصبيح في منطقة هامة وإستراتيجية، على أراضي، ومضارب عشيرة الصبيح أطلق الصهاينة لاحقا اسم " غابة بيت كيشت".
اشتهرت عشيرة الصبيح، منذ مئات السنين، بقوتها، وجرأتها، ونفوذها، فكانت تجبي الضرائب للسلطان العثماني من سكان المنطقة، وتتقاسمها معه. أقام أهالي عشيرة الصبيح، قبل النكبة، بيوتا حجرية في أراضيهم، واستقروا بها. وقد ربطت العشيرة علاقات طيبة مع البلدات المجاورة مثل لوبية، والشجرة، ودبورية، وطرعان، وحطين، وكفر كنا، وكانت كلمتها مسموعة بين شيوخ، وزعامات المنطقة. من بين شيوخ عشيرة الصبيح كان الشيخ عقيلة النمر، ومن بعده ابنه الشيخ علي النمر.
وطد زواج سعيد محمد الطبري من ابنة عشيرة الصبيح العلاقة بين عائلة الطبري، وعشيرة الصبيح، وزاد من هيبتهما، وتأثيرهما على المنطقة، وكان الشيخ نايف الطبري بشكل خاص، على علاقة وطيدة مع أخواله.
تقع خربة ناصر الدين الى الجنوب الغربي من طبريا، وهي قائمة على أراضي عائلة الطبري. كان أهالي خربة ناصر الدين يعملون في أراضي عائلة الطبري، يزرعونها، ويفلحونها، ويتقاسمون خيراتها، وكان عدد سكان خربة ناصر الدين قبيل النكبة مئة وأربعين نسمة تقريبا.
عليا النمر، وغزالة النمر هما أخوات الشيخ علي النمر، والأحب إلى قلبه، وكانتا تسكنان، كل واحدة منهما، مع زوجها وأولادها، في بيوتهن القريبة من بيت أخيهما الشيخ علي النمر.
تجاور قرية "الشجرة" من الناحية الشمالية مضارب، وأراضي عشيرة الصبيح، وربطت بينهما علاقات طيبة. بجانب قرية "الشجرة" أقام الصهاينة عام 1899 مستعمرة جديدة وأطلقوا عليها اسم "مستعمرة سجرة"، لاحقا قاموا بتغيير اسمها إلى "ايلانيا"، والتي تعني بالعربية "الشجرة". في البداية لم يعتد، ولم يضايق سكان مستعمرة "سجرة" جيرانهم، ولكن رويدا رويدا، ومع اشتداد عودهم، وإقامة عصابة " هشومر" سيئة الصيت، والتي تعني بالعربية " الحارس"، بدأوا بالاعتداء على جيرانهم، ومضايقتهم.
عام 1944، وعلى الأطراف الجنوبية لأراضي عشيرة عرب الصبيح، أقام الصهاينة مستعمرة أخرى أطلقوا عليها " مستعمرة "بيت كيشت"، بمبادرة لأعضاء في عصابة "البالماح" المشهورة ببطشها، وإرهابها، من بينهم كان ايلي بن تسفي، ابن يتسحاق بن تسفي الذي شغل لاحقا منصب رئيس دولة اسرائيل.
بعد إقامة مستعمرة "بيت كيشت"، ازدادت اعتداءات العصابات الصهيونية على أهالي عشيرة عرب الصبيح، والمنطقة، وقام أعضاء العصابات بإتلاف مزروعات عرب الصبيح، وقتل ومصادرة حلالهم من ماعز، وأغنام، وأبقار، بادعاء أنها تدخل أراضي المستعمرة، وكان هدفهم إرهاب عشيرة عرب الصبيح، وتهجير اهلها للسيطرة على أراضيهم. تصدى أهالي عشيرة الصبيح ببسالة لهذه الاعتداءات، وكان على رأسهم علي النمر.
قبيل النكبة، تميزت مدينة طبرية عن غيرها من المدن الفلسطينية بالهدوء نتيجة لتركيبتها السكانية، وقد تعهدت قيادات الطرفين من الفلسطينيين: عربا، ويهودا بالحفاظ على بعضهما البعض. وكان الشيخ نايف الطبري من القيادات العربية الأبرز في المحافظة على الهدوء بالرغم من اعتداءات عصابة "الهاغاناه" على السكان العرب، ومع احتدام هجمات عصابة "الهاغانا" على السكان العرب في طبريا، انتقلت زوجة الشيخ نايف مع أولادها الى خربة ناصر الدين ظنا منها أن المكان آمن، وبعيد عن الاعتداءات.
ازدادت الاعتداءات المسلحة على السكان العرب في طبرية لحملهم على ترك المدينة، ولم يسعفهم الهدوء الذي أبدوه قبيل النكبة، ولم تسعفهم الاتفاقيات مع جيرانهم اليهود، والتاريخ الطويل من الحياة المشتركة. فقام الشيخ نايف الطبري بطلب النجدة من المجاهدين في المناطق القريبة، ووصلت هذا الأنباء إلى خربة ناصر الدين.
بعد سلسلة هجمات قامت بها عصابة "البالماح" في المنطقة، ومنها الهجوم على "كفر كنا" يوم 7\2\1948، وعلى قرية "عين ماهل" يوم 11\3\1948، توقع أهالي قرية عرب الصبيح أن الهجوم القادم سيكون عليهم، فتهيأوا وتجهزوا لذلك. وبتاريخ 16\3\1948 خرجت قوات "البالماح" لمهاجمة عرب الصبيح، إلا ان يقظة المجاهدين بقيادة الشيخ علي النمر كانت لهم بالمرصاد، فانتصر عليهم المجاهدون، وأوقعوا بهم عددا كبيرا من القتلى، والجرحى، وكان من بينهم قائد الهجوم ايلي بن تسفي. محاولات "البالماح" لاستعادة جثامين قتلاهم من ارض المعركة لم تنجح، بل زادت من عدد قتلاهم وجرحاهم. كانت تلك هزيمة نكراء، وإهانة كبيرة للبالماح، والتي بدأت مباشرة بتجهيزاتها للانتقام.
في مساء 11\4\1948، خرجت قوات من عصابة "الهاغانا" من مستعمرة "بوريا" مدججة بالسلاح باتجاه خربة ناصر الدين. الأوامر التي تلقتها كانت تقضي بقتل سكان خربة ناصر الدين، وخربة قدوم المجاورة، وطرد، وتهجير من يبقى منهم احياء، ليكونوا عبرة لسكان المنطقة، ولبث الرعب، والخوف بينهم. كان أعضاء العصابات يتخفون بزي ولباس عربي، ومع اقترابهم من خربة ناصر الدين ظن السكان أن القادمين هم من قوات النجدة المتوجهة الى طبرية، من قوات المجاهد أبو إبراهيم المتواجدة في "كفر كنا" أو من قوات الضابط ماكس الألماني المتواجدة في "عين ماهل"، فتجمع أهالي خربة ناصر الدين وسط البلدة لاستقبالهم، ومع وصول قوات الهاغانا" بالقرب من السكان حتى بدأوا بإطلاق النار بدم بارد على السكان، وأردوا منهم ١٩ قتيلا.
وبعد ذلك مباشرة قامت قوات الهاغانا" بإضرام النار ببيوت خربة ناصر الدين، فحرقوا البيوت على من فيها أحياء، وسط صراخ الأطفال والنساء والشيوخ التي كانت تعلو من بين الحريق. كان عدد قتلى مجزرة ناصر الدين حوالي سبعين شهيدا، أما الباقين ، ومن بينهم زوجة وأولاد الشيخ نايف الطبري، فقد تم طردهم، وتهجيرهم.
بتاريخ 6\5\1948، فاجأت قوات "البالماح" قرية عرب الصبيح بقوات كبيرة مدججة بالسلاح. كانت التعليمات التي تلقوها الانتقام من أهالي عرب الصبيح، وخاصة علي النمر وأقربائه، فقاموا بإعدام الأطفال، والنساء، والشيوخ بدم بارد، ومن ضمنهم أخوات علي النمر: عليا وغزالة وأطفالهما الخمسة، وأصيب علي النمر بذراعه.
هجر الشيخ نايف وعائلته إلى الأردن، وهجر الشيخ علي النمر وعائلته إلى سوريا، ومن هناك انتقل إلى الأردن، ليستمر في مقاومته داخل الأراضي المحتلة حتى استشهد بتاريخ 4/12/1971 خلال إحدى العمليات بالقرب من عيلبون.